دامات مصر: فليخسأ كافكا!
صبحي حديدي
May 23, 2015
وحدها نيجيريا سبقت مصر في إصدار أحكام الإعدام (659، مقابل 509)، خلال العام 2014؛ و»التحالف الدولي ضدّ عقوبة الإعدام»، الذي اعتاد إحياء يوم عالمي لمناهضة هذه العقوبة، كفّ عن تدوين إحصائيات أرض الكنانة، لأنّ الوقائع الكافكاوية تجاوزت كلّ مخيّلة؛ كأن تستأنف محكمة مصرية أحكاماً بإعدام ستة اشخاص، بعد أن يكونوا قد أعدموا فعلاً!
بيد أنّ العاقبة لا تنتهي عند هذا المستوى، إذْ يرفع أنصار عبد الفتاح السيسي عقيرتهم، عالياً بغضب، ضدّ «التدخل الخارجي الوقح» في شؤون القضاء المصري، «المستقل» و»النزيه» و»السيادي»؛ وكأن مبدأ الاستتار من بلوى المعاصي ليس سنّة حميدة. أو كأنّ تلك المحكمة الثانية التي استأنفت أحكام الإعدام لا تتمتع بذات «الاستقلالية» و»النزاهة» و»السيادة» التي تمتعت بها تلك المحكمة الأولى التي أصدرت الأحكام.
للمرء، هنا، أن يستعيد ذلك الاقتباس البليغ من الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو، في مقالته الشهيرة «تأملات حول المقصلة: المقاومة، العصيان، والموت»، 1966:»عقوبة الإعدام تقوّض حسّ التضامن الإنساني الوحيد غير القابل للنقاش، أيّ التضامن ضدّ الموت، ولا يمكن أن تُشَرْعِن تلك العقوبة إلا حقيقةٌ مطلقة أو مبدأ أعلى واقعان ما فوق الإنسان». وأيضاً: «تنفيذ حكم الإعدام ليس مجرّد موت. إنه يختلف عن القضاء على الحياة، كاختلاف معسكر الاعتقال عن السجن. إنه يضيف إلى الموت قاعدة، وإصراراً مسبقاً علنياً برسم الضحايا القادمين، وتنظيماً يشكّل في حدّ ذاته عذاباً معنوياً أشدّ رهبة من الموت. عقوبة الإعدام هي الجرم الأشدّ ارتكاباً عن سابق عمد وتصميم بين كلّ الجرائم، ولا يُقارن بها أيّ فعل إجرامي مهما كان محسوباً. ذلك لأنه كي تصحّ المقارنة، ينبغي على عقوبة الإعدام أن تُنزل بمجرم أعلم ضحيّته مسبقاً بموعد موتها الرهيب على يديه، وتركها منذ تلك اللحظة تحت رحمة شهور طويلة من عذاب الانتظار. مثل هذا الوحش لا نصادفه في الحياة اليومية».
ولعلّ من واجب الديمقراطيّ العربيّ (خصوصاً ذاك الذي يعيش تحت وطأة نظام استبدادي دكتاتوري مقيت، ويناضل لإسقاطه وتغييره)، أن يناهض عقوبة الإعدام أينما فُرضت، وأياً كانت الجهة التي تنزلها، وبصرف النظر عن أسباب إصدارها. وبهذا المعنى فإنّ واجب الديمقراطي العربيّ، المتطلّع إلى غد أفضل لأبناء وطنه وللإنسانية جمعاء، أن يكون موقفه صريحاً في رفض عقوبة الإعدام، لاعتبارات أخلاقية وحقوقية وفلسفية، من جهة أولى؛ وأخرى تخصّ موقع الإنسان في النظام الديمقراطي، بصرف النظر عن طبيعة التناسب المطلوبة بين ضخامة الجريمة وشدّة العقاب، من جهة ثانية؛ ولأنّ النظام الديمقراطي لا يستبدل بربرية الطغيان بأخرى تظلّ بربرية حتى بعد إخضاعها لعمليات «دمقرطة» ما، من جهة ثالثة.
وثمة جانب آخر في مسألة عقوبة الإعدام، لا يخصّ الأنظمة الاستبدادية أو الشمولية أو الفاشية على اختلاف طبائعها؛ بل ينحصر في البلدان ذات الأنظمة الديمقراطية العريقة، أياً كانت اعتراضات المرء على صلاحية ديمقراطياتها، وفي رأسها الولايات المتحدة. وتقارير المنظمات المعنية بمناهضة عقوية الإعدام تفرد لأمريكا استنتاجات رهيبة تذكّر بأفظع الممارسات التي اعتادت على ارتكابها الدكتاتوريات «النموذجية»، شرقاً وغرباً، وماضياً وحاضراً.
ومع ذلك فإنّ أحكام الإعدام الجماعية في مصر لم تترك منافساً لها في العبث، بعد الاستهتار بالنفس البشرية، وروح القوانين، وحسّ العدالة في حدودها الدنيا؛ حتى ليصحّ أن يخسأ كافكا إزاءها، أسوة بأية مخيّلة هوجاء مجنونة!
صبحي حديدي