المعالجة بالحقن العضلية والوريدية وتحت الجلد :
إن إيصال الدواء إلى باطن الجسم عبر الجلد هو من أهم التطورات الطبية التي أصبحت مألوفة في حياتنا اليومية كحقن المواد الدوائية في العضلات أو الأوردة والشرايين وحتى في المفاصل وجوف القلب .. ولم تكن هذه الطرق من المداواة معروفة في عصر الفقهاء ، ولما كانت الأدوية مختلفة التركيب والاستطباب ( فمنها المغذي ومنها القاتل للجراثيم والخافض للضغط .. ) أصبح لابد من الاجتهاد لبيان حكمها إذا طبقت في نهار رمضان . لقد ذهب الفقهاء المتأخرون في ذلك مذهبين :
1 - مذهب الأحناف أنها لا تفطر مهما كان نوع المادة المحقونة في العضلات أو الوريد أو تحت الجلد ( حتى لو كانت مواد مغذية ) .
2 - مذهب المتشددين ، منعوها نهائياً وقالوا بأنها تفطر لأنها تحتوي على الغذاء أو ما في معناه وهو الدواء . وإليك ما نقله الشيخ محمد نجيب المطيعي في كتاب المجموع ج 6 ص 345 :
نشرت لنا مجلة الاعتصام السائرة على مبادئ الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة عدد رمضان سنة 1390 ما يأتي رداً على مبتدعة القول بعدم إفطار متعاطي الحقن العضلية والوريدية حتى لقد ذهبوا إلى حقن التغذية . والرد على من قال الحقنة لا تفطر : إنَّ الطعام يلتقم عن طريق الفم بالمضغ إلى مرحلة الهضم الأولى بخلطه بعصارة الفم
( اللعاب ) ليسهل بلعه وازدراده ، ثم يصل إلى المعدة عن طريق المرئ بما يحدثه من حركة القبض والبسط ، وبعد ذلك يحدث هضم شبه كلي ، ثم ينزل إلى الإثني عشر فتفرز الكبد صفراءها لإتمام عملية الهضم النهائي . لأن بعض المواد الغذائية كالدهنيات والبروتينات لا يتم هضمها نهائيا إلا في الإثني عشر .ثم يحدث امتصاص في الأمعاء الدقيقة ، وهذه الأمعاء تنتشر حولها الأوردة المستقبلة للأشياء التي تم هضمها فيصل إلى الوريد السفلي الحامل للدم إلى الكبد ، وفي الكبد تتم عملية تنقية من المواد السامة والفاسدة ، ثم يندفع حتى يصل إلى القلب ليدفع به إلى الرئتين ليرجع إلى القلب مرة أخرى حاملاً معه الأوكسجين ليتخلص الدم من ثاني أكسيد الكربون ، هذا هو الطعام ، فإذا ثبت هذا فإن حقنة الغلوكوز والفيتامين أو غيرهما التي تعطى في الوريد أو العضل على اختلاف في السرعة بين الطريقين تصل مع الدم المراد تنقيته إلى القلب لكي يدفعه القلب إلى الرئتين فينقى من ثاني أكسيد الكربون باستبداله بالأوكسجين الناجم عن عملية التنفس الذي لا محيص عنه ، ثم يرجع الدم مرة أخرى إلى القلب لكي يعاود توزيعه إلى جميع أجزاء الجسم لإمداده بالطاقة أو القوة وتكوين الخلايا وتجددها كما يفعل الطعام سواء بسواء . ويمكن للإنسان إذا تكاملت في الحقن عناصر كافية من السكريات والبروتينات أن يعيش مستغنياً بذلك عن الطعام . بل إنَّ المرء إذا مكث أياماً لا يأكل فَقَدَ شهوته إلى الطعام كما يعرف ذلك المجربون ، وكاتب هذا واحد منهم . وعلى هذا تكون الحقنة العضلية والجلدية والعرقية سواء كانت للتداوي أو للتقوية مفطرة للصائم مفسدة للصوم لأنها تؤدي وظيفة الطعام وتؤدي وظيفة الاستدواء من الفم بل هي أبلغ وأسرع وأكثر تأثيراً في دفع المرض والهزال الناجم عن الجوع وما إلى ذلك من فوائد الطعام والدواء ، حتى المعدة نفسها تتجدد خلاياها وتشفى أمراضها .
ثم يعقب الشيخ المطيعي بقوله : وقد قصدنا من سَوْق هذا الحكم أن نوضح حكم الحقنة العرقية أو العضلية أو الجلدية ، وإن كان محلها حكم الجائفة فإنَّ الإبرة المثقوبة ذات المجرى التي يساق الدواء منها إلى العرق أو العضل إنما تُحدث جائفة بقدرها وتوصل الغذاء والدواء إلى سائر البدن حتى المعدة . انتهى .
فإذا تأملنا ما ذهب إليه الفريقان وجدنا فيه تطرفاً إلى حد ما :
أمَّا مذهب الفريق الأول فقد اعتمد على القاعدة الفقهية كل ما لم يرد فيه نص فأصله الإباحة . وفي ذلك تيسير كبير على المرضى لكنه يفتح باباً عريضاً لغير المرضى ويبطل حكمة الصوم في بعض جوانبه ( كاستخدام السوائل المغذية عن طريق الوريد ) .
وأما الفريق الثاني فقد تشدد كثيراً بلا دليل شرعي ولا علمي سوى أنه شَبَّه الفائدة من الحقن الغذائية بتناول الغذاء عن طريق الفم بينما تختلف المداواة عن طريق العضل أو الوريد اختلافاً جذرياً عن تناول الطعام والشراب عبر الفم . فإعطاء دواء صاد للجراثيم مثلاً عن طريق العضل لا يزيل الجوع أو العطش على خلاف إعطاء السيرومات المغذية أو تناول الغذاء عن طريق الفم التي تبطل حكمة الصوم . كما إنَّ إعطاء الأدوية عن غير طريق الفم لا يسمى طعاماً أو شراباً وهو المنهي عنه في نهار شهر رمضان .
ومن جهة أخرى فإن مداواة المرضى عن غير طريق الفم جائزة في رمضان حتى عند الشافعية فهم يبيحون الحجامة في نهار رمضان رغم أنها تستعمل للمعالجة . كما إنَّ هناك اتفاقاً شرعياً لا مخالف له (حتى عند الشافعية ) ، وهو أن كل ما يتسرب عن طريق مسام الجلد غير مفطر، فتصح المداواة بالحناء ولو أحس المريض بطعمها في فمه (16).
وليس هناك من يقول بأن اللصاقات المزيلة للآلام ( التي تطبق على الظهر مثلاً ) تفسد الصوم ، وهناك كثير من الأدوية متوفرة الآن وهي تطبق على الجلد لإزالة الآلام القلبية (17) ومعالجة الروماتيزم (18) ، يمكن معايرة مستقلباتها في البول ، ولا يقال بأنها تفطر . والمضمضة أثناء الوضوء جائزة في نهار رمضان شرط عدم المبالغة فيها ، وقد أصبح معروفاً بأن الماء يمتص عن طريق الأغشية المخاطية في الفم وكثيراً ما يزيل الشعور بالعطش ، ولم يقل أحد من الفقهاء بأن المضمضة تفطر . وهناك أدوية قلبية توضع تحت اللسان يمكنها الارتشاح إلى الأوردة تحت اللسان وتؤدي فائدتها الدوائية دون أن تدخل إلى البلعوم فإذا مجها المريض بعد ذوبانها تحت اللسان فإنها لا تفطره . كمن يستاك ثم يـمج آثار الـمسواك .
وهناك أدوية تمتص عن طريق الجلد وتصل إلى الدم ثم تطرح عن طريق البول تماماً كالأدوية التي تعطى عن طريق العضل أو الوريد كبعض مضادات الروماتيزم ( نظير الرثية ) وموسعات الأوعية الدموية القلبية التي تستعمل كمراهم أو لصاقات على الجلد ، وكذلك حال مراهم الكورتيزون التي تطبق على الجلد وتعاير مستقلباتها في البول خلال 24 ساعة من تطبيقها .
فهل قال أحد من الفقهاء بأن تطبيق الأدوية الجلدية مفطر ؟ فإذا كان الجواب : لا . فإنَّ إعطاء الأدوية عن طريق الجلد أو العضل أو الوريد لا يمكن أن يكون مفطراً ، إلاّ إذا أدى إلى إلغاء حكمة الصوم كأن تكون أغذية فيكون الامتناع عنها أولى خروجاً من خلاف . كما إنَّ اعتبار الشيخ المطيعي حدوث جائفة بوساطة الإبرة ، فإنما هو اعتبار خاطئ لأن السائل المحقون لن يدخل إلى جائفة بل إلى السائل الخلالي الخلوي أو ضمن العرق الدموي الممتلئ بالدم . فالإبرة تحدث فتحة صغيرة في الجلد أوسع قليلاً من إحدى مسامه ويتم الحقن إما تحت الجلد أو في صميم النسيج العضلي ولا توجد جائفة في هاتين المنطقتين .
وهناك ناحية مهمة بخصوص الجائفة التي تسبب الإفطار ، ألا وهي انفتاح الجائفة على الجهاز الهضمي بحيث يؤدي وجود الطعام فيها إلى وصوله للجهاز المذكور فيلغي حكمة الصوم . وأما الجائفة المعزولة ( كالجيوب الجلدية ) فلا تعتبر مفطرة ، إذ لا علاقة لها بالجهاز الهضمي أو متعلقاته، والصيام أمر يتعلق بهذا الجهاز خصوصاً ، والجهاز التناسلي ( بقصد النكاح ) ولا اعتبار لأي مادة تصل إلى الأجهزة الأخرى .
والخلاصة :
يتوقف حكم الحقن الجلدية أو العضلية أو الوريدية على طبيعة المادة المحقونة والقصد من حقنها ( النية ) . فإن كانت مادة غذائية وبنية تخفيف الجوع أو العطش فإنها مفطرة ، وإلاّ فلا . (19)
ملاحظة : يمكن للطبيب خروجاً من خلاف أن يوزع جرعات المعالجة قدر الإمكان خلال فترة الليل وعلى ثلاث جرعات ( عند الإفطار ، وعند النوم ، وفي السحر ) وتنحصر المعالجة نهاراً في حالات الاضطرار ، ويختار الطبيب الطريق الأنسب للمريض وحالته المرضية .
---------
16 - تطبق الحناء على الركبة مثلاً كمعالجة لآلامها ، وهي تمتص عن طريق الجلد ، وقد قال الإمام أحمد أنها لا تفطر ولو شعر المريض بطعمها في فمه .
17 -كبعض المراهم واللصاقات التي تحتوي على مادة النترات الموسعة للأوعية القلبية .
18 - كبعض المراهم الحاوية على المسكنات ومضادات الروماتيزم .ويحتوي بعضها على الكورتيزون الذي يمتص عن طريق الجلد وتعاير مستقلباته في البول .
19 - قد تكون هذه الحقن مُعينة للمريض الصائم في الاستفادة من عباداته حيث تدفع المرض فيتحسن وعي المريض ، وبذلك يعي صلاته وقراءته للقرآن فيرتقي روحياً ويرتفع منزلة .