قصة قصيرة بعنوان:الفيروس، والمصل المضاد، والصيدلية (!!)
أصيبَ بالزكام في مكتب رئيس الدولة فاستقال، وبحث عن وظيفة أخرى هربا من مكانٍ رآه موبوءا بالفيروسات (!!)ظن أن مكتب رئيس الوزراء أقلَّ سوءا، فالخوف من رقابة من هو أعلى تجعل الحكومة أحرص على الوقاية من فيروسات الزكام من ذلك الذي لا تراقبه في بلادنا إلا ملائكة السماء لتحاسبَه في الآخرة وليس في الدنيا (!!)لكنه اكتشف أمرا لم يكن يعلم عنه شيئا عندما كان يعمل في مكتب رئيس الدولة، الفيروسات هنا أكثر، لكن بعضا منها يُحَوَّل إلى مكتب الرئيس، ويتم الاكتفاء بالباقي للتعاطي معها، أي أنه اكتشف أن من يصيبه الزكام في الأعلى إنما بسبب عدوى تنتقل إليه من الأسفل، وكأن من يسكنون الطابق العلوي محصَّنون ضد الزكام لولا بخاخات المرض المرسلة من الطوابق السفلية، والتي تعمل على توزيع مضاعفات المرض بين الهناك والهنا (!!)فما كان منه إلا أن قرَّرَ الهروب من هذا المستنقع الآسن، باحثا عن مكان يكون عصيا على تلك الفيروسات اللعينة، فقرَّر أن يتقدم بطلب للحصول على وظيفة في وزارة الأوقاف، فلا شك في أن أولياء الله هناك يعرفون جيدا أن النظافة من الإيمان، ويلتزمون بالوضوء خمس مراتٍ في اليوم، فتَتَطَهَّرُ الأجسام وتكون عصيَّةً على الاتِّساخ، ولا شك في أن الالتزام بصيام الشهر الكريم، يجعل البطون الفارغة مكانا غير مرغوبٍ فيه لأيِّ فيروس تعوَّد الاغتذاء على ما نَتَنَ من طعامٍ فاسدٍ في البطون الجرباء التي يملأها الدود في الطوابق العليا، فيحمي نفسه بذلك من الزكام، ومن أيِّ عدوى به قد تفوح بها أنفاسُ مزكومٍ هنا أو مُفَيْرَسٍ هناك (!!)لكن المفاجأة كانت أكبر عندما اكتشف أمرا أخطر من ذلك الذي اكتشفه عندما كان يعمل في رئاسة الحكومة، فالفيروسات الهائلة التي كانت تصول وتجول في مختلف مكاتب الوزراء ومكاتب مساعديهم ومستشاريهم وفي مكتب رئيسهم هناك، ليتم ترتيب قسمتها بينهم وبين ملئهم الأعلى، لتوزيع الإصابات وعدم تركيزها، فيتحقق العدل ويتمُّ تقاسم الداء بين الفوق والتَّحت بالإنصاف، كانت فيروساتٍ وافدةً يتمُّ إنتاجها وتصنيعها في أمكنة أخرى، وأن وزارة الأوقاف لم تكن سوى مختبرٍ لصناعة الأمصال والمطاعيم الحامية من تلك الفيروسات، فزاده الأمر حيرةً من غرابة الدور الذي تقوم به وزارة الأوقاف (!!)ففي كلّ خرم إبرة في هذه الوزارة الملفَّعَة بالدين وبالآيات القرآنية، وبالأحاديث النبوية، وبمواعظ الصالحين والأتقياء، أنبوبة اختبار مليئة بالسوائل والمركبات العجيبة التي تقرأ عليها تعاويذٌ تُحَوِّلُها إلى أرحامٍ لأمصالٍ مضادة يتمٌّ العمل الدؤوب ليل نهار وبلا كلَلٍ ولا ملَلٍ لإرسالها إلى قاطني الطوابق العليا كي يتحصنوا بها من احتمالات أن يتفاقمَ الزكام المنتشر في الأعلى إلى ما لا تحمدُ عقباه، خاصة إذا لم يتم وضع الكمامات الواقية متمثلة في تلك التعاويذ لحماية ما يحدث فوق مما يمكنه أن ينتقل إليهم من فيروسات الأسفل البعيد (!!)والفاجعة التي ألَمَّت بصاحبنا تجلَّت أمامه لما رأى أن العاملين على صناعة هذه الأمصال واختراع هذه التعاويذ، كانوا يعرفون أكثر من غيرهم كيف يجعلونها تحميهم قبل غيرهم من أعتى أنواع الفيروسات التي كانت تُصَنَّع على ما تأكد له في مكانٍ آخر ما يزال لم يعرف أن يقع بعد، مع أنه بات حريصا على معرفته كي يفهم سر هذا الوباء المستفحل في البلاد، والذي أصبح مستعصيا على أيِّ علاج إلى درجة غدا معها "زكاما مزمنا" (!!)وبعد أن رأى ما رآه في وزارة الأوقاف، فإنه لم يجد بدا من الهروب مُجَدَّدا من هذا الجو الملوَّث بالكيماويات غير المأمونة، باحثا عن مكانٍ آخر يكون بعيدا عن أيِّ بيئة للفيروسات، فقرَّر التنازل عن كلِّ الامتيازات التي كانت تمنحها له وظائفه في رئاسة الدولة، وفي رئاسة الوزراء، وفي وزارة الأوقاف، وقبِلَ بوظيفةٍ في مكتبٍ من مكاتب سلطة المياه في مدينةٍ صغيرة (!!)في سلطة المياه هذه رأى عجبا عجابا، ففي كلِّ ستة أشهر كانت الحكومة ترسلُ مديرا جديدا يَعِدُ الأهالي بحلِّ مشكلة المياه التي كانت تتفاقم، رغم أن الماء لم يكن شحيحا، وكان هذا الوافد الدوري يُقْسِمُ بشرفه وبشرف زوجته وابنته وأخته وحتى أمه، أنه يملك في جعبته أقوى الأمصال المضادة للفيروسات، وهو إنما جاء لينقذَ المدينة المنكوبة منها، وأنه حصل عليها من مستودعات وزارة الأوقاف مدموغة بخاتم كتب عليه: "آخر التعاويذ وأشدها فتكا بالفيروسات" (!!)فيما كان يجتمع بموظفي ومستخدمي السلطة بعد أيمانه المغلَّظة التي يقيئها في وجوه الأهالي، ليسأل عن الأحياء التي حلَّ عليها دور دفع "الجزية"، وعما إذا كان هناك حيٌّ ما يزال مصرا على رفضِ اعتباره ذِمياًّ ليتحرَّر من دفع الجزية الواجبة شرعا، مؤكدا على ضرورة الإسراع في لمِّ أموال الجزية قبل أن يأتي المدير الجديد، لأنه سوف يكرمهم هو بأكثر مما أكرمهم به المدير السابق، وهو يتوقع أن يكون "فلان بن علان" هو المدير القادم، وهو يعرف عنه البخل والنتانة وعدم تقدير جهود الفُتوات والعاملين على الصدقات الذين يعملون تحت إمرته في جباية أموال الجزية من أهل المدينة (!!)اكتشف صاحبنا أن جميع أهل المدينة قد تحولوا إلى ذِمِّيين وأن الجزية أصبحت مفروضة على كلِّ أحيائها بالتناوب لضمان شرب الماء، فاندهش لنفوذ وزارة الأوقاف التي رأى أمصالها محمولة على كواهل الجُباة تحميهم من أنفاس هؤلاء الذميين الجدد المغلوبين على أمرهم إذا ما عطس أحدهم في وجه جابٍ بسبب الزكام المزمن (!!)رأى في مكان عمله الجديد خلية من خلايا الفيروسات المميتة التي راحت تأكل أخضرَ المدينة ويابسها، وأتاحت له وظيفته الجديدة التي خَفَّضَت من مستوى مزاياه، وجعلته يختلط بالرعاع والدهماء، بعد أن كانت خلطته في الأعالي مقتصرةً على النخبة والكبراء، وعلى سادة القوم وعِلْيَتِهم، أن يطلع على حالة الفيروسات وأوضاع الزكام المزمن، لا في سلطة المياه وحدها، بل في كلِّ مؤسسات الدولة في تلك المدينة صغيرها وكبيرها، قديمها وجديدها، عاليها وسافلها، ليجد أن ما كان يراه فوق وما يحسُّ به من نخرٍ فيروسي، كان مُغَلَّفا بورقِ السُّلُفان المُستورد، ومُعَطَّرا بالمِسك والعنبر الذي يُكْثِرُ المشايخ في وزارة الأوقاف من استخدامه والنصح باستخدامه، بينما رأى الفيروسات في هذه المدينة تصول وتجول بلا رقيب ولا حسيب، متنقلة بين قنوات الصرف الصحي ومكبات النفايات المكشوفة، منذرة بالويل والثبور وعظائم الأمور (!!)احتار صاحبنا ولم يدر ماذا عليه أن يفعل كي يُنْقِذَ نفسَه من هذا السُّخام، لكنه بعد التي واللُّتَيا، وبعد أن ضرب كلَّ أخماس حيرته بكل ما أتيح له من أسداسِ قلقه، قرَّر أن يعتزلَ الوظيفة العامة وأن يتحركَ في مساحات العمل الخاص الذي ظنَّ أنه سينجيه من مَغَبَّة الاقتراب من مرابض الفيروسات، ومن مواطن الزكام المزمن (!!)كم كانت خيبته كبيرة وهو يتنقل من عمل خاصٍ إلى آخر (!!) كل مكان عمل فيه، وكل عمل خاضَ غمارَه، جعلاه يحتك بمن كان إذا تحدث معه عن تجربته المريرة مع الفيروسات في مؤسسات الدولة، رآه يسعل ويعطس ليقذفَ في وجهه بفيروسات لا تقلُّ بشاعة وضررا عما كان يهرب منه ويخشاه وهو يهبط درجة درجة من الفوق إلى التحت (!!)وعندما أصابه مرض خطير في يوم من الأيام وهو يبيع بعض الأنتيكات على إحدى البسطات في شارع "سقف السيل" بمدينة عمان، بعدما سمع زميلا له يحلف بأغلظ الأيمان بأن الأنتيكة التي تفحصها أحد الزبائن قد تمَّ تهريبها من داخل خزنة فرعون بمدينة البتراء، كشف الفحص الدقيق، والتحليلات المخبرية، لدمه ولعابه وبوله، ولكلِّ خلاياه الظاهرة والباطنة، أنه مصابٌ بفيروس "س. خ. هـ"، وهو الفيروس الأصلي المُولد لكلِّ الفيروسات الأخرى التي تعبث بالبلاد وبالعباد من ساسها لرأسها، وألا مجال لشفائه منه إلا إذا تمَّ حقنه بالمصل المضاد "إ. ش. إ" غير الموجود إلا في صيديلية واحدة لا ثاني لها (!!)وعندما طلب من الطبيب أن يدله على هذه الصيدلية كي يشتري منها ذلك المصل المضاد، أجابه بأنها صيدلية "ع. و. ق" فوقع صاحبنا مغشيا عليه لأنه كان يعلم بأن الصيدلية إياها مغلقة بالشمع الأحمر إلى إشعار آخر (!!)