شعوره الباطني بسهولة، فما زالت أمامنا مشقة . بالأمس كان هنا أما الآن فسنذهب إليه.هلم بنا..
عندما وصلا كان الشاب ما زال جالسا ساهما. قال المدير :
- ست ساعات مضت عليه و هو بهذه الجلسة.
و اصطنع المدير حديثا مع مولود ،قال له :
- لقد نشأت أنا في نابلس و لا أزال أذكر بالفخر جبل النار.
و لاحظ الرجلان أن الشاب أعطى سمعه لهما.. و أن عينيه تتحركان و جسمه ينتزى حركة ، يريد أن يقول شيئا . فسأله المدير:
-من أي مدينة أنت في فلسطين ؟
- أنا من نابلس.
- آه ما أجمل مغاني نابلس و ما أشد نكبة أهلها؟..
- هذا صحيح يا سيدي..
قال الشاب هذه الجملة ثم عاد إلى وضعه السابق دون أن يدفع بالحديث إلى أبعد مدى. و عاد المدير فأخذ بيد مولود و انتحى به جانبا و أسر له ببضع كلمات.ثم عاد فاعتذر للشاب عن مقاطعته لحديثه. بينما أن الشاب لم يكن يتحدث حقيقة. و قال المدير للشاب :
- اسمع يا بني..إنك تطوي ضلوعك على هم عميق ، و أي إنسان يستطيع أن يرى ذلك، و لست فضوليا و لاأريد أن أنقب عن أمرك ، و لكن تبدو لي و كأن النوم لا يؤاتيك فهل هذا صحيح؟..
- - نعم يا سيدي.
- هذا بطبيعة الحال لأنك لا تجد راحة العقل . و كثيرا ما يحدث أن تخف وطأة الهم إذا أطرحه صاحبه عن صدره .و نحن وحدنا الآن فلماذا لا تدلي إلي بشجونك؟..
و ظل الشاب على حاله و بدا أن التوتر لم يخف،و كانت نظرته إلى المدير واشية باليأس الذي يعتمل في نفسه و لكنه أفاد:
- حسنا سأخبرك.
ثم زفر زفرة وقعد على كرسي آخر من الطراز الذي يطوى و ينشر و وضع قبضيته على ركبته، وصوب نظره إلى بقعة صغيرة على الأرض،و كان صوته ذو طبقة واحدة كطالب صغير يسمع الدرس لأستاذه. وقال :
- نشأت في نابلس ، و كان لنا جيران لهم فتاة جميلة اسمها لينا كان بين أهلي و أهلها ود و بيني و بينها حب ، فلما بدأ العنف يخيم على تلك الربوع ، و كنت أنا قد أتممت دراستي الثانوية بقي علي أن أجتاز فحص نهاية الدراسة الثانوية، فانتقلت إلى مدرسة ثانية في القدس. و في يوم من الأيام ، بعد أن أدركت أنني ناجح لا محالة ، كتبت إلى أهلي أبلغهم و أطلب منهم أن يخطبوا لي لينا ، و علمت فيما بعد أن أهلي رتبو الأمر على هذا . و أخيرا عدت إلى مدينتي بعد أن كنت التحقت بوظيفة في بلدية القدس ، و قضيت خمسة أيام في إجازة. و كان الاحتفال بزواجنا بديعا، و كان الترتيب أن نأكل الخروص المحشي و نشرب اللبن الحليب بعد الاحتفال. ثم نذهب أنا ولينا وحدنا بقية الإجازة. و لكن كان عليي أن اؤدي مهمة و ذلك بأن أخابر رئيس البلدية راجيا منه تجديد إجازتي يومين آخرين لأن الأيام الخمسة قد استهلكت جميعا. و كانت تلك هي أول فرصة أتيحت لي بعد أن تم الاحتفال . و عندما عدت من مكتب البريد و الهاتف ارتددت إلى دار لينا . و لكن البيد لم يعد قائما هنالك ..
و لاحظ مولود عندما وصل الشاب إلى هذا الحد من قصته أنه يسمع دقات ساعة يدع على رسغه ، في فترة الصمت التالية. و بلع الشاب ريقه و مضى في كلامه بنفس الصوت الرتيب النغمة :
- لم أصدق عيني في بداية الأمر. و لم يكن ثمة سوى حفرة في الأرض. و سمعت أزيز الطائرات و هي تبتعد و كان الدخان لا يزال يتصاعد في الموقع و بعض شعلات من النار هنا و هناك ..و أدركن عندها ما تصنعه الطائرات بحجة ملاحقة رجال المقاومة .. فلقد ذهل بيت لينا و ذهبت لينا و ذهب أهلي و أهلها .. و لم يبق منهم شيء يستحق الدفن.
عندما وصل الشاب إلى نهاية حديثه ، نازعت مولود نفسه إلى أن يطوقه بذراعه . و لكنه كان يعلم أن هذا ما لا يحسن صنعه ، فإنه خير أن لا يلمس المرء جرحا قاتلا. و تساءل في سره : ماذا كان يستطيع أن يقول؟.
يجب قبل كل شيء أن يكون هناك ما يمكن قوله في مثل هذه البلية. و لكن أرتج عليه فلم تتحرك شفتاه بكلمة ، فظل مولود و المدير قاعدين في البهو أما الشباب تحت شوء ساطع من النور في أظلم ساعات المساء و كلاهما ينظر إلى الأرض.
و أخيرا خرج المدير عن صمته و قال مقترحا :
- أتحب أن ترافقني إلى بيتي؟.. يمكنك أن ترقد في غرفة ابني فإنه غائب عن الدار لأنه مجند ، و لن يزعجك أحد و سيكون ذلك من دواعي سرورنا.
- كلا يا سيدي ، و شكرا .
- إذا شئت فإني مستعد أن أنزع هذه الملابس فنذهب معا إلى أحد الملاهي تحيي الليل بالسهر ، فقد يسليك هذا.
- كلا يا سيدي ، و شكرا.
و انتحى مولود بالمدير ناحية و قال همسا و هو ينظر في ساعة يده :
- لا أدري إذا كان يحق لي أن يدركني اليأس. فإني أرى أن مجهودنا غير مثمر . و أنا امرؤ أخشى أن أخسر ثقة مدير الكلية ، فقد اعتم
- الرجل على مرؤتي فمنحني ساعتين من الغياب و أنا حريض على هذه الثقة فإن مشواري طويل و قد استنجد بهذه الثقة في مشروع آخر. و ها أنذا أرى طأني أكملت الوقت أكلا لما.
- لا يحق لك أن يدركك اليأس.. فإني لأبصر انفراحا مؤكد و نحن نتقدم مافي ذلك ريب ، و إن كان تقدمنا بطيئا. امض إلى مدرستك و سنتابع جهدنا في جلسة ثالثة.
و هكذا كان و افترق الرجلان فعاد مولود إلى فصله.
في تلك الليلة آوى مولود إلى سريره في المهجع. كان مصباح غائبا حضر بعد دقيقتين ، و إذ تطلع فوجد مولودا متممدا على فراشه و يداه مشتبكتان تحت رأسه ، و عيناه تتفرسان في السقف. فقال مازحا و هو يخلع ملابسه :
- أرى أن عادة السهاد قد تمكنت منك يا عزيزي مولود.. فهل تتفضل بأن تدلني على الطريقة التي اهتديت بها إلى هذه العادة؟..
- و لكن قل لي ألست "شيطانا" الليلة ، على غير عادة حتى تظن بي الظنون.
- و هل هو ظن سيء الاعتقاد بأنك عاشق؟..
- بالنسبة لتلاميذ مساكين أمثالنا نعم..
- سيت غنى ولا صيت فقر يا رجل.
و انفجر مولود ضاحكا ، و لكنه مالبث أن لملم شفتيه ، فقد عاد إليه قلقه و كأن مصباحا لاحظ فقال :
- أنت يا بني ....إلى آخره.
- إبق على اعنقادك هذا بأني...."لى آخره".
و جاء دور مصباح فانفجر ضاحكا ، ثم لم يلبث حين تمدد في سريره أن استغرق في نوم عميق. و نظر مولود إليه في سكينة ، و قال في سره :
- يا للطفل الغيرير ، ينام ملء جفنيه : ذهن خال من كل تبعة. لو كان لي مثل هذا الذهن لكان من المرجح إما أن أعيش طويلا سعيدا أو أن يذهب عقلي..
في اليوم الثالث استطاع مولود أن يظفر بإجازة غياب ليلة. و حين حضر إلى معهد الأحداث الجانحين كان المدير إلى جانب الشاب الفلسطيني يحاول معاجلته. و قال المدير يخاطب الشاب :
- كيف تجد نفسك لايوم يا بني؟..
- ...
ظل الشاب صامتا و نظره معلق في نقطة ثابتة في الأرض لا يبرحها.. و نظر المدير إلى مولود و قد بدت آثار التعب عليه . و قال له :
- لم أجد في حياتي شابا أصعب مراسا ولا أقوى طبعا..
- و كيف ؟..
- لقد رصدت له من يراقبه : إنه لم ينم حتى الآن لحظة واحدة منذ يومين. قليل من الناس من تتحمل أجسامهم هذا التعب.
- و ماذا يجري إذا استم على ذلك..
- يستطيع أن يستمر يومين آخرين و لكنه سينهار بعد ذلك لا محالة.. و عندها يكون علينا أن ننفض أيدينا من شفائه نهائيا. و من الآن حتى انتهاء هذه المهلة لن أقنط و سأوالي المحاولات . مزاجه العليل قفل له مفتاح بالتأكيد و يبدو أننا لم نضع يدنا على هذا المفتاح . إن ثقافة الشاب من النوع الرفيع ، حصل على معظمها بجهده الشخصي. و أنا زعيم بأن طريقنا يجب أن يمر عبر هذه الحقيقة.
و عاد المدير فأقبل على الشاب الفلسطيني و ربت على كتفه في حنو و قال له :