الحقُّ: إن لِلحقِّ بصيغة الاسم والوصف في تفصيل الكتاب وبيان القرآن أكثر من دلالة ومعنى كالتفصيل التالي:
أولا: الكتاب المنزل والوحي كما في قوله:
ـ ﴿لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين﴾ يونس
ـ ﴿ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق﴾ الأنفال، أي بالوحي إليك أن اخرج بمن اتبعك منهم إلى عير قريش في بدر فلتصيبنّ إحدى الطائفتين العير أو رجال قريش المقاتلين.
وأما قوله ﴿قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمّن لا يهدّي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون﴾ يونس
فلقد تكلف المفسرون وأهل البلاغة والبيان في تفسيره وإنما يعني وصف الرسل بأنهم هم الذين يهدون إلى الحق ـ الذي هو الكتاب المنزل وما أرسلوا به كذلك من البينات والآيات الخارقة للتخويف والقضاء ـ وأنهم أي الرسل والنبيون أحق أن يُــــتّبَعوا، أما الله فهو الذي يهدي الرسل والنبيين للحق قبل أن يكلفهم بهداية الناس إلى الحق وهكذا لم يكن في تفصيل الكتاب تكليف الناس باتباع الذي يهدي للحق في هـذا الحرف إذ هو الله الكبير المتعالي، وإنما المقارنة بين الرسل والنبيين من جهة وبين الكهنة والمتسلطة الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة والذين شرعوا للناس ما لم يأذن به الله، فافقه واعلم.
ثانيا: الآيات الخارقة للتخويف والقضاء مع الرسل بها كما في قوله:
ـ ﴿ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون﴾ يونس، ووقعت دلالة الحق على الآيات الخارقة كاليد البيضاء من غير سوء والعصا التي أرسل بها موسى إلى فرعون وملئه فزعموها سحرا، ولم تنزل التوراة إلا بعد هلاك فرعون.
وكذلك دلالة المثاني في قوله:
ـ ﴿وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا﴾ الإسراء
ـ ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق﴾ الأنبياء
ـ ﴿قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوم قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد﴾ سبأ
ـ ﴿وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا على صراط مستقيم﴾ الحج
وإنما هو الآيات الخارقة المنتظرة في آخر الأمّة كطلوع الشمس من مغربها وأن يصبح ماء الأرض غورا إلى غير ذلك من الحق الموعود الذي سيزهق بظهوره الباطل زهوقا تشهده خلافة على منهاج النبوّة في آخر الأمّة.
إن الحقّ الذي سيقذف به رب العالمين بعد نزول القرآن كما هي دلالة القول في حرف سبإ وحرف الإسراء هو الذي سيتلاشى ويتبخر ويزهق بظهوره الباطل الوافر اليوم ومنه ما نشهده من غيّ المسلسلات والأغاني وما امتلأ به الأثير والأوراق من اللغط والصخب مما يشغل الناس عن تدبر القرآن.
ثالثا: الجِدّ وما كان في مقابلة العبث والهزل واللعب كما في قوله:
ـ ﴿وكذّب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل﴾ الأنعام
ـ ﴿وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحقِّ ويوم يقول كن فيكون قوله الحقُّ وله الملك يوم ينفخ في الصور﴾ الأنعام
ـ ﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحقِّ وإن الساعة لآتيةٌ﴾ الحجر
ـ ﴿ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحقِّ وأجل مسمًّى والذين كفروا عما أنذروا معرضون﴾ الأحقاف
ـ ﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحقِّ ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين﴾ الدخان
ـ ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لَـهْوًا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين﴾ الأنبياء
ويعني أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما لأجل أن يعبد فيهما فيسبّحه المسبّحون كثيرا ويذكره الذاكرون كثيرا، وورد نفْيُ اللعب وأثبت بدله خلقُهما بالحقّ في حرف الدخان، وكذا في قوله ﴿قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين﴾ الأنبياء، من تساؤُلِ قوم إبراهيم عن ما جاءهم به إبراهيم من توحيد الله ونبذ الأصنام أهو من الجِدِّ والصدق أم هو من اللعب والهزل والعبث ؟.
وإن من تفصيل الكتاب اقتران قوله ﴿بالحق﴾ أو نفي اللعب بخلق السماوات والأرض في سياق التذكير بالبعث والحساب أو التذكير ببأس الله وعذابه في الدنيا، واطَّرَدَ الاستقراء في حرف الأنبياء إذ كان قبله قوله ﴿ وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسُّوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ﴾ الأنبياء.
وإن من تفصيل الكتاب عدم اقتران قوله ﴿بالحق﴾ بخلق السماوات والأرض في سياق النعم كما في قوله:
ـ ﴿الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار﴾ إبراهيم
ـ ﴿أمّن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإلـه مع الله بل هم قوم يعدلون أمّن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإلـه مع الله قليلا ما تذكرون﴾ النمل
وأما قوله:
ـ ﴿تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق﴾ البقرة وآل عمران والجاثية
ـ ﴿نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون﴾ القصص
ـ ﴿نحن نقص عليك نبأهم بالحق﴾ الكهف
فيعني أن ليس شيء من تلك القصص وتلك الحوادث من التسلية والعبث بل ذكّر بها في القرآن ليَهتدِيَ بالقرآن العجب من تدبره إلى الرشد وإلى التي هي أقوم.
رابعا: الصدق وموافقة العدل وما كان في مقابلة الباطل والكذب والظلم كما في قوله:
ـ ﴿فأخذتهم الصيحة بالحقّ فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين﴾ قد أفلح
ـ ﴿وأتيناك بالحق وإنا لصادقون﴾ الحجر
وهو مما مضى وانقضى في شأن ثمود وقوم لوط.
وأما المثاني في قوله:
ـ ﴿والله يقضي بالحق﴾ غافر
ـ ﴿والله يقول الحق وهو يهدي السبيل﴾ الأحزاب
ـ ﴿قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير﴾ سبأ
فهو من الوعد الحق المنتظر في آخر الأمة.
وأما قوله:
ـ ﴿وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون﴾ الزمر
ـ ﴿والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون﴾ الأعراف
فهو من الغيب المنتظر بعد النفخ في الصور ليوم البعث.
وأما قوله:
ـ ﴿ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين﴾ الأعراف
ـ ﴿قال رب احكم بالحق وربنا الرحمان المستعان على ما تصفون﴾ آخر سورة الأنبياء
فيعني الإنصافَ من المستفتِحين ومُـخَالِفيهم سنَّةً سَنَّها خطيب الرسل شعيب قد يضيق بها المتعصبون الذين لا يتصورون غير موافقتهم الحقّ، وتضمن حرف آخر سورة الأنبياء استفتاحا كاستفتاح شعيب بالـحُكم بالحق بين الفريقين، ويهتدي بالقرآن إلى الإنصاف بالابتعاد عن تزكية النفس وما يتبعه من التطرف كما في قوله تعالى ﴿وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون﴾ سبأ.
خامسا: النصيب والجزء المستحق كما في قوله:
ـ ﴿والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم﴾ المعارج
ـ ﴿قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق﴾ هود
ـ ﴿وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين﴾ النور
سادسا: البرهان أي الدليل الشرعي الواضح كما في قوله:
ـ ﴿ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق﴾ الأنعام والإسراء
ـ ﴿ويقتلون النبيين بغير الحق﴾ البقرة
ـ ﴿ويقتلون النبيين بغير حق﴾ آل عمران
ـ ﴿ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق﴾ آل عمران
ـ ﴿واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق﴾ القصص
ـ ﴿سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق﴾ الأعراف
ـ ﴿اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون﴾ الأحقاف
ويعني حرف الأنعام والإسراء النهي عن قتل النفس بغير دليل شرعي يأذن بقتلها وكان الصحابة الكرام يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في قتل منافقين معلومي نفاق وكفار معلومي كفر ولم يأذن لهم ولو قتلوهم دون إذنه لما كان قتلهم شرعيا ولكان قتلا في غير سبيل الله.
ويعني حرف البقرة أن الذين قتلوا النبيين وهم اليهود إنما قتلوهم بغير الحق وهو الدليل الشرعي وينحصر الدليل الشرعي في إحدى مسألتين: أولاهما: أن يتضمن الكتاب المنزل من عند الله كالتوراة والإنجيل والقرآن تكليفا بذلك، وثانيهما: أن يأمر به نبي من النبيين أو رسول من الرسل الكرام.
ويعني حرفا آل عمران أن الذين قتلوا النبيين إنما قتلوهم ظلما وعدوانا وبغير حجة وبرهان ولو ضعيفا وأن النبيين المقتولين لم يرتكبوا إثما ولا جرما يبيح قتلهم.
ويعني أحرف القصص والأعراف والأحقاف أن الذين يتكبرون في الأرض بغير برهان شرعي يعاقبهم الله بصرف قلوبهم عن اتباع الحق والهدى مع الرسل به إذ لا يجتمع في قلب واحد كِبْر وإيمان بالغيب أبدا.
سابعا : تمام الوعد ونفاذه كما في قوله:
ـ ﴿ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ يونس
ـ ﴿وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين﴾ الجاثية
ـ ﴿والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين﴾ الأحقاف
ـ ﴿وما يدريك لعل الساعة قريب يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد﴾ الشورى
ـ ﴿حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين﴾ الأنبياء
ـ ﴿ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مئابا﴾ النبأ
ويعني وصف الوعد بأنه حق أن سيتم نفاذه يوم الميعاد وهو الأجل الذي جعل الله له فيعرفه الذين قرأوا القرآن بالقرآن ولا يلتبس عليهم، ولكأنما ينطق الوعد في القرآن يوم يقع نفاذه بأن الكتاب المنزل حقّ وأن وعد الله على لسان رسله وأنبيائه حق فهنيئا للذين شهدوا حياة النبيّ وبشرهم بالجنة كالعشرة المبشرين وأهل البيعتين وأهل بدر ...
وأما قوله ﴿ويوم يقول كن فيكون قوله الحق﴾ الأنعام، فذلك في يوم موعود سيصبح شهادة في الدنيا وبينته في مادة القضاء.
ثامنا: تحقق الغيب أي ظهوره ظهورا مطابقا لما تقدم من الوصف يوم كان غيبا كما في قوله:
ـ ﴿وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا﴾ يوسف
ـ ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق﴾ الفتح
ـ ﴿كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق﴾ آل عمران، وهم أهل الكتاب الذين آمنوا بالتوراة أو الإنجيل آمنوا بما فيها من الغيب وشهدوا أي حضروا بعث الرسول تحقق في زمنهم فهؤلاء استوجبوا أن لا يهديهم الله.
ـ ﴿ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون﴾ الأحقاف
ودلالته على مطابقة الحوادث يوم تصبح شهادة لما تقدم من وصفها أو النبوة بها يوم كانت غيبا ظاهرة.
ومن هذا القسم الاسم ﴿الـحقُّ ﴾ من الأسماء الحسنى في عشرة مواضع من الكتاب المنزل وتفصيلها كالتالي:
ـ ﴿فتعالى الله الملك الحق لا إلـه إلا هو رب العرش الكريم﴾ الفلاح
ـ ﴿ورُدُّوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ يونس
ـ ﴿ثم رُدُّوا إلى الله مولاهم الحق﴾ الأنعام
ـ ﴿ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور﴾ الحج
ـ ﴿ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل﴾ لقمان
ـ ﴿ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل﴾ الحج
ـ ﴿ويعلمون أن الله هو الحق المبين﴾ النور
ـ ﴿قل من يرزقكم من السماء والأرض أمّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون﴾ يونس
ـ ﴿هنالك الولاية لله الحق﴾ الكهف
ـ وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرّفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه﴾ طـه
ويعني أن الله قبل اليوم الآخر غيب عن مخلوقاته كلهم لم يره أحد منهم من قبل ولن يراه قبل البعث بعد الموت وهكذا آمن المؤمنون كلهم من الملائكة والنبيين والرسل والمؤمنين بالله إيمانا معدّى بالباء لدلالته على الغيب، كما بينت دلالتها في مادة آمن من المعجم، وفي يوم القيامة سيتبيّن العالمون كلهم أجمعون أن الله هو الحق المبين كما أخبر عن نفسه في الكتاب المنزل وعلى لسان رسله وأنبيائه وأنه لا يُخلِفُ وعدَه ولا الميعادَ ومنه الوعد بنصر أوليائه وأن يُـخْزِيَ أعداءَه بعذاب في الدنيا وفي الآخرة، ومنه أنه في يوم الدّين هو الغفور الرحيم وأن عذابه هو العذاب الأليم.
تتواصل دلالة الحق