أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة في ظل التجديد والإبداع
بعد انتهاء طور البحث عن الذات وتمثل الهوية العربية الإسلامية، اتسعت دائرة الوعي الحضاري لدى الإنسان العربي المسلم، وتنامت في أعماقه قوة الإحساس بأهمية التأريخ الفردي في بناء تاريخ الجماعة، ومن ثم خلص به عصر النهضة إلى طور التجربة والتعبير عن الذاتية الفردية ، ومن خلالها عن الذات الجماعية، وعن الكيان العربي الإسلامي.
لقد كان للتحولات الجديدة ـ في مستهل العصر الحديث ـ بالغ الأثر على الذات العربية المسلمة، التي دخلت عهدا حاسما في مسيرتها الحضارية المتعثرة، وكانت جميع هذه التحولات شحنة قوية، أسهمت كثيرا في تجنيس أدب السيرة الذاتية داخل العالم العربي الإسلامي.
ولا شك أن السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة، في شكلها الأدبي الفني، قريبة النشأة، إذ لم تعرف أي تطور منهجي فني إلا مع حلول العقود الأولى من القرن العشرين الميلادي، حيث تحولت إلى لون جديد من التجربة الفردية والتمثل الذاتي، وهو لون أدبي ارتبط وجوده بمختلف أشكال المعاناة التي ابتليت بها الذات العربية المسلمة، وجاءت نتيجة عدة تراكمات تاريخية في حياة الشعوب العربية المسلمة.
لقد أفاد كتاب السيرة الذاتية الإسلامية المحدثون مما في تراث الأدب العربي الإسلامي، ومما اطلعوا ووقفوا عليه في الآداب الأجنبية، كما استطاع معظمهم أن يخطوا بقيم، وقواعد، وخصائص أدب السيرة الذاتية ـ سواء الفنية التعبيرية أم الشعورية ـ خطوات ملحوظة وذات أبعاد بالغة الأهمية، وقد تأتى لهم هذا الكسب الأدبي الثمين بفضل الأشواط الكبيرة التي قطعوها في مجال الكتابة الأدبية، والتجارب الغنية التي عرفها الإبداع الأدبي العربي الإسلامي بوجه عام، وأدب السيرة الذاتية بصفة خاصة، وذلك في ظرف تاريخي أكثر اضطرابا وتوترا.
ثم إنه بقدر ما اطلع الكتاب العرب المسلمون قديما على ما كتبه الفارسيون واليونانيون من سير ذاتية في العصر العباسي، بقدر ما عرفوا حديثا الكثير مما ألفه منها الغربيون، وقد استفادوا في هذا الباب من مناهجهم المتبعة في الكتابة، حتى إن من الباحثين العرب من يرى بأن اطلاع الرومنسيين العرب على الآداب الغربية مكنهم من التعرف على أجناس أدبية جديدة، ما ألفها العرب من قبل، بمثل ما رسخت به عند الغربيين من أصول ثابتة وقواعد متداولة، بحيث كانت هناك محاولات في الإنتاج الأدبي الرومنسي لتفعيل الرواية، والقصة، والمسرح، وأجناس جديدة مرتبطة بأدب السيرة الذاتية، مثل المذكرات وغيرها.
ولا شك أن كثيرا مما يندرج في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة قد احتفل بجملة من المعالم الفنية، التي صارت من التقاليد المتبعة حديثا في كتابة السيرة الذاتية، بحكم أنها تبعث القارئ على تلقي هذا الضرب من الأدب والتفاعل معه.
فهل كان سلطان الشعر على الثقافة العربية هو العامل الذي حال دون اتساع الأدب العربي الحديث للأجناس الأدبية الجديدة: القصة، والرواية، والسيرة الذاتية، والمسرح؟؟
ثم إن أدب السيرة الذاتية الذي رأى النور في العالم العربي الإسلامي، ابتداء من مطلع القرن الماضي، لم يضق بما رحبت به الحياة الاجتماعية، والعقدية، والفكرية، والسياسية، التي يحياها الكتاب العرب المسلمون، ومن ثم انفردت بقيمة معرفية وأدبية تاريخية متميزة، خاصة وأنها آثار أدبية شاهدة على معاناة وهموم، وانشغالات وطموحات الذات العربية المسلمة، ولا شك أن الطور التجنيسي الذي عرفه مسار أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة قد شهد ذلك الصدام القوي بين العالمين: العربي الإسلامي والغربي.
ونستطيع أن نتبين لدى كثير من الكتاب العرب المسلمين المحدثين، الذين طرقوا باب أدب السيرة الذاتية، ذلك الشعور المتنامي بالاغتراب داخل مجتمعاتهم، وذلك النزوع القوي إلى الثورة والتمرد على عدد من الأفكار، والتقاليد، والطقوس المتوارثة، و الجملة، فإننا نصادف في أعمالهم مناحي ومنازع مستجدة، لم يكن لها حضور مكثف في تراث الأدب العربي الإسلامي.
ومما يجدر ذكره كذلك، هو التزام أكثر كتاب السيرة الذاتية العربية الإسلامية في العصر الحديث ـ سيرا على نهج أسلافهم ـ بطبيعة الروح الإسلامية، التي تنكر بقوة ظاهرة التعري النفسي الساقط، وترفض بكل صرامة خدش الحياء أو تجاوز المبادئ والقيم الأخلاقية الإسلامية، وتعبر عن الحرص الشديد على سلامة الفطرة الإنسانية، حتى لا ينال منها أي زيغ أو فساد.
ومن جملة ما اتسم به طور تجنيس أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، أن كثيرا من كتاب هذا الأدب لم يميلوا إلى تمجيد ذواتهم والعجب الشديد بها، كما أنهم اتصفوا بصدق الحديث ونظرتهم الموضوعية إلى ذواتهم وغيرها من الموضوعات، ثم إننا نجدهم يحصرون عاطفتهم نحو المرأة بإشارات سريعة دون المكاشفة الفاضحة.
ثم إن تطور العلوم، واتساع دائرة الاكتشافات، وكذا الانفتاح على آفاق جديدة في مختلف مناحي الحياة، وتوالي تراكم أنماط متنوعة من المحدثات الفكرية، والاجتماعية، والسياسية؛ جميعها عوامل ساعدت كاتب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي على الاقتراب من ذاته بالوصف الصادق الدقيق، مجتهدا في الابتعاد عن نزعة الغرور، وحريصا على أن يكون في منأى من أي تحيز.
وعلى إثر هذا التحول الذي نمى ورفع من مستوى وعي الكاتب بتقاليد الكتابة ذات التقاليد الموروثة والمحدثة والفاعلة في صياغة أدب السيرة الذاتية، صار للأدب الذاتي والتأريخ الفردي الخاص في مختلف الآداب العالمية، وفي الأدب العربي الإسلامي بوجه خاص، مفهوم ومدلول شبه مستقر، وصورة أكثر وضوحا في الأذهان، فغدت له هوية أدبية تاريخية، تميزه عن باقي الأجناس الأدبية، ومكانة فنية جمالية.
ومن المؤكد كذلك أن الصفة الفنية لم يتم تحقيقها للسيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة إلا عبر الفن الروائي، مرورا بالفن القصصي، الذي أسهم كثيرا ـ و منذ طور تأسيس أدب السيرة الذاتية العربية ذات السمة الإسلامية ـ في إمداد الكتابة التي تتخذ الذات موضوعا بالهوية والسمة الفنية، وبالتالي كان يمثل البوابة الأولى التي مكنت أدب السيرة الذاتية في البلاد العربية الإسلامية من الدخول في طور التجنيس.
وقد ساعد تطور النقد الأدبي والنظرية الأدبية في العصر الحديث، من خلال مجموعة من التيارات والمدارس على تطوير أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، وتكوين ثقافة ورصيد معرفي خاص بهذا الفرع الأدبي الإسلامي.
ومن بين أهم معطيات هذا التطور المطرد، نذكر: ظاهرة النزوع إلى التصنيف والتجنيس الأدبي، بحيث لم يعد التنظير منحصرا في عموم الشعر ومجموع النثر؛ بل اتسع مجاله ليشمل الأجناس الأدبية، وأشكال ومكونات كل جنس أدبي على حدة.
ثم إن من عمق هذا التطور في الفعل النقدي والتنظيري، تمكن أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة من إحراز كيان أدبي مستقل عن كتابة التاريخ العام، أما التحول النوعي الكبير، الذي عرفه تاريخ هذا الأدب، فتمثل في كتابة السيرة الذاتية الفنية.
لقد مر أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة بثلاثة أطوار تكوينية رئيسة:
أولها: طور التأسيس، أو مرحلة التجريب والمحاولات الأولى في تاريخ الأدب العربي الإسلامي.
ثانيها: طور الإحياء والبعث، أو مرحلة المحاكاة والتقليد.
ثالثها: طور التجنيس، أو مرحلة التجديد والإبداع.
وهذه الأطوار التكوينية الثلاثة أثمرت بدورها ثلاثة ضروب من أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، وثلاثة أنماط من الوعي موازية لها تاريخيا، فأما ضروب هذا اللون الأدبي، التي عرفت على التوالي، منذ القرن الثالث الهجري، الموافق للقرن التاسع عشر الميلادي وإلى غاية اليوم، فهي:
الأول: السيرة الذاتية التأسيسية، التي سادت ابتداء من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي وإلى غاية القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، وبذلك يكون هذا الضرب قد امتد حوالي سبعة قرون من التاريخ
الثاني: السيرة الذاتية التقليدية، التي امتد وجودها ابتداء من القرن الثالث عشر الهجري/ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وطوال القرن التاسع عشر الميلادي وإلى غاية حدود النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري/ بداية القرن العشرين الميلادي، بعد مضي أربعة قرون تقريبا من الركود الشامل ، الذي عانى منه العالم العربي الإسلامي.
الثالث: السيرة الذاتية الفنية، وقد سجلت حضورها في منتصف القرن الرابع عشر الهجري/ ثلاثينيات القرن العشرين الميلادي، لكن ما يسمها حتى اليوم هو كمها القليل، فهي تحاول أن تثبت وجودها وتضرب بجذورها الفنية عميقا في أرض الثقافة الأدبية العربية الإسلامية، وأما أنماط الوعي التي واكب كل واحد منها وتزامن مع أحد الأضرب التي ذكرنا، فهي التالية:
الأول: الوعي التأسيسي، و هو وعي التجريب الذي ساد في الحقبة الأولى.
الثاني: الوعي التقليدي، وهو الوعي الذي جمع بين الإحياء والمحاكاة.
الثالث: الوعي التجنيسي، ونقصد به النزوع بحس فني وجمالي إلى تحديد ماهية، وقواعد، وخصائص أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، في ضوء مستحدثات التجديد ومستجدات النقد والإبداع.
وثمة ثلاث ظواهر أو معالم بارزة طبعت مسيرة أدب السيرة الذاتية في البلاد العربية الإسلامية، وذلك ابتداء من العقد الثالث في القرن العشرين، وهي:
الأولى: تمثلت في التحول من كتابة السيرة الذاتية التقليدية إلى تأليف السيرة الذاتية الفنية، وهذا التحول الكبير يشهد على مدى تطور مستوى الوعي بأدب السيرة الذاتية، ثم بحجم الإضافة الثقافية، التي أغنت المنظومة المعرفية الخاصة بهذا الجنس الأدبي.
الثانية: تجسدت في استكمال أدب السيرة الذاتية لشروط ومقومات الجنس الأدبي.
الثالثة: اختزلتها الكتابة في دائرة المكونات الكبرى ـ أو ما يسمى بالأجناس الأدبية الصغرى ـ الخاصة بخطاب أدب السيرة الذاتية.
أما الظاهرتان: الأولى و الثانية ، فكانتا بحق تجسيدا لتطور جلي، و تحول بارز عرفه تاريخ الأدب العربي الإسلامي في العصـر الحديث، و تحديدا سنة 1929 ميلادية، لما نشر طه حسين الجزء الأول من سيرته الذاتية "الأيام "، فكان هذا الحدث مدخلا إلى طور التجنيس في تاريخ أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، وثمرة احتكاك ثقافي بين العالمين: العربي الإسلامي والغربي، أما كتاب "الساق على الساق فيما هو الفارياق" لأحمد فارس الشدياق، فعلى الرغم من سبقه في البلاد العربية بأزيد من سبعة عقود قبل بزوغ كتاب (الأيام)، إلا أن التسليم بكونه سيرة ذاتية فنية مكتملة يعد من قبيل الإسراف في الوصف والحكم.
وأما الظاهرة الثالثة، فتجسدت في ذلك النزوع من قبل الكتاب العرب المسلمين المحدثين إلى إدراج مجموعة من إنتاجاتهم الأدبية في إطار أحد أو جملة من المكونات الكبرى ـ الأجناس الأدبية الصغرى ـ الخاصة بجنس السيرة الذاتية، إذ قاموا بتصنيف بعض من كتاباتهم تمييزا لها، وذلك تبعا لعدد من الاصطلاحات الأدبية الدالة على مكون خطابي معين، مثل: المذكرات، والذكريات، والاعترافات، واليوميات، ومما يثير الاستغراب في أكثر الأبحاث والدراسات العربية، التي عالجت أدب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي، هو احتفالها بما كتب في هذا الباب من طرف أدباء وعلماء المشرق العربي، وخلوها من أدنى إشارة إلى حظ المغرب العربي من هذا الأدب !!
ثم إن من جملة ما أثار انتباهنا في بعض الدراسات التي تناولت أدب السيرة الذاتية العربية الحديثة، هو ذلك الاختزال ـ الذي كان يطل علينا بين الحين والحين ـ المقصود ربما أو غير المتعمد لهذا الضرب من الأدب في السيرة الذاتية المصرية، واتخاذها مقياسا، وهذا يذكر بما ساد ويسود من اعتقاد حول مركزية مصر الأدبية.
وإذا كان الأدباء والعلماء العرب المسلمون قد أسهموا بحظ من كتاباتهم في التأسيس لأدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، وهي كتابات موسومة بخصائص معينة، فإن أدب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي الحديث والمعاصر على حد سواء، قد خطا به الكتاب المحدثون خطوات نوعية في سبيل تجنيسه.
لقد تحققت في بعض من أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة جملة من السمات، التي تشهد له بالدخول في طور التجنيس، ويكفي أن نذكر منها :
1 ـ تقصي أثر الأحداث في باطن الذات الكاتبة.
2 ـ الكشف عن أهم الجوانب من الحياة الفردية، وبسط الحقائق المتصلة بها.
3 ـ تصوير الصراع الداخلي والخارجي.
4 ـ الحديث عن أثر الوراثة والبيئة في تكوين الشخصية.
5 ـ سرد الأحداث والوقائع حسب التسلسل الزمني.
6 ـ الكشف عن معالم الأمكنة والأزمنة.
7 ـ الترسل في السرد، والابتعاد عن الأسلوب التقريري الجاف.
8 ـ توظيف الأساليب المقالية، والقصصية، والروائية.
9 ـ التزام الصدق وقول الحقيقة في حدود معينة.
10 ـ الإفصاح عن باعث أو بواعث الكتابة.
ثم إن من سمات أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة في طوره التجنيسي، ذلك الميل الذي نلمسه بوضوح لدى أصحابه إلى توظيف الألفاظ والعبارات الدارجة في الحوار وغيره، ولنا في ما كتبه عدد من ألفوا في هذا الباب أمثلة كثيرة، وكان من شأن توظيف الكلمات الدارجة العامية ـ خاصة المصرية منها والمغربية ـ في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة أن مكن الكتاب من إضافة بعض القيمة الأدبية، المتمثلة في التصوير الفني للوقائع والأحداث، وللمشاهد والمواقف المختلفة، ثم تقريبها أكثر من القارئ، وذلك بقصد أن تنجلي في ذهنه، ورغبة من جهة ثانية في الحفاظ على الشحنة الدلالية للألفاظ والعبارات العامية في سياقات تعبيرية محددة، والباعث على هذه الرغبة، هو الحرص على نقلها بأمانة إلى المتلقي.
أما وقد بلغنا هذه الغاية من الختم، فإننا نأمل أن تكون هذه المساهمة المقالية المتواضعة باعثا على بحث ودراسة أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، ومثيرا في ذات الوقت لأكثر ما يمكن من الأسئلة النقدية ذات الصلة بأدب السيرة الذاتية، الذي لقي غير يسير من التهميش، بقدر ما ناله من التجاهل نيلا منكــــرا ... فهل من رد للإعتبار؟
د.أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com