(6) وحتى لا يتساقط لحم الوجه

قصة قصيرة، بقلم: يس الفيل
...................................

(1)
في الصف الأول .. على كرسيه جلس .. حرص على أن يكون في بؤرة الضوء. لم يفكر فيمن يجلس عن يمينه أو عن يساره .. لا يعرفه أحد هنا ..ووحيدا ألقت به المصادفة ، ودفعه حلم طمرته السنون .. إلى هذا المكان .. ليتعلق .. بخيط الأمل الواهي .
أوشك الستار أن ينفرج .. كل ذرة في كيانه تترقب .. الصورة على باب المسرح تقرب الأمل .. الاسم تحتها يبعده ، يلقي به في متاهات من الشك والحيرة .. لكنه .. يحاول الوصول إلى قرار .
سحب حقيبته .. وضعها على ركبتيه .. فتحها ، عبث بمحتوياتها ، تحسس الكراسة برفق .. عاوده الحلم القديم .. أخرج علبة السجائر .. من ولاعة ذهبية أشعل السيجارة الأولى .. أقبلت فتاة جميلة .. تتأبط ذراع فتى .. يبدو أنهما خطيبان .. جلسا .. الفتاة بينهما .. لم يبال .. كان هناك ما يشغله .
الدقات التقليدية تعلن بدء العرض .. اهتز داخله .. ارتفع نبضه تيار من هواء ساخن يلفح وجهه .. للمرة الأولى يسمع لقلبه وجيبا .. يتلفت يمنة ويسرة – حركات لا إرادية – فلسفها الفتى في نظرة متعالية ابتلعها صامتا .. لم يكن يقصد!! .. وليس يعينه .
اهتز الستار أكثر .. توتر كيانه .. احتشد .. ضوء خافت يتهادي .. صوت دافئ ينتشر في المكان ، يطرق سمعه ، يوقظ عمره :
- أيها الحب .. يا لحن السماء على الأرض .. ضلت الناس طريقك .
لا إراديا يلتفت – مرة أخرى – يجد من يراقبه .. الصوت لم ينقطع :
- امنحهم سرك المقدس. افتح لهم أبواب جنتك .
ارتد بصره .. استشعر الحرج … قرر أن لا يعاود المحاولة .. الصوت الدافئ يقترب ، قسماته تتضح :
- خذهم إلى رحابك .. طهر قلوبهم .. واصعد بهم إلى سمائك .. أيها الحب..
دون أن يلتفت هذه المرة .. أحس بألف عين تراقبه ، تعريه ، تكشف سره .. طفا على السطح حلمه القديم .. تصبب عرقا.. بدأ رباط عنقه يضيق حول رقبته ، يخنقه ، انتفض .. قرر أن يترك المكان .. الصالة على الآخر .. استسلم للواقع .. أشعل سيجارة أخرى .. نفث دخانها بعصبية .
أطفئت أنوار الصالة تماما .. انفرج الستار .. ظهرت على المسرح ، بقايا صوتها الدافئ .. لا تزال :
- أيها الحب .. أوقد شموعك في ظلمات الأرض .. واملأ النفوس ضياء .
تألقت البطلة .. ازدهر حلمه .. تتابعت المشاهد .. جذبته بعنف .. الشك واليقين .. دائما يتصارعان .. في أعماقه ألف سؤال يثور .. ركز بصره ، مد رقبته .. من يدري .. ربما كانت هي .. لكن !! هوة سحيقة أسدلت ستارا بين الواقع والرجاء..

(2)
- رائعة.
- أنت أروع .
- والبطلة ؟
هزت رأسها .. يشده الحوار بين الفتى والفتاة .. لا يلتفت .. يرى بأذنه .. يحس دبيب الغيرة في صوت جارته .. يلتمس لها عذرا .
- المسرحية .. نص .. ومخرج .. وإمكانيات لا حدود لها .. ثم بعد ذلك .. بطلة.
يهز رأسه موافقا .. يصادف حديثهما هوى في نفسه .. دون وعي . يستسلم الفتى .. يقطع الحديث عامل البوفيه .. يقترب ، يقترب بأدب .. ينحني .. يتفرس الوجوه .. يتأهب :
- الدكتور أمل ؟
يفاجئه السؤال .. تهرب الكلمات .. يجف الحلق .. لا يستطيع الرد .. يومئ برأسه :
- تحت أمرك .. شاي .. كازوزة ..
تزداد علامات الاستفهام .. تتسع .. تتكاثر الدوائر في البحيرة الراكدة . يهم بالسؤال .. يتراجع .. للحظات .. تغمره سكينة .. إحساس عارض بالرضى .. يهدهده .. يمد ساقيه ، يستند على ظهر الكرسى .. ينظر – هذه المرة - للفتى .. متعمدا .. تتلاقى العيون ، تنكسر النظرة المتعالية ، ينسحب من المعركة ، يحتمي بفتاته ، يفتعل حديثا معها .. لا زالت في الاستراحة بقية ، ينظر للفتاة .. لا يرى فيها جمالا يثيره .. تشرئب قامته .. يدرك الآن سر حقدها على البطلة .
يعود العامل بضوضائه .. يقطع حبل التفكير .. يهم بسؤاله .. بسرعة يستبعد الفكرة .. يتذكر معاناة الليالي ، الأفكار فراشات من حوله تسبح في فراغ .. يطاردها .. يجمعها .. ينسج لها ثوبا من دمه ، يصوغها .. يعيد قراءتها ، يحذف منها .. يضيف إليها .. عذاب ، معاناة .. يستلذها ، يتناول الفنجان من العامل .. لا يسأل .. السؤال يجرح إحساسه .. يبتلع الخاطر العارض ، يئد الحلم الجميل .. يحرق خيوط الرجاء .

(3)
مرة ثانية ينفرج الستار .. يركز بصره بحدة .. في عين البطلة .. العين المرآة .. على أديمها يقرأ .. صفحات الماضي لا تزال واضحة .. نفس العين .. الصفاء .. الدفء .. الجاذبية .. يغرق بين تلال الموج ، يهبط للقاع .. على الأرض يقف .. تخرج حديثا .. يحمل البكالويوس .. يفتتح العيادة ، بعيدا عن أهله .. يعيش .. بحلمه العريض ، بآماله الواسعة .. يستقل ، يستقبل الحياة الجديدة ، يحترق طموحًا ، قراءة ، كتابة ، أحلامًا .. يتطلع إلى مستقبل أفضل .. لكن .. الصخور دائماعلى الطريق ، الأشواك تدمي قدميه، يحاول .. يفشل ، يكرر المحاولة ، لا يصل .. يصارع غولا .. في الأدب .. مردة يحرقون خطاه .. في الطب .. وحوش يلتهمون قدرته .. يتمنى ، يتمنى ، والأماني دائما .. سراب .. لا ييأس .. يقرأ كثيرا .. يسود عشرات القصص .. يتمرد ، يمزق ما كتب .. دائما يبحث عن شئ .. لا يمل البحث .. السمك المتوحش له بالمرصاد، يبتلع كل شئ .. حتى بني جنسه .. امتدت السنوات .. طال التجوال .. بالكاد يعيش .. الظمأ يستبد به .. القيظ رهيب .
تعبر دنياه فجأة .. طالبة الثانوية العامة .. تحتضن حقيبتها .. جيملة .. قوام .. صدر .. عينان .. شعر .. تناسق .. سبحان الله .. تخضر الصحراء من حوله ، تورق الأشجار في وجدانه، تشغله .. يفكر فيها ، يفكر .. مع الأيام تجذبه ، يهيم بها .. يتنفس شعرا .. ونثرا .. ورسوما .. رغم ذلك .. لم يحاول أن يعترف .. ظن الاعتراف هبوطا .. الكرامة .. العمر .. البكالوريوس .. العيادة .. التطلعات .. الثراء .. الاسم المرموق .. التألق .. النجومية .. أرهقه الصراع .. قاوم ، طال سهده ، طال هيامه .. حتى واتت الفرصة التي لا تتكرر بسهولة .
أصيل يوم قائظ .. كما تعود .. يمد يده إلى الثلاجة .. على الطريق .. بجوار الكشك .. يروي ظمأه .. يرطب حلقه ، يتناول علبة السجائر وباقى الجنيه .. يشيعه البائع بنظرة حانية ، مشفقة في هذه اللحظات .. عبرت على نفس الطريق .. تنضج شبابا وجاذبية .. يتأبى .. يتهيب .. اتسعت المسافة ، قليلا قليلا بدأت تضيق لا يدري الآن .. أأبطأت هي أم أسرع هو؟! .. لا يدري .. حاذاها .. حياها .. تعثرت الكلمات على شفتيها .. ردت دون أن ترفع إليه وجها .. ابتعدا .. أبحر على زورق الأحلام .. كل غنى مواله .. كل أفرغ جعبته المكتظة بالآمال والطموح والخيال .. أكملت الجوارح ما عجزت عنه الألسنة .. حكى لها عن آماله ، في الثراء وفي الأدب .. في الشهرة وفي النجومية .. حكت له عن حلمها الوحيد .. المحدد .. الواضح .. كانت تتكلم بثقة وإصرار .
- أريد أن أكون ممثلة .. المسرح والسينما في دمي .. لو لم أمثل .. فسوف أموت .. السمكة لا تعيش خارج الماء .. التمثيل وبعده الموت .
- هذا يتطلب تضحية من نوع معين .
لذعتها الكلمة .. تأوهت .. استطردت .. بثقة أكبر :
- سأضحي .
جزع .. أحس وخزا في صدره .. أدركت ذلك .. استطردت :
- سأضحي بكل ما أملك .. وقتي .. جهدي .. عرقي .. سهري .. مستقبلي .. المعهد العالي للفنون المسرحية .
سحابة عبرت الأفق .. ظللتهما .. اقتربا ، امتزجا ، تجاوبا ، ضمهما حلم جميل .. حلم رائع .. أن تكون بطلة لإحدى مسرحياته .

(4)
على المسرح ، الصوت الدافئ يعود :
- أيها الحب .. أبواب القلب تضيق .. الأوتار تتمزق ، مات الأمل .. انعدم الرجاء .. أدركني قبل أن تتلاشى خيوط الضياء .. أيها السراب الجميل .
صوت الريح يعلو .. يصفر .. الفراغ أمامها رهيب .. الصدى يرد عليها .. الوحشة تغمرها .. ترتعد ، تنهار ، تسقط ، تحترق، تضج الصالة بالتصفيق .
تتابع المشاهد .. يرحل بعيدًا ، يهرب ، السمك الكبير يطارده ، يرتمي على الشاطئ .. بعيدا عن الزحام .. الضغوط .. يفر من الاغتراب .. من قسوة بني جنسه .. يتوارى الحلم في الأعماق .. تطفو على السطح أحلام جديدة .. العمارة .. السيارة .. الرصيد .. تمتد الرحلة .. يعمل، يعمل ، يعمل ، تهبط للقاع أشواق روحه ، عواطفه ، إحساسات الحب الندية ، عاما ، عامين ، ثلاثة ، أربعة ، يسافر ، يعود ، يودع ، يستقبل ، يترك العيادة ، يهجر المدينة ، ينسى، ينسى ، ينسى .. يظهر على المسرح بطل جديد .. يأخذ بيد البطلة ، تتوكأ عليه .. رويدا .. رويدا.. تنهض ، يبتسم ، تهمس له ، يتعانقان .. يخطوان معا .. واحدة .. واحدة .. تضج الصالة بالتصفيق . يشده المنظر .. يتفرس البطل .. ليس غريبا عليه .. رآه قبل ذلك .. أين ؟! لا يدري .. يحاول أن يتذكر .. لا يستطيع .. الرؤى غائمة .. الأبعاد تائهة المعالم ، الضباب يتجمع أمام عينيه .. لا يرى .. يفركهما .. لا يرى.. يهمس لنفسه :
- أيكون هو ؟ ؟ ذلك الفتى .. جارك القديم ، زارك في العيادة ذات مساء .. أيام الغربة ؟
لا .. لا يستطيع أن يحدد ، تألقه فجأة .. شَلّ تفكيره .. أخل بتوازنه ، قلب حساباته .. فكر .. أطال التفكير ، أرهق عقله ، أتعب ذاكرته .. داخله شك جديد.. صراع آخر .. قذف به في محيط الظنون .. وتركه يصارع الأمواج.

(5)
- رائع
- جاء في اللحظة الحاسمة
- منقذًا .
- ربما .. وربما قانصا .
يشده الحوار من جديد .. يحس بنصل حاد يغوص في قلبه ، تفجر الدم ، غطى مساحات من جسده ، تنهد ، تأوه ، كاد يطلب نجدة .. لا أحد هنا .. غريب بين الناس .. لا أحد يعرفه هنا .. لو جاء عامل البوفيه .. الأمل الباقي ، لم يظهر له أثر .. سيسأل .. أيا تكون النتيجة .. أرحم ، السيارة أمام المسرح ، المفتاح في الحقيبة .. امتدت يده إليها .. اصطدمت بالكراسة تحت رزم البنكنوت .. طفا الحلم على السطح .. من جديد .. ارتعد .. اهتزت يده .. طارده الحلم ، هرب منه، نحاه جانبا .. تناول مفكرة صغيرة .. بدأ يتصفح .. الطريق ممتد ، ألف باب وباب ، خلف كل باب بسمة ، أهلاً .. شرفتنا .. مثلجات .. قهوة .. شاي .. طعام .. سهرة .. حديث طويل .. قيام الطائرة .. التأشيرة .. الحجز .. موعد السفر ، أخطاء العام الماضي ، مشروعات العام القادم ، بيع العملة … الربح ، الجمارك ، الطرود ، واحة الظل هنا .. أنهار الظمأ هناك .. الأهل .. ضآلة الهدايا .. غضب الأصدقاء .. لا يعنيه .. سيشتري سعادته بأي ثمن .. فقط يريد أن يصل إلى قرار .. الاستراحة ممتدة .. عيون الفتى والفتاة على الحقيبة .. أغلقها بتضرر .. هم بالانصراف .. الصوت الدافئ .. يرغمه على البقاء .. يأتي من بعيد .. يهتف :
- أيها الحب .. يا لحن السماء على الأرض .. باسمك جار الإنسان على الإنسان.
تظهر البطلة .. متألقة .. بهيجة .. تتقدم البطل .. بخطى ثابتة وإصرار .. يقطعان الطريق .. يكرمان .. يهبطان ، يصعدان ، يقتلعان الأشواك .. يطاردان الفشل ، يقتلان الحقد .. يحفران في الصخر مهدا .. يفرشانه أملا وحبا .. ينتصران على كل شئ .. الإحباط ، القهر ، الضياع ، الجوع .
يغلي دمه .. الجفاف .. يشقق حلقه ، أنياب الغيرة تنهش قلبه ، تتوتر يده .. في عصبية .. يفتح الحقيبة .. للمرة العاشرة يتحسس حلمه المطمور .. تحت رزم البنكنوت .. يجذب الكراسة .. على غلافها يقرأ :
" الأمل الكاذب "
مسرحية من واقع الحياة
تأليف الدكتور / أمل حسين
بطولة الفنانة / نوال مهدي
إخراج الأستاذ / ….........
يغلق الحقيبة .. المسرحية في يده .. تشده اللحظات الأخيرة .. البطل والبطلة .. في مشهد الختام .. يتجهان للجمهور .. يهتفان :
- ليس بالخبز وحده نحيا .
تهتز يده .. السهم أصاب منه مقتلا .. ينتفض الطير الذبيح .. يترنح .. يقف .. يقطع الشك باليقين .. يهتز الستار .. ينسدل .. يصل إلى قرار .. يهرول مع المهرولين .. الهواء خانق .. يجرح رئتيه ، لا يلتفت ، يخرج من جلده ، يتلوى من الألم .. قوى لا مرئية تطارده ، بصعوبة يصل إلى السيارة .. المسرحية في يده .. رتل من السيارات أمام سيارته .. يوقفه .. يشل حركته .. يود أن يهرب ، أن تبتلعه القاهرة .. يطفو على السطح حلمه المطمور ، يوشك أن يتحول إلى واقع .. لا .. لا .. يبعد الخاطر .. يقربه .. يبعده ، يقربه ، تلتف الدائرة حوله ، في مركز الصراع ينصهر .. على نار حامية يضع قدمه .. يقرر أن يهرب .. أن يجري .. أن يترك السيارة .. يطلق ساقيه للريح .. لكن !! مصيبة .. تعطيل المرور .. الونش .. الجنحة .. السجن .. لابد من الصبر .. تصطدم سيارتان .. يتوقف الركب تمامًا .. يهبط من السيارة .. لا يدري ماذا يفعل؟ لفته حيرة .. تلفت يمنة ويسرة .. من بعيد رآها .. قمرا يسير على الأرض ، يعرف طريقه .. جواز المرور في يدها .. الشباب .. الجاذبية .. الدفء .. التناسق .. الذكاء .. تصعد متى شاءت .. هذا زمانها ..لا زمان الأدباء .. خلفها يظهر البطل .. جاره القديم .. أحد المرضى الذين استباحوا عرقه أيام تأكيد الذات .. تقدمت .. تقدمت .. حاذته .. أشاح .. توقف .. توقف الركب .. ليس في الطريق موضع لقدم .. قفز إلى السيارة .. جلس إلى عجلة القيادة .. المسرحية في يده .. ترك الباب مفتوحًا .. لم تدخل .. أدار المحرك .. اهتزت السيارة .. لم تدخل .. في عينيه نداء .. لم تحاول أن تستجيب .. تقلصت عضلات وجهه .. توترت قبضته .. رفع ذراعيه .. رفعها ..بكل ما يملك من قوة .. طوح بالمسرحية في الهواء .. وانطلق بسيارته .. يسابق الريح .
.............................................
* كتبت عام 1981م
* جائزة دومرييه الميدالية الذهبية وتسلمتها فىحفل تسليم
* الجوائز بفندق النيل هيلتون القاهرة مساء 30 يونيه 1981