طعام ... صلاة ... حُب : امرأة تبحث عن كل شيء"9"
{"خلطة" كتب}
نصل إلى الحكاية الثامنة والخمسين من حكايات (ليز)،ومحاولتها السيطرة على أفكارها :
(58)
(فبدأت أحرص على مراقبة أفكاري طيلة النهار. رحت أكرر هذا العهد مئات المرات في اليوم : "لن أكون مرسى للأفكار الضارة بعد اليوم". وأكرره كلما طرأت لي فكرة سلبية. في المرة الأولى التي قلت فيها ذلك،لفتتني كلمة مرسى. فالمرسى هو المكان الذي تأوي إليه السفن،ميناء الدخول. تخيلت ميناء عقلي،فهو على الأرجح ميناء متهالك،مزقته العواصف،ولكنّ موقعه جيد وعمقه مناسب. ميناء عقلي هو خليج مفتوح،إنه المدخل الوحيد لجزيرة ذاتي (وهي جزيرة شابة بركانية،أجل،ولكنها خصبة وواعدة) وقد خاضت هذه الجزيرة بعض الحروب،هذا صحيح،ولكنها التزمت الآن بالسلام،بقيادة زعيم جديد (أنا) وضع سياسات جديدة لحماية المكان. والآن،ثمة قوانين أكثر صرامة بكثير بخصوص من يدخل هذا الميناء.
لا يمكن لأحد الدخول بعد الآن بأفكاره القاسية المؤذية،بسفن أفكاره المعذبة،بسفن أفكاره المستعبدة،بسفن أفكاره الحربية،كلها ستُطرد. ){ص 219 - 220}.
نخرج من إطار أفكار (ليز)،لنتركها تحدثنا عن بعض عادات المجتمع الهندي،في الزواج تحديدا :
(59)
(ولكن العائلة الهندية تهتم كثيرا لتزويج أولادها زيجات ناجحة. فإحدى عمات تولسي حلقت رأسها امتنانا لله لأن ابنتها الكبرى،التي بلغت سن الثامنة والعشرين،قد تزوجت أخيرا. لاسيما أن زواج الفتاة كان صعبا،فقد كان لديها كثير من الأمور ضدّها. سألت تولسي ما الذي يجعل زواج الفتاة الهندية صعبا،فقالت كثير من الأسباب.
"إن كان طالعها سيئا. إن كانت كبيرة في السن،إن كانت بشرتها داكنة جدا. إن كانت متعلمة إلى حد يصعب إيجاد رجل أعلى مركزا منها،وتلك مشكلة شائعة هذه الأيام لأنه لا ينبغي على المرأة أن تكون متعلمة أكثر من زوجها. أو إن أقامت علاقة مع شخص وعرف بها الجميع،آه،يصبح من الصعب عليها إيجاد زوج بعد ذلك ..".
رحت أفكر على الفور إن كان من السهل عليّ إيجاد زوج في المجتمع الهندي. لا أدري ما ذا كان طالعي جيدا،ولكنني بالتأكيد كبيرة جدا ومتعلمة جدا وأخلاقي ملطخة علنا .. أنا لا أشكل عروسا محتملة. على الأقل بشرتي فاتحة،هذا كل ما لديّ في رصيدي.){ص 221 - 222}.
بعيدا عن عدم احتمال وجود (عريس) هندي للمؤلفة !! لفتت نظري حكاية صعوبة حصول المرأة المتعلمة على زوج ... فعدت لأنظر في بعض واقعنا،فوجدت هذا التحقيق :
تحقيق نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيالمرأة الناجحة لا يتزوجها أحد ... إلا العنوسة) :
(* حصة محمد : الرجال يخافون من النساء الناجحات بسبب العقليات المتحجرة.
* سميرة البنا : عند الزواج يختار الشاب فتاة بمواصفات والدته .. ليتفوق عليها.
* فاطمة النهام : نجاح المرأة يسبب القلق للرجل .. ويخاف من لقب "زوج الدكتورة"){جريدة الهدف الكويتية العدد 1421 في 2/9/1995م}.
طالما أننا نتحدث عن عادات الزواج،واستغلالا لكوننا في الهند،نأخذ لمحة عن الزواج في الصين،أو في بعض مناطقها على الأقل :
(وحسب العادة المتبعة تزوج أبو جدي وهو فتى في الرابعة عشرة،من امرأة تكبره ست سنوات {هكذا} وكان يُعتبر من واجبات الزوجة أن تساعد على تربية زوجها.){ص 16 (بجعات برية : دراما الصين في حياة نساء ثلاث 1909 – 1978) / يونغ تشانغ / ترجمة : عبد الإله النعيمي / بيروت / دار الساقي / 2002م / الطبعة الثانية}.
نعود للحكايات،لعلي نسيت عند الحديث عن (ريتشارد من تكساس) أن ألفت النظر إلى عمق أفكار تاجر المخدرات ذلك .. و(خضاض الشراب) مما يشي بجودة التعليم الأصلي الذي حصل عليه ... وقد تذكرت ذلك الرجل،لأننا سوف نقابل (سباكا / شاعرا) من نيوزلندا،يبحث هو الآخر عن السكينة في معتزلات الهند!! تعرفنا به (بٌقول)،فتقول :
(60)
(.. كان سباكا من نيوزيلندا،هو شاب التقيت به الآن سمع أنني كاتبة وبحث عني ليخبرني بأنه كاتب هو الآخر. (..) هكذا،رحنا نتحدث ذات يوم معا عن الزواج،فقال السباك / الشاعر : "أرى الزواج وكأنه عملية خياطة لشخصين معا،والطلاق أشبه بقطع أحد الأوصال،لذا يستغرق شفاؤه وقتا طويلا. وكلما طال الزواج أو كان الاستئصال أقسى،استغرق الشفاء وقتا أطول". {ما هو هين "السباك"!! عندي "شغل" في البيت لكن .. الواحد يستحي يكلف كاتب / شاعر !!!!!!!}
هذا ما يفسر العذاب الذي مررت به طيلة تلك السنوات،إذ كنت لا أزال أجر ورائي شبح العضو المستأصل وأتعثر به.
تساءل ريتشارد ما إذا كنت أنوي ترك زوجي يملي عليّ نظرتي إلى نفسي لبقية حياتي،وقلت له إنني لست واثقة من ذلك،في الواقع،بدا أن زوجي ما زال يتمتع بصوت قوي حتى الآن،ولأكون صادقة،ما زلت أنتظر منه أن يسامحني،أن يحررني ويتركني بسلام.
قال صاحب مزرعة الألبان {حتى هذا ذهب للبحث عن السكينة؟} :
"إن انتظار مجيء هذا اليوم ليس عملا حكيما تستغلين به وقتك".
"ماذا أفعل يا أصدقائي؟ أنا أكثر من الشعور بالذنب،كما تكثر النساء الأخريات من استعمال لون البيج".
لم يعجب كلامي الراهبة الكاثوليكية السابقة (التي ينبغي أن تعرف الكثير عن الشعور بالذنب ) : "شعور الذنب ليس سوى خدعة من الأنا لجعلك تعتقدين بأنك تحرزين تقدما أخلاقيا. لا تقعي في هذا الفخ عزيزتي".
قلت : "ما أكرهه في الطريقة التي انتهى بها زواجي هو أنه لم يحلّ نهائيا. إنه كالجرح المفتوح الذي لا يختم أبدا".){ص 225 - 226}.
هنا تقوم (بُقول) بوداع ريتشارد من ...
(61)
(رحل ريتشارد من تكساس اليوم،سافر عائدا إلى أوستن. رافقته إلى المطار وكنا حزينين.وقفنا لوقت طويل على الرصيف قبل أن يختفي في الداخل.
تنهد قائلا : "ماذا أفعل من دون ليز غيلبرت لأغيظها؟"ثم أضاف : "كانت تجربتك في المعتزل جدية،أليس كذلك؟ تبدين مختلفة عمّا كنت عليه منذ عدة أشهر،وكأنك تخلصت من بعض الحزن الذي كنت تجرينه خلفك".
"أشعر بأنني سعيدة حقا هذه الأيام،ريتشارد".
"تذكري إذا،ستجدين كل بؤسك بانتظارك وأنت خارجة،هل ستحملينه معك في طريق العودة؟".
"كلا لم أحمله مجدّد". {هكذا}.
"فتاة طيبة".
قلت له : "لقد ساعدتني كثيرا. سأتخيلك دوما كحارس أمين يداه مكسوتان بالشعر وأظافر قدميه مشوهة".
"أجل أظافر قدمي المسكينة لم تتعاف تماما بعد فيتنام".
"الحمد لله أنك لم تصب بأذى كبير".
"كثير من الشبان أصيبوا بأذى كبير. على الأقل،احتفظت بساقيّ. حياتي لم تكن سهلة عزيزتي،وأنت أيضا،ولا تنسي ذلك. في حياتك القادمة،قد تكونين واحدة من أولئك النساء الهنديات الفقيرات اللواتي يدفعن الصخور على جانب الطريق،وتكتشفين أن الحياة ليست ممتعة كثيرا. لذا،قدري ما أنت فيه الآن. كوني دوما ممتنة على ما أنت فيه،وستعيشين حياة أطول. وأسدي لي خدمة يا بُقول،تقدمي بحياتك،هلّا فعلت؟".
"أنا أفعل".
"أعني،اعثري على شخص جديد تحبينه يوما ما. خذي الوقت الذي تحتاجينه للشفاء ولكن لا تنسي بأن تشاركي قلبك مع شخص آخر لا حقا. لا تجعلي حياتك نصبا تذكاريا لديفيد أو لطليقك".){ص 231 - 232}.
في الحكايات التالية،تتحدث (ليز) عن (الصمت) و(الوحدة)، كممارسة روحية،وعن (السعادة) ..
(62)
(.. فالصمت والوحدة هما من الممارسات الروحية المعترف بها عالميا،ولأسباب وجيهة. فضبط الحديث هو طريقة لمنع الطاقات من الانسكاب من الإنسان عبر فمه،فتنهكه وتملأ العالم بالكلمات والكلمات عوضا عن السكون والسلام والصفاء. (..) من المضحك كم كنت أتكلم في هذا المعتزل،المكان الوحيد في العالم الذي يجب – ويمكن – أن يسود فيه الصمت.){ ص 233 - 234}.
وفي الحكاية السادسة والستين،تتحدث عن (السعادة) :
(66)
(تشعر بالسعادة الغامرة وبأن كل ما يحيط بك رائع،من دون أيّ سبب كان.
بالطبع،تمر هذه الحالة على معظمنا بسرعة خاطفة. وكأن كمالَك الداخلي يظهر لك قليلا لمضايقتك لتعود بعدها إلى الواقع بسرعة وتهوى فوق جميع همومك ورغباتك القديمة مجددا. وقد حاول الناس عبر العصور التمسك بشعور الكمال ذاك بواسطة وسائل خارجية،من مخدرات وجنس وسلطة وأدرينالين وجميع الأشياء الجميلة،ولكنها لا تدوم. فنحن نبحث عن السعادة في كل مكان،ولكننا مثل متسوّل تولستوي الذي قضى حياته جالسا على قدر من الذهب،يستجدي القروش من المارة،غير مدرك بأن ثروته كانت تحته طيلة الوقت. فكنزك – كمالك – هو بداخلك أساسا.ولكن لكي تحصل عليه،ينبغي عليك أن تترك ثورة العقل المشغول دوما وتتخلى عن رغبات الذات لتدخل في صمت القلب.){ص 242}.
وحصلت (ليز) على جرعة من السعادة،فكان رد فعلها ...
(68)
(رحت أركض،ابتعدت عن الطريق وشققت طريقي بين أعشاب المرج التي ينيرها ضوء القمر. شعرت بأن جسدي يضجّ حياة وصحة بعد تلك الأشهر من اليوغا والطعام النباتي والنوم المبكر. كان صوت صندلي وهو يدوس العشب النديّ الناعم هو الصوت الوحيد المسموع في الوادي كله.شعرت بالجذل،فركضت مباشرة إلى مجموعة شجر الأوكليبوس وسط الحديقة (..) وأحطت إحدى الأشجار بذارعي،وكانت لا تزال دافئة بفعل حرارة النهار،ثمّ قبلتها بشغف. أعني قبّلت الشجرة من أعماق قلبي من دون أن يخطر لي في تلك اللحظة أن هذا أسوأ كابوس لكل أمريكي هربت ابنته إلى الهند للبحث عن نفسها،أن تنتهي في وضع مشبوه مع الأشجار تحت ضوء القمر.){ص 248}.
ثم تروي لنا المؤلفة قصة هندية عن تحول (العادة) إلى (عبادة) :
(70)
(لدى الهنود قصة معبرة عن شخص عظيم كان محاطا دوما في معتزله بالأتباع المخلصين. وكان أتباعه يمضون ساعات كل يوم في التأمل. ولكن كانت ثمة مشكلة وحيدة،فلدى ذلك الشخص قطة صغيرة مزعجة لا تفتأ تتجول في المعبد وهي تموء وتزعج الجميع في أثناء التأمل. فأمر بحكمته العملية البالغة،تقييد القطة إلى عمود في الخارج لبضع ساعات في أثناء جلسة التأمل فقط،ولكي لا تزعج أحدا. فتحول الأمر إلى عادة،تقييد القطة ثم التأمل. ولكن مع مرور السنوات،تحجرت العادة وتحولت إلى طقس ديني. فلم يعد بإمكان أحد أن يتأمل دون ربط القطة إلى العمود أولا.في أحد الأيام ماتت القطة.فأصيب الأتباع بالذعر وعانوا من أزمة خطيرة. كيف لهم أن يمارسوا التأمل الآن،من دون قطة يربطونها إلى العمود؟ كيف سيصلون إلى ..؟ أصبحت القطة هي الوسيلة.){ص 251}.
وفي نفس الحكاية نعثر على (صاحب مزرعة الألبان)،يقدم درسا :
(لقد شرح لي شون،صاحب مزرعة الألبان الأيرلندي،الأمر على هذا النحو :
"تخيلي الكون وكأنه عجلة عظيمة تدور بسرعة. أنت بحاجة إلى البقاء قريبا من المركز،عند محور العجلة،وليس قرب الأطراف التي يحدث فيها الدوران العنيف وإلا أصبت بالجنون. ومحور السكينة هو القلب. وقفي بالتالي عن البحث عن الأجوبة في العالم وعودي إلى ذاك المركز وستجدين السلام.(..){ثم تتحدث (ليز) عن التدين :} لديّ كثير من الأصدقاء غير المتدينين في نيويورك. لا بل معظمهم كذلك في الواقع. (..) ولكنّني أرى لدى بعض أصدقائي وهم يتقدمون في السن توقا لأن يكون لديهم إيمان بشيء ما. ولكنّ هذا التوق يصطدم بحواجز كثيرة،منها عقلهم وحسهم العام. وعلى الرغم من عقلهم،لا يزال هؤلاء الأشخاص يعيشون في عالم يترنح في وجه سلسلة من العواصف المدمرة والجنونية. فالتجارب الرائعة والمريعة للفرح أو العذاب تطرأ في حياة جميع أولئك الأشخاص،كما يحدث معنا بالضبط،وهذه التجارب الهائلة تجعلنا نتوق إلى سياق روحي نعبّر فيه عن حزننا أو امتناننا أو نسعى إلى فهم ما يحدث حولنا.والمشكلة هي ماذا يعبدون ولمن يصلون.
لديّ صديق ولد طفله الأول بعد وفاة أمه الحبيبة،وبعد أن توالت عليه خسارة ومعجزة في وقت واحد،شعر بحاجة إلى مكان يذهب إليه أو شعيرة يؤديها لكي يتمكن من اجتياز كل تلك الانفعالات المتضاربة.){ص 253 - 254}.
عند الحكاية الحادية والسبعين،ينتهي مقام المؤلفة في الهند ... وسأختم هذه الحلقة بجزء من تلك الحكاية ...
رغم الفارق بين ما تسجد له .. ونسجد له – سبحانه وتعالى - إلا أن المبدأ الذي تحدثت عنه (ليز) يبدو كصفعة !!!! قبل أن أضعكم أمام الجزء المقتطف،أجدها فرصة سانحة للإشارة إلى ما أسميته (عقما) – بتقديم القاف على الميم – في خطابنا الديني!! آلاف المرات نسمع من يتحدث عن فضل (قيام الليل)،مع أن أحدا – ولا حتى الصغار – لم يعد ينام مبكرا ... مما يستوجب خطابا مختلفا .. أنت مستيقظ أصلا .. ثم تأتي الموعظة.
تقول (ليز):
(71)
(سأغادر الهند في رحلة الرابعة فجرا،ما يعتبر نموذجا لنمط الحياة هناك. قررت عدم النوم إطلاقا تلك الليلة،وقضاء الأمسية بأكملها في أحد كهوف التأمل،أسجد. أنا لا أطيل السهر عادة،ولكنني رغبت بالبقاء مستيقظة خلال تلك الساعات الأخيرة لي في المعتزل. فكثيرة هي الأمور التي بقيت مستيقظة لأجلها طوال الليل خلال حياتي : ممارسة الحب،الجدل مع شخص ما،القيادة لمسافات بعيدة،الرقص،البكاء،القلق (وفي بعض الأحيان جميع هذه الأشياء في ليلة واحدة).ولكنّني لم أضحّ أبدا بالنوم لأجل السجود وحسب،فلِمَ لا أفعل الآن؟){ص 255}.
إلى اللقاء في إندونيسيا .. إذا أذن الله.





طعام ... صلاة ... حُب : امرأة تبحث عن كل شيء"10"
{"خلطة" كتب}
أهلا بكم في إندونيسيا ... وأهلا بكم – أيضا – مع الحكاية الثالثة والسبعين :
(73)
(لم يسبق لي أبدا أن قمت بشيء لم أخطط له جيدا كما حدث عند وصولي إلى بالي. فعبر تاريخي الحافل بالأسفار الطائشة،كانت تلك الرحلة الأكثر طيشا التي قمت بها في حياتي.لم أكن أعرف أين سأسكن أو ماذا سأفعل،كما كنت أجهل قيمة صرف العملة أو كيفية إيجاد سيارة أجرة في المطار،أو حتى إلى أين أطلب من السائق إيصالي. ما من أحد يتوقع وصولي أساسا. (..) وتبين لي أنني أستطيع البقاء لشهر واحد بالتأشيرة السياحية. لم يخطر في بالي أن الحكومة الإندونيسية ستكون أقل من مسرورة باستضافتي ما طاب لي البقاء.){ص 261}.
بغض النظر عن عدم ترحيب الحكومية الإندونيسية بالمؤلفة!! إلا أنها وجدت الأمور الأخرى – من السكن وتبديل العملة – في غاية السهولة .. ومع كثير من الترحيب .. كان ذلك في (أبود) والتي تصفها (ليز) بقولها:
(74)
(كانت البلدة عبارة عن نسخة مصغرة لسانتافي،تتجول في أرجائها القرود والعائلات البالينية بأزيائها التقليدية. وكان ثمة مطعم جيد ومكتبات صغيرة جذابة. يمكنني قضاء كل وقتي هنا في أبود أقوم بما اعتادت المطلقات الأمريكيات اللطيفات على فعله منذ عقود،الانتساب إلى صف تلو الآخر ..){ص 264}.
بما أنني لا أعرف (سانتافي) فإن تصوري لـ(أبود) لم يكن بالوضوح الذي رغبت فيه الكاتبة .. في نفس الحكاية نجد حديثا عن الأسماء في .. (.. بالي أربعة أسماء يطلقها أغلب السكان على أطفالهم،بغض النظر عمّا إذا كانوا إناثا أم ذكورا. والأسماء هي واي – آن،مادي،نيومان،وكيتوت. ومعناها بكل بساطة الأول،الثاني،الثالث،الرابع،وتشير إلى ترتيب الطفل في العائلة. وفي حالة ولادة طفل خامس،يبدأون بدورة الأسماء من جديد،بحيث يعرف الطفل الخامس بشيء من هذا القبيل : "واي – آن الثاني" وهكذا دواليك.(..) من الممكن جدا،بل من الشائع،أن يتزوج شخصان يدعيان واي – آن بعضهما،ثم يطلقان على مولودهما الأول،بالطبع، اسم واي – آن.
وهذا ما يعطي إشارة بسيطة إلى مدى أهمية العائلة في بالي،ومدى أهمية مرتبتك فيها. وقد يبدو لك أن هذا النظام يصبح معقدا أحيانا،ولكن البالينيين يتدبرون أمرهم معه. ومن الطبيعي في هذه الحالة،لا بل من الضروري،أن تشيع الألقاب. على سبيل المثال،إحدى أبرز سيدات الأعمال في أبود هي امرأة تدعى واي _ آن وتملك مطعما هاما يدعى كافيه واي – آن،لذا فإنها معروفة باسم وي – آن كافيه،أي : واي – آن التي تملك كافيه واي – آن. وقد يطلق على شخص آخر لقب مادي السمين،أو نيومان لتأجير السيارات أو كيتوت الأحمق الذي أحرق منزل عمّه،أما صديقي الباليني الجديد ماريو فعالج المشكلة بتسمية نفسه ماريو وحسب.){ص 265}.
تكرار الأسماء لاشك أنه يذكرني بما يدانيه لدى بعض إخواننا الأفارقة - وتحديدا من جيراننا في (الحرة الشرقية) – والذي سمى أولاده – الذكور بطبيعة الحال – باسم واحد هو (محمد) ... ولكن : محمد الأول ... ومحمد الثاني ... وعولج الأمر بنفس الطريقة البالينية ... اختفى اسم (محمد) وبقي (أولّ) و(رابعُ) .. وهكذا.
هذا التشابه بين البشر .. يعيدنا إلى تشابه آخر .. فيبدو أن البشر هم البشر – طبعا المقصود "المرأة" هي "المرأة" – فمن بلاد غزاة القمر .. – نقلا عن "ماريو" - :
(أخذت مرة فتاة أمريكية مثلك إلى منزل كيتوت. أرادت الفتاة سحرا يجعلها أجمل في عيون الرجال. فرسم لها كيتوت رسما سحريا،لمساعدتها على أن تكون أكثر جمالا. وكنت أضايقها بعد ذلك وأقول لها كل يوم : "الرسم يعطي مفعوله! انظري كم أصبحت جميلة! الرسم يعطي مفعوله!"){ص 266}.
كان (ماريو) يؤكد لـ (بُقول) معرفته بعراف باليني،سبق لها أن قابلته في زيارة عمل قامت بها من قبل،وقد تنبأ لها ببعض الأمور،ومنها أنها سوف تعود إلى (بالي) .. وحين عثرت عليه :
(75)
(قلت : "لقد عدت! لقد عدت!"
"أنت،أنت،أنت!"
"أنا،أنا،أنا!"
كانت الدموع تملأ عينيّ ولكنني حاولت عدم إظهارها. كانت راحتي لا توصف.فقد فاجأني. وكأنني تعرضت لحادث سيارة،وانحرفت السيارة عن جسر وسقطت في قعر نهر وتمكنت بطريقة ما من الخروج من السيارة الغارقة بالسباحة عبر نافذة مفتوحة،ثم رحت أجاهد لبلوغ السطح عبر المياه الخضراء الباردة،وكنت على وشك الاختناق،شراييني تكاد تنفجر وخدايّ منتفخان بآخر نفس لي ثمّ – أخيرا! – شققت سطح الماء،ورحت أتنفس الهواء.ونجوت.ذلك النفس هو ما شعرت به حين سمعت العراف الإندونيسي يقول : "لقد عدتِ!" كانت راحتي بهذا القدر.){ص 270 - 271}.
أعتقد أن من يقرأ هذا التشبيه (الممتد) سيحتاج هو أيضا إلى أن يأخذ نفسا عميقا!!! ثم تحدثكم (ليز) عن الطريقة التي يعبر بها البالينيون عن اهتمام بعضهم ببعض :
(76)
(إن التقيت بغريب في الطريق وأنت تسير في بالي،فإن أول سؤال يطرحه عليك هو :"إلى أين أنت ذاهب؟" أما الثاني فسيكون : "من أين أنت آت؟" بالنسبة إلى الغربي،يبدو هذا استجوابا في غير محله من شخص غريب،ولكنه يحاول في الواقع تحديد اتجاهك،يحاول إدخالك في الشبكة لتشعر بالأمان والراحة. ولو أجبت بأنك لا تعلم إلى أين تذهب أو بأنك تتجول بلا هدف،قد تولد لدى صديقك الباليني الجديد شيئا من الأسى. ومن الأفضل بكثير اختيار اتجاه محدد – أيّ مكان – ليشعر الجميع بالاطمئنان.
السؤال الثالث : الذي سيطرحه عليك الباليني هو بالتأكيد : "هل أنت متزوج؟" والهدف من هذا السؤال هو أيضا تحديد الموقع والاتجاه. فمن الضروري بالنسبة إليه معرفة ذلك،للتأكد من أن حياتك منظمة تماما.وهو يود حقا أن تقول أجل. عندها،سيشعر براحة كبيرة لو قلت أجل.أما إن كنت عازبا،فمن الأفضل ألا تخبره بذلك على نحو مباشر. وأنصحك حقا ألا تذكر له أنك مطلق،إن كنت كذلك،وإلا سببت له القلق. فوحدتك تثبت له انفصالك الخطير عن الشبكة. فإن كنت امرأة عازبة مسافرة إلى بالي وسألك أحدهم : "هل أنت متزوجة؟" فإن أفضل إجابة هي : "ليس بعد". إنها طريقة مهذبة لقول كلا،مع الإشارة إلى نواياك التفاؤلية بشأن تصحيح هذا الوضع في أقرب فرصة.
حتى إن كنت بسن الثمانين أو كنت (..) أو مناصرة شديدة الحماسة للمساواة بين الجنسين أو راهبة،ولم يسبق لك الزواج قبلا ولا تنوين الزواج إطلاقا،يبقى الجواب الأكثر تهذيبا هو : "ليس بعدا".){ص 278 - 279}.
وتأكيدا لفكرة سابقة .. تقول المؤلفة في الحكاية التاسعة والسبعين :
(79)
(كلما غادرت الفندق،سألني ماريو والموظفون الآخرون على مكتب الاستقبال إلى أين أذهب،وكلما عدت،سألوني أين كنت. أتخيلهم يحتفظون بخرائط صغيرة في درج مكتبهم لجميع أحبائهم،مع علامات تشير إلى أين يذهب الجميع في كل وقت.){ص 286}.
في نفس الحكاية،تحدثنا الكاتبة عن جدولها اليومي ...
(أما بقية اليوم فأقضيه بأشكال متنوعة وغير مبالية.أتأمل لمدة ساعة كل صباح بتقنيات اليوغا التي علمتني إياها مرشدتي،ثم أتأمل لمدة ساعة كل مساء على طريقة كيتوت ("اجلسي ساكنة وابتسمي"). وبين هاتين الجلستين أتنزه سيرا على الأقدام،وأركب دراجتي،وأتحدث أحيانا مع الناس،وأتناول طعام الغداء. عثرت على مكتبة صغيرة تعير الكتب في تلك البلدة،فحصلت على بطاقة،وأصبحت أمضي الآن أجزاء كبيرة وممتعة من حياتي وأنا أقرأ في الحديقة. فبعد حدة الحياة في المعتزل،وحتى بعد فترة الانحطاط التي أمضيتها وأنا أجوب إيطاليا وآكل كل ما يقع عليه نظري،كانت هذه الفترة من حياتي جديدة وهادئة على نحو جذري. كان لديّ من الفراغ ما يمكن قياسه بالأطنان.){ص 286}.
لعلي لم أنقل هذا الجزء إلا لسبب واحد .. ووحيد .. هو (المكتبة)!!!!!!! وليتها (مكتبة) فقط !!! بل تعير (السائح)!!!!!!!!!! لا أدري هل تحالفت (إليزابث) مع (قوى الشر) – الصهيونية العالمية – لإغاظتي؟!!!!!!!!!!! هكذا ببساطة تحصل على بطاقة إعارة،وهي مجرد سائحة!!!!!!!
أعادتني هذه الحكاية إلى موقف قديم ... ربما أكثر من خمسة عشر عاما ... كنت حينها مدمنا على زيارة مكتبة الجامعة ... ولا أكتفي بالزيارة بل أستعير الكتب!! في إحدى تلك الزيارات،شاهدت رجلا (مسنا) يحاول أن يستعير كتبا .. وهو أكاديمي .. ولكن في جامعة أخرى – مجاورة،وليست في المريخ - ... فاعتذر له الموظف لأن (النظام) لا يسمح.
في الحكاية التالية،تتبين لنا (مضار) القراءة!!! فقد أسهمت الكتب التي استعارتها (ليز) من المكتبة إلى تغيير رأيها،أو على توسيع نظرتها إلى (بالي) .. أو معرفة تأريخها الدامي ...
(80)
(ينبغي عليّ الآن أن أكون صادقة وأقول أن الأمر استغرق مني ثلاثة أيام فقط من البحث في المكتبة المحلية لأدرك أن أفكاري الأساسية عن الفردوس البالينية كانت مضللة بعض الشيء. فقد كنت أخبر الناس منذ أن زرت بالي منذ عامين أن هذه الجزيرة الصغيرة هي المدنية الفاضلة الوحيدة في العالم،مكان لم يعرف سوى السلام والتناغم والتوازن باستمرار. إنه فردوس حقيقية لم يعرف تاريخها العنف أو الدماء أطلاقا. لا أعرف من أين أتيت بهذه الفكرة،ولكنني كنت أبرهنها{هكذا} بثقة تامة.
كنت أقول : "حتى ضباط الشرطة يضعون زهرة في شعرهم". وكاّن هذا الأمر يؤكد كلامي.
غير أنه تبين لي أن لبالي تاريخيا حافلة بالعنف والقمع شأنها شأن أيّ مكان عاش فيه الإنسان على هذا الكوكب. فحين هاجر ملوك جافا إليها في القرن السادس عشر،أسسوا فيها مستوطنة إقطاعية قامت على نظام طبقي صارم لم يقل في قلة اكتراثه بالسواد الأعظم من الناس عن غيره من الأنظمة الطبقية التي تحترم نفسها. وكان اقتصاد بالي في البداية قائما على تجارة الرقيق المربحة ( التي لم تسبق وحسب المشاركة الأوربية في تجارة الرقيق العالمية بعدة قرون،بل استمرت بعدها بفترة طويلة). في الداخل عرفت الجزيرة حروبا مستمرة بين الملوك المتنافسين الذين كانوا يقومون بهجمات متقطعة على جيرانهم مع خطف وقتل جماعي.وحتى القرن التاسع،كان البالينيون معروفين بين التجار والبحارة بأنهم مقاتلون وحشيّون.(..) فقد تمكن البالينيون بجيش منظم بلغ عدده 30 ألفا من هزيمة الغزاة الألمان عام 1848،ومرة ثانية عام 1849،وثالثة عام 1950. ولم يسقطوا تحت السيطرة الألمانية إلا حين انشق صف ملوك بالي وخانوا بعضهم تنافسا على السلطة،ووقفوا في صف العدو مقابل وعود بصفقات مربحة لاحقا. وبالتالي فإن تحويل تاريخ الجزيرة إلى فردوس هو أمر مهين للحقيقة،فهؤلاء الأشخاص لم يقضوا الألفية الماضية وهم يجلسون مبتسمين وينشدون أغنيات سعيدة.
لكن في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي،حين اكتشفت بالي مجموعة من المسافرين،ينتمون إلى صفوة المجتمع الغربي،تمّ تجاهل كل هذا التاريخ الدموي حين اتفق القادمون على أن هذا المكان هو فعلا جزيرة جميع من فيها فنانون وتعيش فيها الإنسانية في نعيم مقيم. وعاش هذا الحلم طويلا،وظل يؤيده معظم زوار بالي (بما فيهم أنا في زيارتي الأولى). فقد قال المصور الألماني جورج كراوز بعد زيارته بالي في الثلاثينات: "أنا غاضب لأنني لم أولد بالينيا". وسقط بعض مشاهير السياح تحت إغراء ما قيل عن الجمال الخلاب والهدوء اللذين تتمتع بهما بالي،فبدأوا يقصدون الجزيرة (..) انتهت تلك المرحلة في الأربعينات حين خاض العالم الحرب. فاجتاح اليابانيون إندونيسيا واضطر المغتربون إلى مغادرة نعيم الجنة البالينية. وخلال النضال في سبيل الاستقلال الإندونيسي الذي أعقب الحرب،عرفت بالي الانقسام والعنف شأنها شأن بقية أنحاء الأرخبيل،وبحلول الخمسينات ( بحسب دراسة بعنوان : بالي : فردوس مبتكرة) لو تجرأ أحد الغربيين على زيارة بالي،فإنه لا ينام من دون مسدس تحت وسادته. وفي الستينات حول الصراع على السلطة إندونيسيا بأكملها إلى ساحة حرب بين القوميين والشيوعيين. وبعد محاولة انقلاب جاكرتا عام 1956،تم إرسال جنود قوميين إلى بالي مع لائحة بأسماء جميع الشيوعيين المشتبه بهم على الجزيرة.(..) وبانتهاء مهمتها،غصت أنهار بالي الجميلة بما يقارب 100 ألف جثة.
في أواخر الستينات،عاد حلم الفردوس إلى الحياة،حين قررت الحكومة الإندونيسية إعادة ابتكار بالي في سوق السياحة الدولية وأطلقت حملة تسويق ضخمة وناجحة. والسياح الذين أغرتهم بالي مجددا كانوا من المثقفين الذين جذبهم الجمال الفني المتأصل في الثقافة البالينية. أما صفحات التاريخ السوداء فتم إغفالها،وظلت مهملة منذ ذلك الحين.
هذه الحقائق التي اكتشفتها خلال الساعات التي كنت أمضيها أقرأ في المكتبة المحلية سببت لي الإرباك. ما الذي أتى بي إلى بالي؟ سعيي إلى التوازن بين اللذة الدنيوية والتعبد الروحاني،صحيح؟ هل أنا في المكان المناسب لهذا البحث؟ هل يعيش البالينيون فعلا هذا التوازن،والسكينة أكثر من بقية أهل الأرض؟ أعني أنهم يبدون متوازنين مع كل الرقص والاحتفالات والجمال والابتسام،ولكنني لا أعرف ما الذي يجري فعلا خلف كل هذا. رجال الشرطة يضعون فعلا أزهارا خلف آذانهم،ولكن الفساد يعم أرجاء بالي،كما هو الحال في مختلف أنحاء إندونيسيا (كما تبين لي شخصيا في اليوم الفائت حيت دسست لرجل يرتدي بزة رسمية بضع مئات من الدولارات ليمدد لي تأشيرتي وأتمكن من البقاء في بالي أربعة أشهر). الباليون أوفياء للصورة التي تجعل منهم شعبا مسالما ومتعبدا وبارعا في التعبير الفني أكثر من أيّ شعوب العالم،ولكن كم من هذه الصفات حقيقي وكم منها محسوب اقتصاديا؟(..) ما أنا أكيدة منه الآن هو أنني أحب المنزل الذي استأجرته وأن الناس في بالي كانوا لطفاء معي من دون استثناء. أجد فنهم وطقوسهم جميلة مجدّدة،وهذا ما يظنونه هم أيضا على ما يبدو. هذه هي تجربتي في مكان أكثر تعقيدا مما ظننت. ولكن مهما احتاج البالينيون إلى فعله ليحافظوا على توازنهم ويكسبوا قوتهم،فإن الأمر من شانهم وحدهم. أنا هنا للعمل على توازني وحسب،ولا يزال هذا المكان يبدو لي،حتى الآن على الأقل،مناخا مناسبا لذلك.){ص 288 - 292}.
نحن أيضا لا يعنينا تأريخ الباليين. لذلك سوف نتقل إلى الحكاية الحادية والثمانيين،لنرى صبر (البالينيين)،وصبر (عراف ليز) على علاج مرضاه .. وأطفال (بالي) .. وعلاقة الأسنان بالسفر بالطائرة!! :
(81)
(.. كان الصبر هو المزاج السائد في باحة كيتوت دوما. إذ ينبغي على البعض الانتظار لثلاث ساعات قبل أن يجد كيتوت الوقت لهم،ولكنّ أحدا منهم لا ينقر الأرض بقدمه أو ينظر إلى الأعلى تذمرا. والأعجب من ذلك أيضا،الطريقة التي ينتظر بها الأطفال،متكئين على صدور أمهاتهن{هكذا} الجميلات،يلعبون بأصابعهم لتمضية الوقت. وقد فوجئت لاحقا حين اكتشفت بأنه تم إحضار هؤلاء الأطفال الهادئين لأنهم برأي أهلهم سيئو السلوك ويحتاجون إلى علاج. تلك الفتاة الصغيرة؟ تلك الطفلة ذات الأعوام الثلاثة التي كانت جالسة بصمت في الشمس لأربع ساعات متواصلة،من دون تذمر أو طعام أو لعبة؟ هي سيئة السلوك؟ تمنيت لو أمكنني أن أقول لهم : "أيها الناس،تعالوا إلى أمريكا لتروا سوء السلوك على حقيقته. تعالوا لأريكم بعض الأطفال الذين سيدفعونكم للجنون". ولكن مقاييس السلوك الحسن مختلفة هنا بالنسبة إلى الأطفال.
عالج كيتوت جميع المرضى بلطف،من دون الاهتمام بمرور الوقت،وأعطى لكل فرد الاهتمام الذي يحتاج إليه بغض النظر عمن يكون المريض التالي. وكثرة انشغاله حالت دون تناول حتى وجبته الوحيدة في وقت الغداء،بل ظل مستمّرا على شرفته،ملتزما باحترامه لأسلافه،وجلس هناك لساعات متواصلة لمعالجة الجميع. بحلول المساء،بدت عيناه كعيني جرّاح في ساحة حرب أهلية.(..) قلت له : "ربما أمكنك المجيء لزيارتي في أمريكا يوما ما،كيتوت".
هزّ رأسه نافيا ومستسلما بمرح لقدره : "لا يمكنني يا ليز. لا أملك ما يكفي من الأسنان للسفر بالطائرة".){ص 297 - 298}.
يبدو أن (بُقول) تدور،وتدور،لتعود إلى الحديث عن الطلاق ... ومعاناة النساء معه ... فهاهي المؤلفة تتعرف على سيدة بالينية .. مطلقة .. بعد أن عالجتها من آثر حادث سير حصل لها وهي تقود دراجتها النارية ... ثم بدأت (وايان نور ياسي) – وهذا اسم الطبيبة – تحكي قصتها مع زوجها،وهي تضمد الجرح :
(86)
(ضربني بقوة إلى أن فقدت وعيي وشعرت بالدوار لم أعد أرى. أعتقد أنني محظوظة لأنني معالجة،ورثتها عن عائلتي،لأنني أعرف كيف أعالج نفسي بعد أن يضربني. لو لم أكن معالجة لخسرت أذني،أعني أن أتمكن من سماع الأصوات. أو ربما خسرت عيني،توقفت عن الرؤية". أخبرتني أنها تركته بعد أن ضربها بعنف شديد إلى أن خسرت طفلي،أبني الثاني الذي كان في بطني. بعد تلك الحادثة قالت لها ابنتها الأولى،وهي فتاة صغيرة ذكية يلقّبونها توتّي : "أعتقد أنه عليك الحصول على الطلاق،ماما. فكلما ذهبت إلى المستشفى تتركين كثيرا من العمل في البيت لتوتّي".
كانت توتّي في الرابعة من عمرها حين قالت ذلك.
الخروج من الزواج في بالي يترك المرء وحيدا ومفتقدا للحماية بوسائل يستحيل على الإنسان الغربي تخيلها. فالعائلة البالينية،المطوقة ضمن أسوار مجمع العائلة،هي كل شيء. (..) كان خيارها إما البقاء في أمان مجمع العائلة،مع زوجها الذي يرسلها باستمرار إلى المستشفى،أو إنقاذ حياتها و الرحيل،ما يعني خسارة كل شيء.
لم تخسر وايان كل شيء بالضبط. فقد أخذت معها موسوعة علاجية،طيبتها،أخلاق عملها وابنتها توتّي،التي حاربت ببسالة للاحتفاظ بها. فمجتمع بالي أبوي حتى العظم. وفي حالات الطلاق النادرة،يبقى الأبناء مع أبيهم دائما. وللحصول على حضانة توتّي،اضطرت وايان إلى توكيل محامي دفعت له كل ما لديها. أعني كل شيء. لم تبع أثاثها ومجوهراتها وحسب،بل ملاعقها وسكاكينها،جواربها وأحذيتها،مناشفها القديمة وشموعها نصف المحترقة،كل شيء ذهب لتسديد أجر ذلك المحامي. ولكنها استعادت ابنتها. ووايان محظوظة لأن توتّي فتاة. ولو كانت صبيا،ما كان لها لتراها مجددا. فالذكور أكثر أهمية بكثير في بالي.){ص314 - 316}.
دون أن نجرح أخواتنا اللائي عانين من الحصول على الطلاق ... لابد أن نتذكر بساطة الأمور في الإسلام. وأتذكر أن مصر كانت تسعى لسن قوانين تجعل الطلاق لا يقع إلا أمام القاضي .. أي استنساخ التجربة الغربية،حتى في الطلاق!!! كل الذي أذكره (شريطا)،حول الموضوع للشيخ عبد الحميد كشك،رحم الله والديّ ورحمه.
طعام ... صلاة ... حُب : امرأة تبحث عن كل شيء"11"
{"خلطة" كتب}
ربما تكون هذه الحلقة هي الحلقة الوحيدة التي وجدت نوعا من (الحرج) في كتابتها. وقبل أن أحيل الكلام إلى المؤلفة لتحدثكم بنفسها ... أجدُ أنه من الأفضل أن أعود إلى الحلقة الرابعة لأقتطف منها هذه الأسطر :
((مرة أخرى يبرز لنا الإسلام كجواب على بحث (ليز) عن التوازن بين المتعة الروحية والدنيوية. ليس تحيزا،ولكن أليس الإسلام هو دين : ( وفي بضع أحدكم أجرا)، أو كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم.
مناسبة هذا الكلام هو قول (ليز) في الحكاية :
(9)
(حقيقتي هي في الواقع ما قلته للعرّاف في بالي بالضبط – أردت اختبار الاثنين : المتعة الدنيوية،والتجاوز الروحي – المجد المزدوج للحياة البشرية. أردت ما سمّاه الإغريق التوازن الفريد للخير والجمال. فقد كنت أفتقد إلى الاثنين في السنوات الصعبة الماضية،لأن كلا من المتعة والتعبد يحتاجان إلى مساحة خالية من التوتر يزدهران فيها،بينما كنت أعيش في مستوعب كبير من القلق المتواصل.){ص 35}.
قررت (ليز) أن تعيش العزوبة،وعاشت حياة روحية صرفة،خصوصا في الهند،وظلت تمارس رياضة (التأمل)،حتى بدت – عبر كتابها – وكأنها نسيت الجزء الآخر،أي الجسد ... ولكن!!
ولكن هذه تعيدنا إلى الحكاية السادسة والثمانين،وتحديدا إلى (لقطة) كشف الطبيبة – والصديقة في نفس الوقت – البالينية على الركبة المصابة للمؤلفة :
(86)
(قالت وايان : "ركبتك أفضل الآن. تحسنت بسرعة وزال الالتهاب". مسحت آخر الأعشاب الخضراء عن ركبتي ثم راحت تتحسسها قليلا. بحثا عن شيء ما. ثم كررت ذلك على الركبة الأخرى وهي تغمض عينيها. أخيرا فتحتهما وقالت مبتسمة : "أستطيع أن أعرف من ركبتيك بأنك لم تمارسي (؟؟؟؟) مؤخرا".
سألتها قائلة : "لماذا؟ (تلميحة لا داعي لذكرها) فضحكت وقالت : "كلا،إنه الغضروف. فهو جاف جدا. هرمونات (؟؟) تلين المفاصل. كم مضى عليك ......"
"سنة ونصف".
"أنت بحاجة إلى رجل جيد.سأحصل لك على واحد. سأصلي في المعبد لكي تجدي رجلا جيدا،لأنك أصبحت أختي الآن. وإن أتيت غدا،سأنظف لك كليتيك".
"رجل جيد،وكليتان نظيفتان؟ هذا كثير".
"أنا لا أخبر أحدا بهذه الأمور عن طلاقي. ولكن حياتي حزينة جدا وصعبة جدا. لا أفهم لم الحياة صعبة إلى هذا الحد".){ص 318 - 319}.
هذا الحديث – من حيث المبدأ – يذكرني بكتاب الأستاذة فاطمة شوكت عليان :
مشكلات المرأة الكبرى : العزوبة والغريزة / د.م / نشر خاص / 1996م / الطبعة الأولى / 154 صفحة.
مرة أخرى تعود الطبيبة لتلح على نفس الموضوع،ولكن في الطريق إلى ذلك هناك (وصفة )لإطالة الشعر.{لمن لديهن "شجرة موز"!!} لا أحب إعطاء الأمور أكبر من حجمها،ولكن هل اهتمام (بُقول) بأن يصبح شعرها غزيرا،هل له علاقة بالأفكار التي أثارها حديث الطبيبة؟! على كل حال إلى الحكاية الثامنة والثمانيين :
(88)
(كنت جالسة في متجر وايان مجددا هذا الصباح وكانت تحاول إيجاد علاج يجعل شعري ينمو بشكل أسرع ويجعله أكثر كثافة. فمع شعرها الكثيف اللماع الرائع الذي ينسدل حتى وركيها،تشعر بالأسف على حفنة شعري الشقراء. وكمعالجة،لديها بالطبع علاج يساعد على جعل شعري أكثر كثافة،ولكنه لن يكون سهلا. أولا،عليّ أن أعثر على شجرة موز وأن أقطعها بنفسي. ثم أقوم برمي الجزء الأعلى من الشجرة،وتجويف الجذع والجذور (التي ما زالت في الأرض) على شكل وعاء كبير وكأنها حوض سباحة. بعد ذلك،أقوم بتغطية هذه الحفرة بقطعة خشب لمنع ماء المطر والندى من الدخول إليها. وبعد بضعة أيام،سأجد حوض السباحة الذي صنعته امتلأ بسائل غني بالمغذيات أفرزته جذور الموز،فأجمعه في زجاجات (..) عندها أفرك به فروة رأسي كل يوم. وخلال بضعة أشهر،يصبح شعري كثيفا،لا معا وطويلا مثل شعر وايان.
قالت : "حتى لو كنت صلعاء،سينبت شعرك بهذا العلاج".(..) هذا ما كنا نفعله طيلة اليوم في متجر وايان. نجلس ونتحدث،توتّي ترسم وأنا و وايان في قيل وقال،نضحك ونمزح مع بعضنا. كانت وايان تتمتع بروح الفكاهة،تتحدث دوما عن (؟؟) تمازحني لأنني عزباء (..) كانت تخبرني دوما بأنها تذهب إلى المعبد كل مساء وتصلي لكي يظهر رجل جيد في حياتي،وأغرم به.
أخبرتها من جديد هذا الصباح: "كلا،وايان،لا أحتاج إلى ذلك. فُطر قلبي مرات عديدة".
قالت : "أعرف علاجا للقلب المفطور". ثم عدت على أصابعها على طريقة الطبيب الحازم العناصر الستة لعلاجها المضمون للقلب المفطور :
"فيتامين E،كثير من النوم،كثير من الماء،السفر إلى مكان بعيد عن المحبوب،التأمل وتعليم القلب بأن هذا هو القدر".
"قمت بكل شيء حتى الآن،ما عدا فيتامين E ".
"إذا لقد شفيت الآن،وأصبحت بحاجة إلى رجل جديد. سأجد لك رجلا".
"أنا لا أدعو لإيجاد رجل. الشيء الوحيد الذي أدعو لأجله هذه الأيام هو إيجاد السلام مع نفسي".
فنظرت وايان إلى أعلى سئمة،وكأنها تقول أجل،صحيح،كما تشائين أيتها البيضاء الغريبة الأطوار،وقالت : "هذا لأنك تعانين من ضعف الذاكرة. ما عدت تذكرين كم أن ..){ص 322 - 324}.
لم يتوقف الأمر،عند رغبة (ليز) في أن يصبح شعرها غزيرا،بل حضرت (حفلة) :
(89)
(لا أذكر آخر مرة ارتديت فيها ملابس سهرة،ولكن هذا المساء أخرجت من حقيبتي فستانا طويلا بلا كمين وارتديته (..) كان العشاء مع المغتربين مسليا جدا (..) أم مع البرازيلي الوسيم المتقدم في السن الذي أعدّ هذه الوليمة الهائلة لنا جميعا؟ فقد أحببت عينيه البنيتين الطيبتين ولهجته،وطبخه بالطبع. قلت له شيئا مثيرا جدا بلا سبب. كان يمزح ويقول : "أنا كارثة حقيقة،لا أتقن الرقص ولا كرة القدم ولا أعزف على أيّ آلة موسيقية". ولسبب ما قلت له : :ربما كان هذا صحيحا. ولكن لديّ شعور بأنك تتقن لعب دور الكازانوفا جيدا". توقف الزمن للحظات طويلة،وانتشرت جرأة عباراتي في الهواء حولنا كالعطر. ولم ينف ذلك. فأشحت نظري أولا،وشعرت باحمرار خدّيّ.){ص 326 - 327}.
ثم دار حوار بين المؤلفة و (فيليبيه)/وهذا هو اسم الرجل البرازيلي :
("ستعيشين أياما رائعة هنا في بالي،سترين".
"ولكنني لا أعرف كم يمكنني أن أكون اجتماعية،فيليبيه؟ لا أملك سوى فستان واحد . سيلاحظ الناس قريبا أنني أرتدي الفستان نفسه طيلة الوقت".
"أنت شابة وجميلة،حبيبتي.{ سبق لها أن كتبت :"أحببت وجوده معي،يفتح لي الأبواب ويجاملني ويناديني حبيبتي. ولكنني لاحظت بأنه ينادي الجميع حبيبي أو حبيبتي،حتى النادل غزير الشعر. مع ذلك،كان اهتمامه لطيفا."ص 327 - 328 } لا تحتاجين سوى إلى فستان واحد".){ص 330}.
في الحكاية التالية،مباشرة،سوف يقول لها شيئا فتتساءل :
(90)
(هل أنا شابة جميلة؟
ظننت أنني عجوز مطلقة. ){ص 330}. ثم تتحدث عنه في الحكاية الثالثة والتسعين .. ولكن ذلك سيكون في الحلقة المقبلة ...... إذا أذن الله.

طعام ... صلاة ... حُب : امرأة تبحث عن كل شيء"12"
{"خلطة" كتب}
ليست هذه الحلقة غير امتداد للحلقة السابقة،الحلقة الأكثر حرجا. في الحكاية الثالثة والتسعين،تتحدث (ليز) عن البرازيلي الذي تعرفت عليه في (الحفل) :
(93)
(لكنه في الثانية والخمسين. وهذا الأمر مثير للاهتمام. هل بلغت سنا أصبحت أجد فيها رجلا بسن الثانية والخمسين ضمن دائرة اهتمامي؟{وإشبهم اللي عمرهم 52؟!!!!! بدأت تغلط !!} مع ذلك،هو يعجبني بشعره الفضي ورأسه الذي بدأ يجتاحه الصلع على نحو جذاب.{هذا الكلام!!} عينان بنيتان ودافئتان. وجهه لطيف ورائحته رائعة. كما انه رجل ناضج فعلا،وهذا جديد بالنسبة لي. (..) أحب طريقته في الإصغاء إليّ،يتكئ إلى الأمام ولا يقاطعني إلا حين أقاطع نفسي لأسأله ما إذا كنت أسبب له الملل،فيجب : "لديّ كل الوقت لأجلك،يا حبيبتي الصغيرة الجميلة". أحببت هذا الوصف،وإن كان يطلقه على النادلة أيضا.){ص 338}.
ثم دار بينهما هذا الحوار :
(قلت له :"لقد فُطر قلبي بشكل خطير آخر مرة حتى إنه ما زال يؤلمني. أليس غريبا أن تتألم لسنتين تقريبا بعد انتهاء قصة حب؟".
"عزيزتي،أنا من جنوب البرازيل. يمكنني أن أتألم لعشر سنوات لأجل امرأة .. ".
تحدثنا عن زواجنا وطلاقنا،ليس بطريقة سيئة،بل لمواساة بعضنا. وقارنا تجاربنا عن الإحباط العميق الذي لا قرار له والذي يعقب الطلاق. أكلنا وشربنا معا وأخبرنا بعضنا أجمل القصص التي نتذكرها عن طليقينا،لنزيل مرارة تلك الخسارة.){ص 340}.
وظل الأمر ينمو،حتى الحكاية السادسة والتسعين :
(96)
(أعجب بجسدي حين رآه للمرة الأولى (..) وقال لي إن لدى البرازيليين (بالطبع) عبارة تصف جسدي بدقة،وهي magrafalsa،أي نحيلة في الظاهر،بحيث تبدو المرأة نحيلة عن بعد ولكن لدى الاقتراب منها،ترى أن جسدها مستدير ومكتنز،ما يعتبره البرازيليون شيئا جيدا. بارك الله فيهم.){ص 348}.
تعود المؤلفة لتتحدث بإسهاب،أو لتتذكر قصة زواجها :
(تزوجت شابة وبسرعة،كنت مغرمة ومتفائلة،ولكنني لم أناقش كثيرا حقيقة الزواج. ولم ينصحني أحد في ذلك. فقد تربيت على الاستقلالية،والاكتفاء الذاتي،واتخاذ القرارات بنفسي. وحين بلغت ا