نص نقلته لماجاء فيه مما يلفت الانظار عل احد أدباءنا الكرام يفتي ويضيف:
تولستوي وشكسبير
أثار تولستوي في شخصيته وفي أعماله إشكاليات بقيت علامات بارزة في الأدب العالمي حتى وقتنا الراهن. فالرجل لم يكتف بحدود كتابة الأدب، بل قدم نفسه بوصفه ناقداً ومصلحاً، بل وحتى رجل دين.
وإذا كانت أعماله الروائية قامات شامخة في الأدب العالمي، فإن كراساته التي ضمنها آراءه ومواقفه الذاتية، وبعضاً من نزقه، كانت أقل شهرة. ذلك أنها لم تترجم إلا فيما ندر. لكن بحثاً متأنياً أظهر إلى الوجود كراسة بالروسية كان الزمن قد طواها، إلى أن وجدت من ينقلها إلى الإنكليزية. أثارت تلك الكراسة ضجة كبرى. فقد تناول فيها ذلك الأرثوذكسي العنيد، قامة أخرى لا تقل هيبة عنه. القامة تلك كانت ولسوء حظ تولستوي، شكسبير. والطريف في الأمر أن من تصدى لنقد كراسة تولستوي لم يكن بالشخص العادي أيضاً، فهو الروائي السياسي البريطاني المعروف جورج أورويل، نزق آخر، كان قد جمع ما بين انتمائه لوطنه، وحبه لروسيا قبل الثورة وبعدها. لم ينطلق أورويل في دفاعه عن شكسبير من إنكليزيته، بل بوصفه ناقداً أدبيا غيوراً، أحس بالجور الذي تعرض له شكسبير.
تولستوي وشكسبيرجورج أورويل
تعتبر كراسات تولستوي الأقل شهرة من بين أعماله. وهجومه على شكسبير وثيقة لم يكن من السهولة بمكان العثور عليها في ترجمة إنكليزية. لذلك، سيكون من المفيد إذا أوجزنا ما تضمنته هذه الكراسة قبل الشروع في نقاشها.
يقول تولستوي:
" أثار شكسبير عندي سأماً واشمئزازاً كبيرين. فالمجد الذي وصل إليه ما هو إلا شر كبير، كما هو شأن كل زيف".
ويضيف تولستوي بأن شكسبير لا يرقى إلى مستوى كاتب عادي. ولكي يوضح هذه الحقيقة يشرع في دراسة مسرحية " الملك لير" قبلة المدائح ، بوصفها مثالاً على أهم أعمال شكسبير.
يعرض تولستوي لحبكة الملك لير واجداً في كل خطوة غباء، وإطناباً، وتصنعاً، ومفارقات تاريخية، وسوقية، وسأماً، وأحداثاً غير معقولة. فهناك هذيانات ضارية، ومزاحاً لا روح فيه، ومفارقات تاريخية وفحشاً وتقاليد مسرحية عفا عليها الزمن، ومطبات أخلاقية وأخرى جمالية . باختصار الملك لير ليست سوى انتحال لمسرحية أقدم وأفضل لكاتب غير معروف، سرقها شكسبير ودمرها.
ينطق تولستوي بحكمه النهائي على لير بأن ليس هناك من مُشاهِد يقظ يمكن أن يقرأ هذه المسرحية إلى النهاية من دون أن تنتابه مشاعر "المقت والسأم". ويسحب تولستوي قوله هذا على مسرحيات شكسبير جميعها التي تلقفها الناس بالتقدير، دون أن نذكر الحكايات الممسرحة التي تخلو من أي معنى على حد تعبير تولستوي.
بعد معالجته لمسرحية لير يسوق تولستوي تهماً عامة ضد شكسبير.فهو يجد لدى شكسبير مهارة تقنية معينة يمكن للمرء أن يقتفي أثرها إلى ماضيه كممثل، باستثناء ذلك فهو لا يستحق أية فضائل أو ميزات. فليس لدى شكسبير القدرة على رسم الشخوص المسرحية أو على خلق كلمات وأفعال تنبع من الحالة بوجه طبيعي، ولغته مبالغ فيها بل وسخيفة. كما أنه يقحم وباستمرار أفكاره في فم أية شخصية تقع في متناول يده، أضف إلى أنه يكشف عن " غياب كامل للتذوق الجمالي" وكلماته " ليس لها ما يجمعها مع الفن والشعر".
وهنا يبرز السؤال الصعب. إذا كان شكسبير ما قال تولستوي عنه، كيف حدث وأن انتزع إعجاب الجميع؟ من الواضح أن الجواب يكمن – بحسب تولستوي- في حالة يمكن وصفها بالنوام الجماعي. فقد تمَّ تضليل العالم المتمدن برمته عندما فرض عليه مسلمة تقول إن شكسبير كاتب من الطراز الأول. ودائما الكلام لتولستوي، فإن أي دليل يناقض الانطباع العام عن شكسبير لن يفيد، ذلك أن المرء لا يتعامل مع نظرة عقلانية، ولكن مع شيء يشبه العقيدة الدينية.
أما بالنسبة إلى الطريقة التي بدأت فيها شهرة شكسبير، يقول تولستوي " لقد أيقظ بعض أساتذة جامعات ألمانيا شهرة شكسبير في نهاية القرن الثامن عشر. و بعد أن تأصلت سمعته هناك انتقلت إلى إنكلترا". لقد اختار الألمان أن يرفعوا من قدر شكسبير في وقت خلت فيه الدراما الألمانية مما يستحق الذكر، وبدأ الأدب الفرنسي الكلاسيكي ينحدر إلى التفاهة والتصنع. لقد سحر الألمان " بالتطوير الذكي للمشاهد الذي أنجزه شكسبير"، كما وجدوا فيهً تعبيراً جيداً عن وجهة نظرهم حيال الحياة. فعندما أعلن غوته بأن شكسبيراً شاعر عظيم، اندفع خلفه النقاد الآخرون شأن حشد من الببغاوات. ومذاك استمرت حالة الافتتان والخبل هذه. والنتيجة كانت مزيداً من الحط من قدر الدراما، ومزيداً من التخريب للمشهد الأخلاقي السائد. وأردف "بأن التمجيد المزيف لأعمال شكسبير، هو الشر بعينه"، وهذا ما جعله يعتقد أن من واجبه مقاومته.
هذا هو فحوى كراسة تولستوي.
ثمة سؤال يمكن أن يمهد لنا الطريق الذي ربما يوصلنا إلى السبب الذي حدا بتولستوي أن يهاجم شكسبيراً بوجه عام ومسرحية الملك لير بوجه خاص. أليس من الممكن أنه يحمل عداءً خاصاً تجاه هذه المسرحية بعينها لأنه كان مدركاً عن وعي أو دون وعي للتشابه القائم بين حكاية لير وحكايته هو- أي تولستوي؟
إن واحداً من بين الأشياء التي يمكن للقارئ الإنكليزي أن يلاحظها في كراسة تولستوي هو أنها لا تتعامل مع شكسبير بوصفه شاعراً، بل بوصفه مسرحياً فقط. إن من يحرصون أكثر من غيرهم على شكسبير يقدرون وفي المقام الأول استخدامه للغة " الموسيقا اللفظية" التي اعترف بها ناقد آخر كاره لشكسبير أيضاً" جورج برنارد شو" حين وصفها بأنها "لا تقاوم".
لكن تولستوي يتجاهل هذا، ولا يدرك أن القصيدة يمكن أن تحوز على قيمة خاصة لأولئك الذين يتحدثون اللغة التي كتبت بها. على أية حال، حتى لو وضع المرء نفسه مكان تولستوي وحاول أن يفكر بشكسبير بوصفه شاعراً أجنبياً، فسيتضح أن هناك شيئاً ما كان قد أغفله تولستوي. لا يبدو الشعر مجرد أصوات وإيحاءات كما أنه لا قيمة له خارج مجموعته اللغوية، وإلا كيف نفسر أن بعض القصائد بما في ذلك قصائد كتبت بلغات ميتة نجحت في اختراق الحدود تولستوي كان محقاً عندما قال إن الملك لير ليست مسرحية جيدة بحد ذاتها. والسبب في ذلك أنها طويلة إلى درجة كبيرة، وفيها حشد كبير من الشخصيات والعديد من الحبكات الثانوية. كما أن ابنة شريرة واحدة كانت تكفي، وإدغار شخصية زائدة. وبالفعل كانت المسرحية لتبدو أفضل لو أن غلوستر وأولاده لم يكونوا في المسرحية. رغم ذلك هناك شيء ما، هو نوع من النموذج، يبقي على التعقيدات والفقرات. ويمكننا أن نتخيل الملك لير على أنها مسرح دمى أو مسرح إيمائي أو باليه أو سلسلة من صور. إن جانباً من الشعر الموجود فيها الذي ربما كان الجانب الأهم، كامنٌ في الحكاية، وهو لا يعتمد على أيّة مجموعة معينة من الكلمات ولا على شخوص آدمية.
دعونا نغمض عيوننا ونفكر بالملك لير، وألا نستدعي إلى أذهاننا أياً من الحوارات. ما الذي سنراه؟ إليكم ما سنرى، عجوز رائع بثوب أسود طويل وشعر أبيض مسترسل ولحية. شخص خرج من عباءة رسومات بليك ( واللافت أنه يشبه تولستوي إلى حد بعيد ). يتجول خلال العاصفة يشتم السماوات ويلعنها. بصحبته بهلول ومجنون. سرعان ما يتغير المشهد ويستمر العجوز في سبابه وشتائمه، غافلاً عن أي شيء، يحمل فتاة صغيرة بين ذراعيه بينما يتدلى البهلول على مشنقة في مكان ما من المشهد. هذا هو هيكل المسرحية. هنا يريد تولستوي أن يقتطع جلَّ ما هو هام وضروري. فهو يعترض على العاصفة، فهي و برأيه ليست ضرورية. كما يعترض على البهلول الذي يراه تولستوي أمراً مملاً ومزعجاً بوصفه يقدم مبررات لإلقاء مزاح سمج. كما أنه يعترض على موت كورديلا الذي كما يراه، يجرد المسرحية من المغزى الأخلاقي للحكاية . لقد كان الهدف الرئيس لتولستوي في سنواته الأخيرة، يكمن في تضييق مدى الوعي البشري. فاهتمامات المرء ونقاط ارتباطه مع العالم المادي والصراع اليومي، تبعاً له، يجب أن تكون محدودة وفي أضيق نطاق. يجب على الأدب أن يحتوي على حكايات رمزية أخلاقية، وأن يتجرد من التفاصيل، كما يجب أن يستقل عن اللغة. ويجب أن تكون الحكايات الرمزية الأخلاقية بحد ذاتها أعمالاً فنية أقصيت منها البهجة والفضول. كما على العلم أيضاً، أن ينفصل عن الفضول. فهاجس العلم كما يقول، ليس اكتشاف ما يحدث، بل تعليم البشر كيفية العيش. ولم تختلف نظرته إلى الزواج أيضاً، فهو الذي يجرد الزواج من متعته الجسدية، ليحصره ضمن إطار الإنجاب فقط.
من الواضح أن تولستوي لا يطيق صبراً مع كاتب استطرادي غارق في التفاصيل شارد الذهن شأن شكسبير. إن ردة فعله هي لعجوز نزق سريع الغضب يضايقه حتى صبي صغير. " لماذا تقفز وتنط هكذا ؟ لماذا لا تجلس هادئاً كما أفعل أنا؟" يقول العجوز هذا بطريقة توحي وكأنه هو المحق. لكن المشكلة تكمن في أن للطفل أحاسيس في أوصاله كان العجوز قد فقدها. والمصيبة تكمن عندما يعلم هذا العجوز بوجود هذه الأحاسيس، فإن ذلك سيساهم في زيادة توتره، وربما دفعه ذلك إلى تحويل هذا الطفل إلى عجوز خرف لو استطاع. كان تولستوي وبطبيعته متغطرساً ومتبجحاً. بعد أن شب عن الطوق كان يضرب خادمه من وقت لآخر في نوبات من الغضب. وفيما بعد وبحسب ما سطره كاتب سيرته الذاتية الإنكليزية "ديريك ليون"، كانت تلح عليه رغبة دائمة في أن يصفع وجوه أولئك الذين لا يتفق معهم وعند أقل استفزاز. و لا يمكن للمرء أن يتخلص بالضرورة من هذا النوع من المزاج بمجرد أن يخضع لتحول ديني. وبالفعل من الواضح أن وهم الولادة من جديد يمكن أن يسمح لرذائل المرء الكامنة في جبلته أن تزدهر بحرية أكثر من ذي قبل. رغم أن ذلك ربما يتم بوجوهٍ أكثر تشذيباً. كان تولستوي قادراً على تجنب العنف الجسدي وإدراك ما يتضمنه ذلك العنف، لكنه لم يكن قادراً على التسامح أو التواضع. وحتى لو لم يكن المرء يعرف شيئاً عن كتاباته الأخرى، فبإمكانه أن يستنتج ميله اتجاه التنمر الروحي من خلال هذه الكراسة.
هناك نوع من الشك كان يحوم حول شخصية تولستوي، كما حول شخصية غاندي. لقد تخلى تولستوي عن الثروة والشهرة والامتيازات و شجب العنف بكل أشكاله وكان مستعداً للمعاناة من أجل ذلك، لكن ليس من السهل التصديق بأنه شجب مبدأ القسر أو الإكراه، أو على الأقل الرغبة في إكراه الآخرين. هناك عائلات يقول فيها الوالد لطفله:
" سأحمر لك أذنك إذا ما فعلت ذلك ثانية" بينما الأم الطافحة عينيها بالدموع، سوف تأخذ الطفل في ذراعيها وتتمتم بكل محبة: " عزيزي من اللطف أن تفعل ما يقوله لك والدك" ومن الذي سوف يضمن أن أسلوب الأم هو الأقل طغياناً من أسلوب الأب؟ إن الفرق أو التمييز الذي يهمنا بالفعل هو ليس بين العنف واللاعنف ولكن بين الرغبة واللارغبة في السلطة والقوة.
ربما كان لهذه الكراسة أن تنسى لو لا أن صاحبها هو مؤلف " الحرب والسلام" و " آنا كارنينا".
شرفات الشام- إعداد: صخر الحاج حسين