بين أبي تمام والمتنبي
4
ذهبت في شعر أبي تمام، أبحث عن قصيدة أوازن بها قصيدة المتنبي، فلم أجد أشبه بها عروضا ولغة ومقدارا، من أمدوحته هذه الوافرية الأبيات الوافية المقطوفة الأعاريض والأضرب، الدالية القوافي المكسورة المردفة بياﺀ المد أو واوه الموصولة بالياﺀ:
[1] فَصْلُ الْغَزَلِ
أَظُنُّ دُمُوعَهَا سَنَنَ الْفَرِيدِ وَهَى سِلْكَاهُ مِنْ نَحْرٍ وَجِيدِ/1
لَهَا مِنْ لَوْعَةِ الْبَيْنِ الْتِدَامٌ يُعِيدُ بَنَفْسَجًا وَرْدَ الْخُدُودِ/2
حَمَتْنَا الطَّيْفَ مِنْ أُمِّ الْوَلِيدِ خُطُوبٌ شَيَّبَتْ رَأْسَ الْوَلِيدِ/3
[2] فَصْلُ الْفَخْرِ
رَآنَا مُشْعَرِي أَرَقٍ وَحُزْنٍ وَبُغْيَتُهُ لَدَى الرَّكْبِ الْهُجُودِ
(سُهَادٌ يَرْجَحِنُّ الطَّرْفُ مِنْهُ وَيُولِعُ كُلَّ طَيْفٍ بِالصُّدُودِ)5
بِأَرْضِ الْبَذِّ فِي خَيْشُومِ حَرْبٍ عَقِيمٍ مِنْ وَشِيكِ رَدًى وَلُودِ
تَرَى قَسَمَاتِنَا تَسْوَدُّ فِيهَا وَمَا أَخْلَاقُنَا فِيهَا بِسُودِ/4
تُقَاسِمُنَا بِهَا الْجُرْدُ الْمَذَاكِي سِجَالَ الْكَرِّ وَالدَّأَبِ العَنِيدِ/6
فَنُمْسِي فِي سَوَابِغَ مُحْكَمَاتٍ/7 وَتُمْسِي فِي السُّرُوجِ وَفِي اللُّبُودِ/8
حَذَوْنَاهَا الْوَجَى وَالْأَيْنَ/9 حَتَّى تَجَاوَزَتِ الرُّكُوعَ إِلَى السُّجُودِ/10
إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الْغَمَرَاتِ قُلْنَا خَرَجْتِ حَبَائِسًا إِنْ لَمْ تَعُودِي
فَكَمْ مِنْ سُؤْدُدٍ أَمْكَنْتِ مِنْهُ بِرُمَّتِهِ عَلَى أَنْ لَمْ تَسُودِي
أَهَانَكِ لِلطِّرَادِ وَلَمْ تَهُونِي عَلَيْهِ وَلِلْقِيَادِ أَبُو سَعِيدِ
بَلَاكِ فَكُنْتِ أَرْشِيَةَ الْأَمَانِي وَبُرْدَ مَسَافَةِ الْمَجْدِ الْبَعِيدِ/11
[3] فَصْلُ الْمَدِيحِ
فَتًى هَزَّ الْقَنا فَحَوَى سَنَاءً بِهَا لَا بِالْأَحَاظِي وَالْجُدُودِ/12
إِذَا سَفَكَ الْحَيَاءَ الرَّوْعُ يَوْمًا وَقَى دَمَ وَجْهِهِ بِدَمِ الْوَرِيدِ/13
قَضَى مِنْ سَنْدَبَايَا كُلَّ نَحْبٍ/14 وَأَرْشَقَ وَالسُّيُوفُ مِنَ الشُّهُودِ/15
وَأَرْسَلَهَا عَلَى مُوقَانَ رَهْوًا تُثِيرُ النَّقْعَ أَكْدَرَ بِالْكَدِيدِ/16
(رَآهُ الْعِلْجُ مُقْتَحِمًا عَلَيْهِ كَمَا اقْتَحَمَ الْفَنَاءُ عَلَى الْخُلُودِ/17
فَمَرَّ وَلَوْ يُجَارِي الرِّيحَ خِيلَتْ لَدَيْهِ الرِّيحُ تَرْسُفُ فِي الْقُيُودِ/18
شَهِدْتُ/19 لَقَدْ أَوَى الْإِسْلَامُ مِنْهُ غَدَاتَئِذٍ إِلَى رُكْنٍ شَدِيدِ)/20
وَلِلْكَذَجَاتِ كُنْتَ لِغَيْرِ بُخْلٍ عَقِيمَ الْوَعْدِ مِنْتَاجَ الْوَعِيدِ/21
(غَدَتْ غِيرَانُهُمْ لَهُمُ قُبُورًا كَفَتْ فِيهِمْ مَؤُونَاتِ اللُّحُودِ
كَأَنَّهُمُ مَعَاشِرُ أُهْلِكُوا مِنْ بَقَايَا قَوْمِ عَادٍ أَوْ ثَمُودِ)/22
وَفِي أَبْرِشْتَوِيمَ وَهَضْبَتَيْهَا طَلَعْتَ عَلَى الْخِلَافَةِ بِالسُّعُودِ
بِضَرْبٍ تَرقُصُ الْأَحْشَاءُ مِنْهُ وَتَبْطُلُ مُهْجَةُ الْبَطَلِ النَّجِيدِ/23
وَبَيَّتَّ الْبَيَاتَ بِعَقْدِ جَأْشٍ أَشَدَّ قُوًى مِنَ الْحَجَرِ الصَّلُودِ/24
(رَأَوْا لَيْثَ الْغَرِيفَةِ وَهْوَ مُلْقٍ ذِرَاعَيْهِ جَمِيعًا بِالْوَصِيدِ
عَلِيمًا أَنْ سَيَرْفُلُ فِي الْمَعَالِي إِذَا مَا بَاتَ يَرْفُلُ فِي الْحَدِيدِ/25
وَكَمْ سَرَقَ الدُّجَى مِنْ حُسْنِ صَبْرٍ/26 وَغَطَّى مِنْ جِلَادِ فَتًى جَلِيدِ)/27
وَيَومَ التَلِّ تَلِّ الْبَذِّ أُبْنَا وَنَحْنُ قِصَارُ أَعْمَارِ الْحُقُودِ/28
(قَسَمْنَاهُمْ/29 فَشَطْرٌ لِلْعَوَالِي/30 وَآخَرُ فِي لَظَى حَرِقِ الْوَقُودِ/31
كَأَنَّ جَهَنَّمَ انْضَمَّتْ عَلَيْهِمْ كُلَاهَا غَيْرَ تَبْدِيلِ الْجُلُودِ)/32
وَيَوْمَ انْصَاعَ بابَكُ مُسْتَمِرًّا مُبَاحَ الْعُقْرِ مُجْتَاحَ الْعَدِيدِ
(تَأَمَّلَ شَخْصَ دَوْلَتِهِ/34 فَعَنَّتْ بِجِسْمٍ لَيْسَ بِالْجِسْمِ المَدِيدِ/35
فَأَزْمَعَ نِيَّةً هَرَبًا/36 فَحَامَتْ حُشَاشَتُهُ عَلَى أَجَلٍ بَلِيدِ)37
تَقَنَّصَهُ بَنُو سِنْبَاطَ أَخْذًا بِأَشْرَاكِ الْمَوَاثِقِ وَالْعُهُودِ
وَلَوْلَا أَنَّ رِيحَكَ دَرَّبَتْهُمْ لَأَحْجَمَتِ الْكِلابُ عَنِ الْأُسُودِ/33
وَهِرْجَامًا بَطَشْتَ بِهِ/38 فَقُلْنَا خِيَارُ الْبَزِّ كَانَ عَلَى الْقَعُودِ/39
وَقَائِعُ قَدْ سَكَبْتَ بِهَا سَوَادًا عَلَى مَا احْمَرَّ مِنْ رِيشِ الْبَرِيدِ/40
لَئِنْ عَمَّتْ بَنِي حَوَّاءَ نَفْعًا/41 لَقَدْ خَصَّتْ بَنِي عَبْدِ الْحَمِيدِ/42
[4] فَصْلُ الشُّكْرِ ِ
أَقُولُ لِسَائِلِي بِأَبِي سَعِيدٍ كَأَنْ لَمْ يَشْفِهِ خَبَرُ الْقَصِيدِ
أَجِلْ عَيْنَيْكَ فِي وَرَقِي مَلِيًّا فَقَدْ عَايَنْتَ عَامَ الْمَحْلِ عُودِي
لَبِسْتُ سِوَاهُ أَقْوَامًا فَكَانُوا كَمَا أَغْنَى التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ
وَتَرْكِي سُرْعَةَ الصَّدَرِ اغْتِبَاطًا يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَةِ الْوُرُودِ/43
فَتًى أَحْيَتْ يَدَاهُ بَعْدَ يَأْسٍ لَنَا الْمَيْتَيْنِ مِنْ كَرَمٍ وَجُودِ/44
— with ‎د. محمد جمال صقر‎.

بين أبي تمام والمتنبي
5
كلتا قصيدتي أبي تمام والمتنبي إذن، وافريّة الأبيات الوافية المقطوفة الأعاريض والأضرب، على مثل ما يتخرّج مَطْلَعاهما (أول بيت منهما) ومَقْطَعاهما (آخر بيت منهما) جميعا، فيما يأتي:
أَظُنُّ دُمُو=ددن دددن=مفاعلَتن=سالمة
عَهَا سَنَنَ الْ=ددن دددن=مفاعلَتن=سالمة
ْفَرِيدِ=ددن دن=مفاعَلْ=مقطوفة
وَهَى سِلْكَا=ددن دن دن=مفاعلْتن=معصوبة
هُ مِنْ نَحْرٍ=ددن دن دن=مفاعلْتن=معصوبة
وَجِيدِ=ددن دن=مفاعَلْ=مقطوفة
فَتًى أَحْيَتْ=ددن دن دن=مفاعلْتن=معصوبة
يَدَاهُ بَعْ=ددن دن دن=مفاعلْتن=معصوبة
دَ يَأْسٍ=ددن دن=مفاعَلْ=مقطوفة
لَنَا الْمَيْتَي=ددن دن دن=مفاعلْتن=معصوبة
ْنِ مِنْ كَرَمٍ=ددن دددن=مفاعلَتن=سالمة
وَجُودِ=ددن دن=مفاعَلْ=مقطوفة
مُلِثَّ القَطْ=ددن دن دن=مفاعلْتن=معصوبة
رِ أَعْطِشْهَا=ددن دن دن=مفاعلْتن=معصوبة
رُبُوعًا=ددن دن=مفاعَلْ=مقطوفة
وَإِلَّا فَاسْ=ددن دن دن=مفاعلْتن=معصوبة
قِهَا السَّمَّ النْ=ددن دن دن=مفاعلْتن=معصوبة
نَقِيعَا=ددن دن=مفاعَلْ=مقطوفة
وَهَبْكَ سَمَحْ=ددن دددن=مفاعلَتن=سالمة
تَ حَتَّى لَا= ددن دن دن=مفاعلْتن=معصوبة
جَوَادٌ=ددن دن=مفاعَلْ=مقطوفة
فَكَيْفَ عَلَوْ=ددن دددن=مفاعلَتن=سالمة
تَ حَتَّى لَا=ددن دن دن=مفاعلْتن=معصوبة
رَفِيعَا=ددن دن=مفاعَلْ=مقطوفة
ولا يخفى أَلّا حيلة لشاعرينا في تفعيلتي العروض والضرب الثابتتين على القَطْف: "ددن دن=مفاعَلْ=مقطوفة"، فأما سائر التفعيلات فلهما إذا شاﺀا أن يعصباها: "ددن دن دن=مفاعلْتن=معصوبة"؛ فيزيدا الإيقاع بطئا، وأن يسلّماها: "ددن دددن=مفاعلَتن=سالمة"؛ فيزيدا الإيقاع سرعة، وهو ما اجتمعا على بعضه دون بعض.
ثم كانت قصيدة أبي تمام دالية القوافي المكسورة المردفة بياﺀ المد أو واوه الموصولة بياﺀ المد (قافية مطلعها: "جَيدِ=دن دن"، وقافية مقطعها: "جُودِ=دن دن")، على حين كانت قصيدة المتنبي عينية القوافي المفتوحة المردفة بياﺀ المد أو واوه الموصولة بالألف (قافية مطلعها: "قِيعَا=دن دن"، وقافية مقطعها: "فِيعَا=دن دن").
وليست نسبة استعمال الدال المتحركة رويًّا ببعيدة من نسبة استعمال العين، تؤيدهما ذخيرتان لغويتان متقاربتان، وإن اختلفت إيحاﺀاتهما الإحالية اختلافا متاحا لمراعاة الشاعرين متى شاﺀا توظيفه. أما الكسر والفتح فإنهما إذا ذكر الضم كانا معًا قسيمه، وإذا لم يذكر التبست أحوالهما تقاربا وتباعدا؛ فإذا راعينا ائتلافهما معا في حضرة الضم ووجه تقاربهما في غيبته وجب أن يضاف ذلك إلى وجوه توارد قصيدتي أبي تمام والمتنبي القافوي الخاص، مع ذلك التوارد الوزني الخاص، في إطار التوارد العروضي العام.

— with ‎د. محمد جمال صقر‎.

بين أبي تمام والمتنبي
٦
في مدح أبي سعيد محمد بن يوسف الطائي كانت قصيدة أبي تمام، وفي مدح علي بن إبراهيم التنوخي كانت قصيدة المتنبي؛ فكلتاهما إذن أمدوحتان لغير المعتصم وسيف الدولة اللذين اشتهرا بمدحهما -وهذا من ألطف التوارد- لم يكربهما فيهما ما ربما كربهما عند امتداحهما؛ فتحدرا بما استقر من عوائدهما الأسلوبية.
وقد فصّل أبو تمام قصيدته على أربعة الفصول الآتية مرتبة:
١ فصل الغزل (١-٣)،
٢ فصل الفخر (٤-١٤)،
٣ فصل المديح (١٥-٤١)،
٤ فصل الشكر (٤٢-٤٦).
وفصّل المتنبي قصيدته على خمسة الفصول الآتية مرتبة:
١ فصل الأطلال (١-٣)،
٢ فصل الغزل (٤-١٣)،
٣ فصل المديح الأول (١٤-٢٩)،
٤ فصل الشكر (٣٠-٣٣)،
٥ فصل المديح الثاني (٣٤-٤١).
وإذا جمعنا فصلَيْ مديح المتنبي كانا ٢٤ بيتا من قصيدته، بنسبة ٥٨.٥٣%، وفصلُ مديح أبي تمام ٢٧ بيتا من قصيدته، بنسبة ٥٨.٦٩%، والنسبتان كالمتطابقتين تماما، وهو تطابق لا يقع إلا لمن يرون نصيب فصل المديح من الأمدوحة رأيا واحدا، فيحرصون على توفيته في نفسه أولا، ثم على الاشتغال في سائر الفصول، بما يتأتون به إليه، حاشيةً بين يدي عين المراد، تمهد له الطريق، وتعطف عليه المتلقين.

— with ‎د. محمد جمال صقر‎.