(2) مدرسة الحياة

قصة قصيرة، بقلم: يس الفيل
...................................

ألقى بجسده على الفراش .. بعد يوم حافل بصنوف العمل والإرهاق وهدوء المكان من حوله يغسل أعصابه المنهكة .. وضياء المصباح .. وهو ينعكس على المرايا المثبتة على الجدران هنا وهناك ، يلقى على نفسه المتوترة مزيدا من السكينة .. فتنبسط .. وتتراخي عضلات جسده شيئا فشيئا .. ويدب فى أعماقه خدر لذيذ .زف ينطلق بخياله فى رحلة طويلة .. لكنه ما إن يتذكر موقفا ما ، تعرض له هذا الصباح ، حتى ينقبض من جديد .. ويحدث نفسه :
ـ آه .. لو لم يكن هذا الإنسان .. لكان لى فى المكان شأنٌ آخر..
ورغم ذلك فهو لا يتوقف عند هذه النقطة طويلا .. فالنفس مشحونة بشتي الانفعالات .. والمواقف كثيرة على امتداد الرحلة التى - على قصرها - توشك أن تكون عمراً بأكمله .. ويطلق لخياله العنان .. يفكر ، يفكر ..لكن بصوت مسموع :
ـ ترى ماذا يقولون عني الآن ؟ لقد تركت الأهل بعد أن حصلت على البكالوريوس .. بامتياز .. وتحقق الحلم .. وها أنذا قد أصبحت مهندساً كبيراً .. وأين ؟ فى القطر الشقيق الذى تشرئب إليه أعناق الشباب
ويستطرد :
ـ مساكين .. لقد تصوروا كما تصورت .. أننى وصلت للقمة التى ما بعدها قمة .. وأنا .. يالي من تلك السذاجة .. ويالي من غرورى .. ليتهم يعلمون أنني اليوم فقط .. بدأت أول الطريق وعلىّ أن أكافح .. وأنا أطبق العلم على العمل .. حتى أخرج من التطبيق بالنتيجة المطلوبة ، لأصل إلى الهدف الذى سهرت من أجله الليالى .. لكن " حمدي " سرعان ما يعترض على هذا المنطق وتتوتر يده .. وهي تتأرجح فى الفضاء مع همساته المسموعة :
ـ لا .. لا .. علىّ أن أبدأ من جديد .. حتى لا يحدث ما يقشعر بدني لذكره .. آه لو لم يكن هذا الإنسان .. لكان لى فى هذا المكان شأن آخر
ثم يواصل حديثه مع نفسه :
ـ صحيح أني قطعت سنوات الدراسة بجد واجتهاد ، تعلمت الكثير عن تاريخ البترول وأعمال الحفر .. وأستطيع أن أقوم بالدراسات الأولية .. وأعود للتقارير والكتب التى يعتمد عليها فى عملية التنقيب .. وتعلمت أيضا متى تكون الظروف الجيولوجية ملائمة لتجمع الزيت .. وما يستلزم ذلك من فحص الصخور .. نعم عرفت هذا .. وعرفت فوق هذا .. كيف أتتبع أي رشح بترولى أو أسفلتي أو أي غاز منبعث من شقوق القشرة الأرضية عند البحث .. لكن العلم شئ والعمل شئ أخر .. وبون شائع بين النظرية والتطبيق .. وها أنذا .. لم يكد اليوم الأول ينقضى علىّ فى العمل ، حتى شعرت أنى قطرة توشك أن تتلاشى فى خضم هذا البحر الكبير .. ولابد أن تتلاشى إن عاجلاً .. أو آجلاً .
قال هذه الكلمات فى نبرة عالية .. وانتفض " حمدي " من على الفراش كمن قرصه عقرب ، وأطل من النافذة .. مياه البحر على مرمي البصر .. والأمواج الثائرة كأنها فى سباق مع الزمن ، واستهواه المشهد .. فأدام النظر إليه .. بينما فكره يسبح فى دنيا واسعة .. وخياله يقطع الآفاق العريضة .. والصراع النفسى الحاد يوشك أن يحطم أعصابه .. وأراد أن يحدد موقفه .. أن يخلع ملابسه ويلقى بنفسه للأمواج .. ولوح بيده .. وهو يهمس إلى نفسه :
ـ لن أتعلم السباحة من كتاب ، ولا حتي من مائة .. الواقع شئ يختلف تماما عما تعلمته .. فلا تقارير ولا دراسات ولا كتب، ولا تعقب رشح أو غاز منبعث من قشرة أرضية يفيدني .. تأكد لى ذلك بالدليل القاطع .. ومنذ اليوم الأول .. إننا فى مدينة تسبح فى بحر من الزيت .. فماذا أصنع ؟ وكيف أبدأ ؟
قالها بمرارة .. واستند بمرفقه على حافة النافذة وراح يفكر .. فى محاولة لوضع حد لهذا التمزق .. غير أن طرقات على باب الحجرة قطعت عليه حبل التفكير ، فأرهف السمع .. لم يصدق أذنه ، إنّ احدا لا يعرفه هنا .. تقدم نحو الباب .. بخطى متثاقلة .. لكن الدهشة عقدت لسانه حين وجده هو .. هو بعينه ..
لم يكفه المصنع على اتساعه .. فهل يكفيه الفندق ؟ بل هذه الحجرة الضيقة التى أنزل بها؟ إنه سيقضى علىّ لا محالة .. لقد أطاح بكل غرورى .. شعرت أمامه بالضآلة والضحالة ، وهو يتفقد العمل فى الصباح ، وينهال علىّ بالأسئلة . وأنا أحوم حول المعني ولا أعطي إجابة شافية قاطعة فماذا يريد مني الآن ؟ يا له من رجل سمج .. وانطبع ما فى أعماقه على صفحة وجهه فبدت علامات حيرة وغضب لم يفلح ترحيبه الحار بالقادم فى مداراتها ، وأحس الزائر بما يعتمل فى صدره .. فابتدره :
ـ كيف حالك يا أخي ؟ أردت أن أطمئن عليك دون سابق وعد .. يشفع لى أننا أصدقاء .. تشفع لى الزمالة .. أنت ضيفنا ..
قال ذلك وانخرطا فى حديث طويل عن العمل وعن الحياة .. نسي حمدي نفسه خلال هذه المدة ، نسي علمه ، وأنصت .. وأنصت .. والزائر يتدفق كالبحر .. يتحدث في كل شئ .. في الحفر والتنقيب ، في الجاذبية والمغناطيسية .. في الإنتاج ، والتصنيع .. في تسوق البترول ، في آلات الورش ، في إصلاح الآبار ، في رسم الخرائط الدقيقة ، في التقطير والتثبيت والتكسير والتفحيم ، في الصداقة والمال ، في السياسة والحب .. في كل شئ تحدث .. مهارة عجيبة ، خبرة طويلة ، علم واسع ..
أنصت " حمدي " طويلا ، وحملق كثيرا .. وهو لا يصدق أن كل هذا قد حدث .. ويسائل نفسه : غير معقول أن يكون هذا الرجل قد بدأ من الصفر .. يا إلهي .. كيف يحدث هذا ؟ عامل بسيط ، وبأجر زهيد فى شركة آبار البترول .. تستهويه أسرار الحفر ، فيكافح ليتعلم .. ثم تسنح له الفرصة .. فيسافر إلى أمريكا في بعثة دراسية فيظهر تفوقا غريبا ، يجعل اسمه يحتل الصفحات الأولى من مجلات البترول والحفر العالمية .. غير معقول هذا .. أنا لا أصدق .
ويلاحظ الزائر دلائل الشرود بادية عليه فيتوقف عن الحديث ، ليعود " حمدي " إلى شروده وهو يهمس : غير معقول . ويسأله الزائر .. ما هذا ؟ فيجيب دون أن يشعر : ما تقوله .. وفجأة ينتبه .. قد أوشك على السقوط .. فيرتبك ، ويعتريه الخجل .. ويتنهد فى التياع .. لكن الزائر يأخذ بيده ، ويخرجه من ارتباكه بقوله :
ـ يا أخي هون عليك .. ما هناك غير معقول .. أما تعلم أن لكل فعل رد فعل مثله .. لقد حرمت طويلا يا أخى واندفاعي فى هذا الطريق ليس إلاّ نتيجة حتمية لهذا الحرمان .. لقد عدت من بعثتي ، وكلي حرص على أن أوفر لأمتي ما حرمت أنا منه ، وها أنت تراني ، ما زلت أعد البرنامج تلو البرنامج لتدريب الحفارين ، صحيح تخرج على يدي العشرات ، لكن هدفي لم يتحقق بعد .. ولعلك لم تزر للآن مركز التدريب الذي أنشأته للعمال . لقد زودته بمختلف النماذج التى تحتاج إليها هذه الصناعة ، والأيام طويلة وسوف ترى وتسمع .. ثم لعلك لا تصدق أني سعيد بك .. وبأمثالك من الشباب الطموح الذي نال قسطا لا بأس به من التعليم ، فهو يتفهم أسرار هذه المهنة سريعا .. وفرق كبير بين من يبدأ من الصفر .. ومن يبدأ من المائة .. قال هذا .. وتململ .. شأن من يهم بالانصراف .. وهنا تذكر " حمدي " أنه لم يقدم لضيفه تحية .. فراح يعتذر وبدأ جبينه يتفصد عرقا .. لكن الزائر طيب خاطره .. وهو يمد يده مصافحا :
ـ يا أخي الأيام بيننا .. سوف نلتقى كثيرا .. ونشرب أكثر .
قال ذلك وانصرف .. ليعود " حمدي " إلى وحدته مرة أخرى .. لكن روحا جديدة بدأت تسري في نفسه .. وبدأت حيرته تتلاشى شيئا فشيئا ، ليحل محلها لون من الاستقرار .. وأخذ يستعيد حديث الرجل .. ويستعيد قصته مع الحياة .. ومع العمل .. ويستلهم كفاحه الطويل طريقا جديداً يسير عليه .
لقد بدأ هو من الصفر .. لكني لن أبدأ أبدا كما بدأ فأنا حاصل على شهادة عالية بتفوق .. وعليّ أن أنجح في مدرسة الحياة .. مدرسة العباقرة .. التي أستقبل يومي الأول فيها .. عليّ أن أبدأ على أسس جديدة .. أن أقتدي بهذا الرجل .. وأحس أن عواطفه قد استقرت تماما .. وأنه قد نزع من نفسه كل شعور بالحقد على هذا الخبير .. وتمنى لو أنه مثل أمامه .. ليعانقه ، وليقول له :
ـ بارك الله فيك .. لقد كنت المصباح الذى سطع فجأة في ليل حياتي .. والشراع الذي انتشلني من مخالب الأمواج إلى شاطئ الأمن والسلام .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كتبت عام 1969م
* نشرت بمجلة "قافلة الزيت" السعودية ـ محرم 1394هـ (يناير / فبراير 1974م)
* قررتها وزارة المعارف السعودية على الصف الثاني الثانوي في كتاب "المطالعة" سنة 1401 هـ (1981م )