(13) الميراث

قصة قصيرة، بقلم: يس الفيل
.......................................

انبهاره بأبيه .. بتغلغله في كافة الطبقات ، بتواجده الفعال على الساحة ، بحاجة الناس إليه ، كل يوم ، وكل ساعة ، بصبره البالغ على جدل الخصوم ، كان مثار دهشته الممزوجة بالتعالي على الأقران .
كثيرًا ما ردد المدرس عليهم حكمته : يأتي الخطر من مكمنه ، في محاولة للحث على الجد .. ونبذ التواكل ، والمبادرة إلى الإنجاز اليومي للواجبات .. لكنه لم يلق بالا إلى ما يقول . لا يذكر أن أباه تبرم يوما .. أو أصابه الملل لحظة .. أو عجز عن حل مشكلة ، تمنى أن يكون ذلك الأب الواعي المتفتح ، صاحب الرؤية النفاذة ، والعقل المدرك لأبعاد الزمان والمكان .
أمر واحد كان يلجمه ، كلما جمحت ثورته .. أو اشتط غروره :
- أبوك عمدة ، لكنه أمىٌّ .. والأمية عجز..
لو لم تكن هذه الغصة في الحلق ، لما جاراه أحد في غطرسته يوما ..
احتضن سخطه .. وهو يبذر الأماني في الأرض السبخة ، ويرفع القواعد على غير أساس .. وقد استهوته النظرات الملتاعة ، وأغرقته الشفاه المبتسمة دائما ، في طوفان من الأحلام المريضة صورته لذاته المتضخمة ، أن الكل متيم به ، غريق بين أمواج هواه .
بدأ الرحلة مبكرًا ، اصطفى من الأقران - وهو لا يدري - المنافق والمداهن ، وأبعد عن ساحته .. متعمدًا كل مؤمن بالمبدأ ، ملتزم بالقيم والأخلاق .. نفخ المضللون فيه :
- يا رجل .. أنت البطل .. أنت العمدة .. المستقبل بين يديك .. قدرك أن تكون مقصدا .. ويكون بيتك مزارًا .. أهناك أجمل من هذا ؟
زينوا له الوهم .. حببوا إليه التراخي والكسل والإهمال .. قطع شوطا كبيرا .. يتسكع في الطرقات الملتوية ، أحس أبوه بما هو فيه ، ثار ، انتقد مسلكه ، أراد أن يوقف هذا التيار المكتسح ، الثورة المضادة كانت أعنف وأشد .. هجر الولد القرية .. أغرته الحبيبة المراهقة ، على اختصار الطريق .
أنت الوارث الشرعي ، طال الزمن أم قصر . وراء السراب أبحر ، واثقا أنه لا منافس له على الميراث أبدا .. الجنون أصاب الوالد ، وهو ينقب في التربة ، بحثا عن ولده ، الذي ترك الدراسة ورحل ، حتى لكأنما ابتلعته الأرض ، استعان الرجل بالأهل والمعارف ، حتى العرافين والدجالين ، دار على أوكارهم ، دون أن يلوح بصيص من النور ، وسط الظلمة المطبقة .. ومن ثم فقد تضاعف ضغط الدم في عروقه ، لتنفجر شرايين الأمل .. ويتآكل الحلم ، ويسقط العمدة فاقد الوعي ، دون حراك ، مرة واحدة ، فتح عينيه فيمن حوله ، طالع الوجوه المحزونة ، لم يجد ولده ، علا أنينه المتوجع :
- حتى وأنا راحل .. تضيع مني .. يا أمل ..
ثم تنهد بصعوبة .. وأطلق زفرة .. أودعها كل حراراته ، وهمس : يا خسارة !! وأغمض عينيه للأبد .
أيام .. وعاد الوارث .. يحصر التركة .. ويحصي المغانم .. يقرب من يشاء .. ويبعد من يريد .. الطيور - دائما - على أشكالها تقع ، انفرط العقد المتجانس ، لتلتف حوله ، بطانة السوء، صغيرا لا يزال .. حاول أن يجعل من الخليط المتنافر بديلا ، صور له الوصوليون أن الأمر سهل ويسير ، وأن الميراث خالد .. فقط عليه أن يجرب .. وسوف يرى .
بدأ يمارس اللعبة .. اعتلى الكنبة .. وراح يمثل دور العمدة ، يرفع يدا .. ويخفض أخرى .. يميل يمينا تارة .. ويسارا تارات .. الصغار من حوله يباركون اللعبة .. غير أن الجلباب كان فضفاضا .. والعباءة واسعة .. فبدا للعيان .. قزمًا .. هزيلاً ..
في البداية ، اعتمد على المخزون العاطفي ، لكن العواطف رمال متحركة ، لا يقر لها قرار ، تأرجح الميزان في يده .. حاول أن يستجمع الطاقات المدخرة ، ويلم الشتات المبعثر ، الذي طارده في البداية ، استعصى الجرح على الالتئام ، وتوارت من سمائه تلك النظريات الملتاعة ، والشفاه المبتسمة دائما ، بعد أن اشتدت كثافة الضباب .
تلفت يبحث عن مخرج ، هؤلاء تنكر لهم ، وهو لا ينكر .. لكنهم بقايا أهله ، وذوو رحمه .. لم يتذكر حكاية الخطر ومكمنه ، التي لم يلتفت إليها صغيرًا .. ومراهقا .. إلاّ عندما ظهر المنافس على أرض الواقع .. لم يكن غريبا عنه .أحد أبناء العمومة ، الذي حاول أن يبعده عن المنحنيات المجهولة ، ويشده شدا من الأوكار المظلمة ، حفاظًا على شرف العائلة ، وسمعتها دون جدوى ، ودّ لحظتها أن يبدأ من جديد .. إنسانا آخر .. يعرف كيف يحافظ على الميراث ، إن لم يضف إليه .. لكن السقوط المدوي للضلال .. مهما أحاطته الجهالة بأسلحتها ، لا يستطيع أن يوقف زحف الحق ، المسلح بالعلم والإيمان .. ومن ثم تكون النتيجة المحتومة :
"انتقال الميراث .. لمن يستحق" .
..............................................
* كتبت عام 2000م.