حتى تكتمل الصورة وتتضح :
الإمام أبو حنيفة وسرّ المَدْح والقدْح ( بتصرّف )


أبو حنيفة النعمان بن ثابت –رحمه الله– (80هـ-150هـ) وعمره سبعون سنة، آخر أقدم الأئمة الأربعة وفاةً، إمام أهل العراق، فحلٌ كوفي تيمي من رهط حمزة الزيات ، وكان خزازا يبيع الخز، كان إماما ورعا عالما عاملا متعبدا كبير الشأن لا يقبل جوائز السلطان بل يتجر ويتكسب.
صاحب مدرسة فقهية كبيرة لها وقعها الكبير قديماً و حديثاً، وقد اختلفوا أهو معدودٌ من التابعينَ أو من أتباع التابعين ؟ قولان مشهوران:
قال الذهبي –رحمه الله-: رَأَى أَنَسَ بنَ مَالِكٍ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمُ الكُوْفَةَ، وَلَمْ يَثبُتْ لَهُ حَرفٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُم.
وَرَوَى عَنْ: عَطَاءِ بنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَهُوَ أَكْبَرُ شَيْخٍ لَهُ، وَأَفْضَلُهُم - عَلَى مَا قَالَ. اهـ
.
قال حمزة السهمي: وسئل الدار قطني -وأنا أسمع- عن سماع أبي حنيفة يصح قال: لا ولا رؤية ولم يلحق أبو حنيفة أحدا من الصحابة (سؤالات السهمي) 1/263
وقد اختار ابن تيمية كثيراً من أقواله، وهو من أذكياء العالم، لا يستريب في هذا أحد، وأبو حنيفة هو إمام علم في الفقه والاستنباط، وإمام في الزهد والورع، ولا يعيبه أن تكون بضاعته في الحديث مُزجاة، أو أنه لم يُذكر في عداد أهل الصناعة والدراية، ومن قال ذا يعيبه؟ فهذا الشأن لكل من انصرف لفن دون آخر.

إمامَتُهُ فِي الفِقْهِ وَإبْداعُه فِي الرَّأيِ
قال الشافعي: «من أراد أن يتبحر في الفقه، فهو عيال على أبي حنيفة». وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (6|404): قال حفص بن غياث: (كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر، لا يعيبه إلا جاهل)
قال أبو نعيم: كان أبو حنيفة صاحب غوص في المسائل.
وقال الذهبي عنه: «برع في الرأي، وساد أهل زمانه في التفقه، وتفريع المسائل، وتصدّر للاشتغال، وتخرّج به الأصحاب» ثمَّ قال: «وكان معدوداً في الأجواد الأسخياء، والأولياء الأذكياء، مع الدين والعبادة والتهجد وكثرة التلاوة، وقيام الليل رضي الله عنه» ويروى عن سفيان الثوري –كما في الفقيه والمتفقه (2|73)– قوله: ( كان أبو حنيفة أفقه أهل الأرض في زمانه)
- وأما إمامته في الرأيِ ففيه خلاف بين أهل الحديث خصوصا فقد قال الإمام الدارقطني : أبو حنيفة إمام أهل الرأي .
وقال الذهبي في السير (11/475): وَأَمَّا الفِقْهُ وَالتَّدْقِيْقُ فِي الرَّأْيِ وَغوَامِضِهِ، فَإِلَيْهِ المُنْتَهَى، وَالنَّاسُ عَلَيْهِ عِيَالٌ فِي ذَلِكَ.
قال القطان "خلاص التذهيب" : لا نكذب اللهَ ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة.
وقال ابن أبي حاتم: ثنا أحمد بن سنان الواسطي قال سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: ما أشبه رأي أبي حنيفة إلا بخيط سحارة تمده هكذا فيجيء أحمر وتمده هكذا فيجيء أخضر .
دَرَجَة الإِمَامِ أبُي حَنِيفَةَ عِندَ أهْلِ الحَديثِ إِجْمَالاً :
أولاً : بالغ بعض الأحناف في توثيق أبي حنيفة، بل تجاوزوا إلى أن قالوا: بأنه فوق التوثيق، وهو ناقد، وهذه ليس بأوّل مرة، ألا ترى قولُ أحدهم –مما يدل على غلوهم المحدق-:
فلعنةُ ربنا عداد رملٍ *** على من ردّ قول أبي حنيفة !
ثانيا : اتُفقَ أنّ الإمام أبا حنيفة من المقلّين في الروايةِ ، وأنَّ تجريحه لا يعادل توثيقه من خلال كلام الأئمة النقّاد، بل قد حكى ابن أبي داود الإجماعَ على تجريحِه .
ثالثاً : اتفق أهل العلم قاطبة –من المتقديمن والمتأخرين- على جلالة علمِ أبي حنيفةَ، وإمامته في الدين، وأنه أحد رجال أصحاب المذاهب الأربعة، وأنه صادق القول صادقٌ في نفسه، كان إماما ورعا زاهدا تقيا، وذلك مما لا ينكره إلا جويهيل أو متفيهق.
رابعاً : إن سبب تجريح أبي حنيفة –كما سيأتي- مفسرٌ؛ هو: اضطرابه في الحديث، وعدم إتقانه له، إذ لم يتصدّ له، وقلة في حفظه، ولذا بعض أهل الحديث عدلوا في الروايةِ عنهُ .
قال ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2|149): قال يحيى بن معين: ( أصحابنا - أي أهل الحديث- يُفْرِطون في أبي حنيفة وأصحابه).
خامساً : لا يصحّ قولُ أنَّ الإمام أبا حنيفةَ "ليس له مشاركة البتة في الحديث" بل من شيوخه محدثون معروفون كابن المبارك وحماد بن أبي سليمان –وصحبه 18 سنة- وغيرهم مما يدلل على ذلك، وكذلك قول الذهبي أنه رحل إلى طلبِ الحديثِ، أما بضاعته المزجاة في الحديث فمّمَا لا يتناطح فيه كبشان ولا يتنازع فيه زوجان .
سادساً : يجب الاعترافُ أنّه كان جماعة من –المحدثين- نقدهم مبنيٌّ على مذهب وطريقة الإمام أبي حنيفةَ، وأنَّ ضعيفَ الحديثِ عنده أولى من القياس والرأي، وبنى على ذلك مذهبه، ومن هؤلاءِ: ابن حبان البستي –مع تساهله المعروف- فقد شدّ عليه وأغلظَ القول، إذ صنّف كتابين عليه.
وهذا عند –أهلِ الإنصافِ- غير مقبول، إذ يجبُ علينا حفظُ إمامته ومشاركته في الحديثِ
.
وعلى هذا فلا يصحّ مقارنة كلام العلماء الأثبات أنه "إمام أهل الفقه" أو غير ذلك من الألفاظ، على أنّه إمام في الحديث أو عدم ضعفه فيه –على ما اختاره النقاد- فيكفينا قول أنّه: صدوق.

دَرَجَةُ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الحَدِيثِ
(1) قال ابن أبي حاتم رحمه الله في «الجرح والتعديل» : إنّ إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني كتب إليّ عن أبي عبد الرحمن المقريء قال: كان أبو حنيفة يحدثنا فإذا فرغ من الحديث قال : هذا الذي سمعتم كله ريح وباطل أهـ .
(2) قال الترمذي: سمعت محمود بن غيلان، يقول: سمعت المقرئ، يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: «عامة ما أحدثكم خطأ».وروى الخطيب بمثله. قال مقبل الوادعي: وهذا السند صحيح رجاله معروفون.
وهذا موافقٌ لكلام النقاد –كما سيأتي-، واعترافٌ من الإمام بأنه ليس ضابطاً لحديثه، وهذا حَمَله عليه ورعُه ومعرفته بقدر نفسه في الحديث، لأنه ليس من فرسان الأسانيد والعلل .
دَرَجةُ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ أَهْلِ الحَدِيثِ تَجْرِيحاً
يجبُ معرفة أن من طعنَ وجرّح أبا حنيفة من أئمة الإسلام منهم من عاصر أبا حنيفة ومنهم من تأخر زمنه عن أبي حنيفة، وطعن المتأخر إما أن يكون اقتدى بأولئك الأئمة المعاصرين لأبي حنيفة، وإما أن يكون قد نظر في أحاد
يث أبي حنيفة فوجدها مناكير إلا اليسير منها، وإما أن يكون الأمرين ( نشر الصحيفة لمقبل)
(1) قال ابن عدي رحمه الله (7/2476): سمعت ابن أبي داود -عبد الله بن سليمان الأشعث- يقول : الوقيعة في أبي حنيفة إجماع من العلماء لأن إمام البصرة أيوب السختياني وقد تكلم فيه، وإمام الكوفة الثوري وقد تكلم فيه، وإمام الحجاز مالك وقد تكلم فيه ، وإمام مصر الليث بن سعد وقد تكلم فيه، وإمام الشام الأوزاعي وقد تكلم فيه، وإمام خراسان عبد الله بن المبارك وقد تكلم فيه، فالوقيعة فيه إجماع من العلماء في جميع الآفاق أوكما قال. اهـ
(2) قال ابن أبي حاتم رحمه الله: ثنا حجاج بن حمزة: قال إنّ عبدان بن عثمان قال سمعت ابن المبارك يقول: كان أبو حنيفة مسكيناً في الحديث . وروي نحوه عن ابن حبان بلفظ : كان في الحديث يتيما .
(3) قال عبد الله بن أحمد رحمه الله في السنة (1/211): حدثني محمد بن أبي عتاب الأعين نا إبراهيم بن شماس قال: صحبت ابن المبارك في السفينة فقال: اضربوا على حديث أبي حنيفة، قال: قبل أن يموت ابن المبارك ببضعة عشر يوماً .
(4)قال ابن الجوزي –رحمه الله- في كتابه «الضعفاء والمتروكون» (3/163) في الإمام أبي حنيفة :
قال سفيان الثوري: ليس بثقة. وقال يحيى بن معين: لا يكتب حديثه، وقال مرة أخرى: هو أنبل من أن يكذب .
وقال النسائي: ليس بالقوي في الحديث وهو كثير الغلط والخطأ على قلة روايته . (والأثر صحيح).
وقال النضر بن شميل: هو متروك الحديث، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غلط وتصحيف وله أحاديث صالحة وليس من أهل الحديث . أهـ .
(5)قال أحمد بن علي الأبار: ذكر القوم الذين ردّوا على أبي حنيفة: أيوب السختياني وجرير بن حازم، وهمام بن يحيى، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأبو عوانة، وعبد الوارث، وسوار العنبري القاضي، ويزيد بن زريع، وعلي بن عاصم، ومالك بن أنس، وجعفر بن محمد، وعمر بن قيس، وأبو عبد الرحمن المقريء، وسعيد بن عبد العزيز، والأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، وأبو إسحاق الفزاري، ويوسف بن أسباط ، ومحمد بن جابر، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وحماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى، وحفص بن غياث، وأبو بكر ابن عياش، وشريك بن عبد الله، ووكيع بن الجراح، ورقبة بن مصقلة، والفضل بن موسى، وعيسى بن يونس، والحجاج بن أرطأة، ومالك بن مغول، والقاسم بن حبيب، وابن شبرمة. ذكره الخطيب في "التاريخ" (3/370)
(6) عند العقيلي في "الضعفاء" (4/285): حدثنا عبد الله بن محمد المروزي قال سمعت الحسين بن الحسن المروزي يقول: سألت أحمد بن حنبل فقلت : ما تقول في أبي حنيفة؟ قال: رأيه مذموم وحديثه لا يذكر ..
وحدثنا عبد الله بن أحمد قال سمعت أبي يقول: حديث أبي حنيفة ضعيف ورأيه ضعيف . وأشدّ ما روي عنه هو: قال عبد الله حدثني مهنأ بن يحيى الشامي سمعت أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول: ما قول أبي حنيفة عندي والبعر إلا سواء .
قال مقبل الوادعي: والأثر صحيح ولا يلتفت إلى قول الأزدي في مهنأ إنه منكر إذ قد وثقه الدارقطني، وأما الأزدي فهو محمد بن الحسين ضعيف ترجمته في (ميزان الإعتدال)
(7) قال الحسين بن إبراهيم الجورقاني في كتابه "الأباطيل" (ص171): أبو حنيفة متروك الحديث ..
(8) قال ابن حبان في كتابه «المجروحين» (ج3 ص61) عن أبي حنيفة: لم يكن الحديث صناعته حدث بمائة وثلاثين حديثاً ماله في الدنيا غيرها أخطأ منها في مائة وعشرين حديثاً، إما أن يكون أقلب إسناده أو غير متنه من حيث لا يعلم فلما غلب خطؤه على صوابه استحق ترك الاحتجاج به في الأخبار.
(9) وممن ضعفه من المحدثين النقاد كثر، كالدار قطني في سننه (1/323) والبخاري في التاريخ (8/81) إذ قال/ سكتوا عنه/ وقصده: تركوا حديثه كما بيّنه السيوطي. وابن سعد في الطبقات (7/322) ومسلم بن الحجاج في كتابه «الكنى والأسماء» (ص107) إذ قال : صاحب الرأي مضطرب الحديث ليس له كبير حديث صحيح .. وأبو نعيم الأصبهاني إذ قال: كثير الخطأِ والأوهامِ. وذكر ابن عدي والقطان أنّه ليسَ من أهلِِ الحديث.
قال الشيخ المحدث عبد الله السعد: القول الراجح أنه لا يحتج بـ (أبي حنيفة) في الحديث لأنه ليس بضابط وليس بالمتقن، وحديثه ليس بالكثير، وما جمع في مسانيده بعضه كذب وبعضه لم يصح لأبي حنيفة، وإنما غلب عليه الاهتمام بالفقهيات، والحديث يحتاج إلى مذاكرة، وجمهور الحفاظ لا يحتجون به كأحمد والبخاري ومسلم بن الحجاج والعقيلي وابن عدي والدراقطني وابن حبان في المجروحين.

الحاصلُ : أنّه تبيّن لك من خلال هذا أقوال أصحاب العمد في النقد –إجماعاً- على تجريحِ أبي حنيفة –رحمه الله- في الحديث

دَرَجَةُ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدِ أَهْلِ الحَدِيثِ تَعْدِيلاً
توثيق ابن معين له:
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ العَوْفِيُّ: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ مَعِيْنٍ يَقُوْلُ: كَانَ أَبُو حَنِيْفَةَ ثِقَةً، لاَ يُحَدِّثُ بِالحَدِيْثِ إِلاَّ بِمَا يَحْفَظُه، وَلاَ يُحَدِّثُ بِمَا لاَ يَحْفَظُ.
وَقَالَ صَالِحُ بنُ مُحَمَّدٍ: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ مَعِيْنٍ يَقُوْلُ: كَانَ أَبُو حَنِيْفَةَ ثِقَةً فِي الحَدِيْثِ.
وَرَوَى: أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ القَاسِمِ بن مُحْرِزٍ، عَنِ ابْنِ مَعِيْنٍ: كَانَ أَبُو حَنِيْفَةَ لاَ بَأْسَ بِهِ.
وَقَالَ مَرَّةً: هُوَ عِنْدَنَا مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ، وَلَمْ يُتَّهَمْ بِالكَذِبِ، وَلَقَدْ ضَرَبَه ابْنُ هُبَيْرَةَ عَلَى القَضَاءِ، فَأَبَى أَنْ يَكُوْنَ قَاضِياً (كله من "سير أعلام النبلاء" )
تجريح ابن معين له:
قال يحيى بن معين : لا يكتب حديثه . وقال ذات مرة : هو أنبل من أن يكذب .
(الكامل في ضعفاء الرجال) (7/6)
فوضحَ لكَ أيها القارئ الكريم أنّ ابن معينَ قد اضطرب في الحكم عليه، فتارة يوثقه وتارة يضعفه .
قال الشيخ المحدث الألباني –رحمه الله- : (فهو تارة يوثقه ، وتارة يضعفه كما في هذا النقل ، وتارة يقول فيما يرويه ابن محرز عنه في "معرفة الرجال" : كان أبو حنيفة لا بأس به ، وكان لا يكذب ، وقال مرة أخرى : أبو حنيفة عندنا من أهل الصدق ، ولم يتهم بالكذب ، ومما لا شك فيه عندنا أن أبا حنيفة من أهل الصدق ، ولكن ذلك لا يكفي ليحتج بحديثه حتى ينضم إليه الضبط والحفظ ، وذلك مما لم يثبت في حقه رحمه الله ، بل ثبت فيه العكس بشهادة من ذكرنا من الأئمة ، وهم القوم لا يضل من أخذ بشهادتهم واتبع أقوالهم ، ولا يمس ذلك من قريب ولا من بعيد مقام أبي حنيفة رحمه الله في دينه وورعه وفقهه ، خلافا لظن بعض المتعصبين له من المتأخرين فكم من فقيه وقاض وصالح تكلم فيهم أئمة الحديث من قبل حفظهم ، وسوء ضبطهم ، ومع ذلك لم يعتبر ذلك طعنا في دينهم وعدالتهم ، كما لا يخفى ذلك على المشتغلين بتراجم الرواة ) انتهى كلامه –رحمه الله
قال الشيخ المحدّث مقبل بن هادي الوادعي في "نشر الصحيفة" : فجرحه له من أجل رأيه وتخليطه في الحديث، وتوثيقه من أجل أنه لا يكذب. ثم إن الجرح في أبي حنيفة مفسر. انتهى كلامه –رحمه الله-
قال الإمام أبو حفص عمر ابن شاهين في "المختلف فيهم" (1/96) بعد ذكره كلام النقاد فيه: هذا الكلام في أبي حنيفة طريق ثقة طريق الروايات واضطرابها وما فيها من الخطأ لا أنه كان يضع حديثاً ولا يركب إسناداً على متن ولا متناً على إسناد ولا يدعي لقاء من لم يلقه كأن أرفع من ذلك وأنبل.
وقد فضله العلماء في الفقه منهم القاسم وابن معين والشافعي والمقرئ وابن مطيع والأوزاعي وابن المبارك ومن يكثر عدده.
ولكن حديثه فيه اضطراب وكان قليل الرواية وكان بالرأي أبصر من الحديث وإنما طعن عليه من طعن من الأئمة في الرأي، وإذا قلّ بصيرة العالم بالسنن وفتح الرأي تكلم فيه العلماء بالسنن.

لَا يعْنِي تَجريحاً فِي أَبِي حَنِيفَةَ تَـنقيصًا لَه فِي عُلُومِه الأُخَرَ
قال الشيخ الألباني –رحمه الله- في (السلسلة الضعيفة) (1/661): وهذا هو الحق والعدل وبه قامت السماوات والأرض ، فالصلاح والفقه شيء وحمل الحديث وحفظه وضبطه شيء آخر ، ولكل رجاله وأهله ، فلا ضير على أبي حنيفة رحمه الله أن لا يكون حافظا ضابطا ، ما دام أنه صدوق في نفسه ، أضف إلى ذلك جلالة قدره في الفقه والفهم ، فليتق الله بعض المتعصبين له ممن يطعن في مثل الإمام الدارقطني لقوله في أبي حنيفة ضعيف في الحديث .
قَوْلُ الإِمَامِ المُعلّمِي فِي أَبِي حَنِيفَةَ

قال العلامة المعلمي في "الأنوار الكاشفة": «لزم أبو حنيفة حماد بن أبي سليمان يأخذ عنه مدة، وكان حماد كثير الحديث، ثم أخذ عن عدد كثير غيره كما تراه في مناقبه، وقلة الأحاديث المروية عنه لا تدل على قلة ما عنده، ذلك أنه لم يتصدّ للرواية، وقد قدمنا أن العالم لا يكلف جمع السنة كلها، بل إذا كان عارفاً بالقرآن وعنده طائفة صالحة من السنة بحيث يغلب على اجتهاده الصواب كان له أن يفتي، وإذا عرضت قضية لم يجدها في الكتاب والسنة سأل من عنده علم بالسنة، فإن لم يجد اجتهد رأيه، وكذلك كان أبو حنيفة يفعل.
وكان عنده في حلقته جماعة من المكثرين في الحديث كمسعر وحبان ومندل، والأحاديث التي ذكروا أنه خالفها قليلة بالنسبة إلى ما وافقه، وما من حديث خالفه إلا وله عذر لا يخرج إن شاء الله عن أعذار العلماء، ولم يدع هو العصمة لنفسه ولا ادعاها له أحد، وقد خالفه كبار أصحابه في كثير من أقواله.
وكان جماعة من علماء عصره ومن قرب منه ينفرون عنه وعن بعض أقواله، فإن فرض أنه خالف أحاديث صحيحة بغير حجة بينة، فليس معنى ذلك أنه زعم أن العمل بالأحاديث الصحيحة غير لازم، بل المتواتر عنه ما عليه غيره من أهل العلم أنها حجة، بل ذهب إلى أن القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء اتباعاً لحديث ضعيف -وذكر ابن القيم في إعلام الموقعين مسائل أخرى لأبي حنيفة من هذا القبيل وكذلك غيره- ومن ثُمّ ذكر أصحابه أن من أصله تقديم الحديث الضعيف –بله الصحيح– على القياس» انتهى قوله رحمه الله
.
ومنخول القول في ذلك وختامه : رحم الله الإمام الأعظم " أبو حنيفةَ " وجزاهُ الله عن المسلمين خيراً ، وغفر له زلـلـه ، وبيّض صحائفه ، وجعل له لسان صِدْقٍ في الدّارََيْن .