الإبداع والعبقرية والجنون
دمشق ـ سلام مراد *

المبدع العبقري هو شخص استطاع أن يتجاوز المقاييس العادية من خلال أعماله الخلاقة في الأدب أو الفن أو العلم ، أو أي حقل من حقول المعرفة والنشاط ، فالمبدعون غيروا الكثير من المفاهيم عن العالم الطبيعي والبيئة المادية من خلال اكتشافاتهم واستنتاجاتهم الجديدة . من أمثال " جاليليو " و " نيوتن " و " داروين " و " أنيشتين " وكذلك في المجالات الحياتية الأخرى فقد أغنى " باخ " و " موزارت " حياتنا بما ابتكرا من موسيقى وألحان ، ومثلهما فعل " بيتهوفن " و " تشايكوفسكي " و " هندل " .
إن العمل الإبداعي يحقق الكثير لصاحبه ولمجتمعه . ولأنه يتطلب قدرات شخصية هائلة لا تكون عادة متوافرة أو محتملة أو ممكنة للآخرين ، تطورت نظريات واتجاهات فكرية مختلفة تفسر سلوك المبدعين بالاضطراب العقلي والجنون ، ولكثرة ما كتب تأييدا ً لهذا الرأي ، أصبحت صلة الإبداع بالجنون والاضطراب النفسي هي الأمر الشائع والقريب إلى الذهن عند تفسير الجوانب الغامضة والمبهمة في سلوك المبدعين وتطور العملية الإبداعية .
لذلك يعد كتاب الحكمة الضائعة ـ الإبداع والاضطراب النفسي والمجتمع ـ للدكتور عبد الستار إبراهيم ـ سلسلة عالم المعرفة العدد 280 أبريل 2002 ، إعادة قراءة ، أو بالأحرى إعادة تنظيم للوقائع والأفكار المتجمعة عن موضوع الصلة بين العبقرية والجنون ، أو بلغة نفسية معاصرة عن الإبداع وصلته بالاضطراب النفسي ، كما يعد رؤية تضم بعض الحقائق الرئيسية التي تراكمت في دراسة السير الذاتية للمبدعين ، فضلا ً عن النتائج التي ولجت ميدان علم النفس إثر تطور حركة القياس النفسي ، وما ساندها من تجارب علمية متخصصة ، وبعض الحقائق المعاصرة عن طبيعة المرض النفسي والعقلي ، تتضمن مقارنة بين الخصائص الشخصية والضغوط التي تسود حياة المبدعين ، يقول الأستاذ عبد الستار إبراهيم إن الإبداع عالم مثير ... ودوافع العمل الإبداعي لا تخلوا من التعقيد ، لذلك كثر الحديث عن العلاقة بين العبقرية والإبداع وصلتهما بالمرض النفسي ، فنجد الكثير من المزاعم المنتشرة في الأوساط الثقافية العامة بأن العبقرية والإبداع يلتحمان بالجنون من دون أن نكلف أنفسنا البحث والنظر في عشرات الملاحظات الداحضة والمعارضة لهذا الرأي . لأن عالم الإبداع عالم مثير ومملوء بجوانب تستحق الكثير من البحث والدراسة فهي لا تزال غامضة ، إن دوافع العمل الإبداعي لا تخلو من التعقيد ، وحياة المبدعين نتاج لكثير من العناصر النفسية والاجتماعية والحضارية التي لا يجوز التعامل معها بالتبسيط والاستخفاف ، لأن ما يقدمه الإبداع والمبدعون للمجتمع ، ولحياتنا بجوانبها التكنولوجية والفنية والاقتصادية والفكرية ، كثير ويتسم بالثراء والعطاء . ولعلنا لا نبالغ إن ذكرنا أن كل جوانب التقدم ( وربما الهدم والدمار ) ، في أي من مجالات الحضارة والثقافة الإنسانية مرهون بما تقدمه هذه الحفنة القليلة من العقول اللامعة في أي مجتمع ، ولهذا فمساهمات الإبداع والمبدعين في حياتنا أمر لا يجوز إغفاله وينبغي معرفة شروطه ودراسته على نحو يسمح لنا بالاستفادة الملائمة من تلك الإسهامات . ويتابع الدكتور إبراهيم القول : ومع ما للقدرات العقلية الإبداعية من أهمية ، فإن دراستها ومعرفة شروط نموها ، والعوامل التي تيسر ظهورها ، أو التي تعوق هذا الظهور ما زالت محدودة بشكل مؤسف ، فدراسة الموهبة الإبداعية مازالت متروكة لتيارين متطرفين من التفكير ، يغرق أحدهما في تعميمات نظرية فضفاضة ، وهو التيار الذي تتبناه طائفة كبيرة من المفكرين والفلاسفة ونقاد الأدب والفن ، وبعض المنتمين إلى نظريات التحليل النفسي الفرو يدي المبكرة ، أما التيار الآخر فيغرق في الاهتمام بجمع وقائع جزئية يتعذر في كثير من الأحيان وضعها في إطار متسق من التفكير والنظر .
أمثلة ونماذج من الاضطراب في حياة العباقرة والمبدعين .
يستشهد المؤلف بنص لصلاح عبد الصبور يقول فيه " ثم يمر ليلنا الكئيب ويشرق النهار باعثا ً من الممات جذور فرحنا الجديب " . ومثال آخر يظهر فيه الاكتئاب واضحا ً ، روى العقاد لأنيس منصور الذي حاول هو بدوره الانتحار عندما كان تلميذا ً صغيرا ً ، مما ألم به من معاناة واضطراب التفكير . قال العقاد : " يومها يا مولانا .. لم أجد شيئا ً يتفق مع عقلي .. وليس لي إلا عقلي ، لم أجد منطقا ً لأي شيء .. وجدت كل الناس مجانين ، وأنا العاقل وحده ، وجدت كل شيء قد اختلت موازينه .. بل انعدمت موازينه ، وأنا وحدي الذي أمسك ميزانا ً .. ما فائدته ؟ .. ما فائدتي ؟ .. إذن فليس مرغوبا ً ، ولا مطلوبا ً أن أعيش ، أو حتى أن أكون ، فقررت ألا أكون .. فإذا كان وجودي ليس باختياري ، فليكن موتي باختياري " وما قاله العقاد يكشف عن صورة مألوفة لما يلعبه الاكتئاب والاضطراب النفسي في حياتنا من تشوش في التفكير ، وتشاؤم في المزاج وتطرف في إدراك الأمور بأسوأ التوقعات .
يقول الأستاذ إبراهيم إذا قبلنا بالفرضية التي تقول بان الأدب هو انعكاس للمشاعر الشخصية ، وتسجيل لحياة الشاعر أو الكاتب من خلال ما يكتبه أو من خلال الشخصيات التي يبتكرها بطريقة ما ، وإذا قبلنا بالرأي القائل بأن الكاتب يترجم نفسه ومشاعره في أبطال قصصه ورواياته ، فإننا نجد نماذج من الاضطراب الوجداني بين حالات كثيرة من أدبائنا من أمثال " نجيب محفوظ " و " توفيق الحكيم " فشخصية " عمر الحمزاوي " في " الشحاذ " لنجيب محفوظ ، توحي بأن كاتبنا الكبير لم ينج في فترة ما من حياته من المعاناة النفسية والاكتئاب .
وعلى الرغم من أنني أعتقد والكلام هنا للمؤلف أن " نجيب محفوظ " لم يشأ أن يكتب عن حالة نفســية مرضية بحتة ، وأنه ربما لم يرد إلا أن يقـدم رؤية فلســفية ـ اجتماعية ، من خلال فاجـعة " عمر الحمزاوي " ، وهذا الداء المفاجئ الذي ألم به ، إلا أن هذه الرواية تحتل أهمية خاصة بالنسبة إلى موضوعنا الحالي ، فقد وصفت بشكل دقيق ومؤثر ما تتسم به معاناة هذا القلق النفسي واضطراب المزاج . فضلا ً عن أنها ـ لدقة ما احتوته من وصف لهذه الحالة ـ لا يمكن أن تكون من محض الخيال ، وربما وصفت أديبنا الكبير في لحظة ما من لحظات حياته ، مما يجعل من المحامي " عمر الحمزاوي " ، البطل الرئيسي لهذه القصة ـ إن لم يكن تجسيدا ً بشكل ما للأديب نفسه ـ فإن نجيب محفوظ قد جسد في بطل " الشحاذ " الرئيسي رؤية أدبية مذهلة لدقتها في فهم مفهوم الاكتئاب . فضلا ً عن ذلك تجده وقد جسد وجهة نظر لنفسه وللعالم من حوله تتماثل تماما ً مع ما نجده شائعا ً بين المرضى النفسيين في حالات الاكتئاب ، فرؤيته للعالم الخارجي وإدراكه له قد تشوها بصورة تتماثل مع أعراض الكآبة ، وتعكس إحساسه المفجع بهذا المرض .
لكن حتى إذا افترضنا أن هناك جوانب متنوعة من الاضطراب النفسي والروحي تسود لدى المبدعين والعباقرة : فهل هذا الاضطراب يتماثل مع صورة الاضطراب المرضية نفسها التي نجدها بين المرضى العقليين كما تصفهم كتب الطب النفسي وكما تشاهدهم مؤسسات الصحة العقلية ومستشفيات الأمراض العقلية ؟ أم أن اضطراباتهم ذات طبيعة خاصة ؟ وتأخذ شكلا ً مختلفا ً عن غيرها من الاضطرابات التي تصيب المرضى العاديين ؟ وهل تتزايد بالفعل بينهم هذه الاضطرابات أكثر من تزايدها بين الفئات الأخرى ممن هم أقل إبداعا ً وعبقرية وشهرة ؟ وهل تتزايد أو تقل نسبة الاضطراب بين جميع فئات المبدعين على إطلاقهم ، أو أنها تتفاوت من فئة إلى فئة أخرى ؟ بعبارة أخرى ، هل يعاني الفنانون والأدباء الدرجة نفسها التي يعانيها عباقرة العلم أو السياسة ؟ .
على الرغم من التداخل الشديد بين مفهومي العبقرية والإبداع ، إلا أنه ينبغي التمييز بينهما ، فالعبقرية لا تزيد على كونها اعترافا ً اجتماعيا بالعمل أو الأعمال الإبداعية للمبدع أو المفكر أو الفنان . ومن ثم ، فإن وصف شخص بالعبقرية يستند بدرجة كبيرة إلى عوامل قد لا يكون في استطاعة الشخص أن يتحكم فيها ، لأن وصف شخص بالعبقرية والإبداع مفهوم اجتماعي ووليد ظروف اجتماعية ليس في مقدور الفرد أن يتحكم فيها .
فلو أن أينشتين ظهر متأخرا 50 عاما أو متقدما 50 عاما ، لما كان له على الأرجح أن يوصف بالعبقرية أو حتى أن يحظى بالاعتراف العلمي العالمي الذي حظي به . وبالمثل لو ظهر نجيب محفوظ متقدما 20 سنة أو متأخرا 30 سنة وفي ظروف سياسية اجتماعية مختلفة لما كان في إمكانه أن يحصل على الشهرة التي حولته ـ باعتراف مؤسسة نوبل التي منحته جائزتها في عام 1991 ـ إلى عبقري من عباقرة الأدب العالميين . العبقرية إذن اعتراف اجتماعي بالمساهمات العلمية والفنية للمبدع . ولهذا قد يجيء هذا اللقب متأخرا كثيرا عن فترات الإنتاج العلمي والفني .
بعبارة أخرى ، هناك عوامل اجتماعية وظروف اقتصادية وسياسية خارجة عن إرادة الفرد والمبدع ومتجاوزة لعلمه أو مجموعة أعماله تحقق له الشهرة والتذوق العام والاعتراف . فالعبقرية تتجاوز ما يتسم به الشخص من خصائص الإبداع والابتكار لتصبح بمنزلة الاعتراف الاجتماعي بالإبداع والمبدع .