قصص فلسطينية قصيرة جداً
د. يوسف حطيني
القميص
وقفت، مسنتداً إلى جدار إخوتي، في مواجهة الأعداء، ذرفت ذماء روحي، تسابق الشعراء إلى رثائي وتعداد مناقبي، وانهالت الأوسمة على ضريحي مثل مطر مفاجئ. شهد شاهد منهم: "إن كان قميصه قُدَّ ......"
كان القميص مطرزاً بالرصاص والطعنات من كل صوب.
* * *
الأمم المتحدة
كل واحدة منهن تحمل سكيناً، وقد أعدَّ الزعيم الأوحد لهنّ متّكَأ، حين خرجتُ عليهن بقميصي وحَطتي وعِقالي وزيتوني ودمي، تابعن أكل الفواكه دون أن ترفّ أجفانهن الكحيلة، ورمين القشور في وجهي، لم يكن ثمة بين الأصابع إلا دمي.
* * *
حتمية تاريخية
مصادفة في شارعٍ باريسي أعجبته سُمرتُها اللافحة، وعيناها اللتان ترقبان المجهول، أعجبتها عيناه الخضراوان الغامضتان. دون مقدّمات اتفقا أن يلتقيا في التاسعة مساء، تحت قوس النصر، وقد أضمر كل منهما أن يعترف للآخر بصدمة الحبّ العاصف.
قبل خروجه للموعد تلا فصلاً من تلموده ثم وضع عطراً يليق بالمناسبة، بينما استذكرتْ قصيدةً لمحمود درويش، وهي تلبس شالها الأخضر.
في التاسعة تماماً كانا على الموعد، في المكان المحدّد، ولكنهما لم يلتقيا.. ولن يلتقيا أبداً.
* * *
الأُخُوّة
حملوا بنادقهم، اتجهوا صوبَ أرضهم المقدّسة. وعلى الحدود سمعوا صوتاً يصرخ بهم : قف.
لم يشعروا بأي خوف، بل زاد اطمئنانهم حين سمعوا كلمات عربية تبادلها حارس الحدود عبر اللاسلكي مع شخص آخر.
قال لهم: "ما تظنون أني فاعل بكم؟".
قالوا:"أخٌ كريم وابن أخ كريم".
ما زالوا حتى الآن ضيوفاً على السجن المركزي الشقيق.
* * *
غيمة
حمل جدي أعوامه السبعين على كتفيه، وهو ينقّل بصره بين حقله المتعطش لقطرة ماء، وغيمة شاردة في سماء فسيحة.
مرّت الغيمة فوق مستوطنات متعددة، ثم وقفت فوق حقله تماماً، وراحت تذرف دموعاً سخيّة.
صندوق أخضر
ضبطوه متلبّساً بعشق الأرض، فأطلقوا عليه رصاص حقدهم.
مبتسماً كان حين تجمّعوا حوله، فأثار الأمر حيرتهم وريبتهم ورعبهم، بحثوا عن الصندوق الأسود في قلبه، لكشف سرّ ابتسامته، دون جدوى..
لو بحثوا عن الصندوق الأخضر لعرفوا سر تلك الابتسامة، وأدركوا ماذا قالت له الأرض.
ناجي العلي
متأمّلة لوحةً معلّقة فوق الجدار، كانت أمّ الشهيد تعاني نزعها الأخير.
قالت لرجل اللوحة الذي يدير لها ظهره معاتبة: لقد أصبح ابني فدائياً حتى يرى الفلسطينيون وجهك يا حنظلة، وها أنا ذي قاب فجرٍ من الموت، وأنت ما تزال مصرّاً على تجاهلي.
في الصباح حمل أهل المخيم جثة امرأة غرقى بدموع مالحة.
* * *
وجهاً لوجه
جلسنا متقابلين تحت ضوء الشمس، كان عيناه تشبهان عيني ذئب، وهو يتكئ على بندقيته التي يلتمع نصلها. بينما اتكأتُ على زوادة من قمح وذكريات وموالٍ حزين..
كنتُ أشعر باطمئنان لا حدّ له، أما هو فقد كان يخفي خلف ملامحه القاسية قلباً مذعوراً.
* * *
الثورة
وضع خوذته الكبيرة فوق صدر المدينة، اختنق الناس والعصافير والأزهار..وردة صغيرة حمراء استطاعت أن تصنع ماءها وهواءها.. أن تكبر.. وتقلب الخوذة رأساً على عقب.
كان الجنرال منـزعجاً جداً حين شهد، رغم أنفه، تحول الخوذة إلى عش للعصافير الملونة.
* * *
اللصوص
في مدينة من مدن الشمال الباردة، أشعل قلبي إعلان عن معرض للتراث الإسرائيلي، اتّكأت على غيظي، ودخلتُ:
رحّب بي رجل ذو عينين زرقاوين، ثم راح يتجول معي في المكان.
كانت عباءة جدتي وسروال جدي يتوسطان المعرض.
نظرت في عينيه مباشرة، وأخرجت له ـ من جيبي ـ مفتاح بيتنا القديم.
* * *
مصير الأمواج
وقفتُ على شاطئ البحر، تأكلني أنياب الغربة، رأيت على بعد مئات الأمتار موجات عالية متلاطمة، لاحظت أنها كانت تضعف كلما اقتربت، وعند أقدام الشاطئ تلفظ أنفاسها.
تذكرت آنئذٍ موجة عاتية هبّت على شاطئ الوطن.