و قال مولود يخاطب شاكر :
- الذي يستهوي نفسي إلى هذه المغامرة هو تصوري أن نشاط الرجال فرادى أقرب إلى النجاح من عمل الجماعي ، و كل ما يجب عمله هو إفهام هؤلاء الأفراد أن هناك من يعمل إلى جانبهم في الوقت ذاته ، و هذا ما يعضدهم و يأخذ بساعدهم.
- و نظر مولود فجأة إلى رفيقه من حيث انشغل هذا الأخير بإصلاح قطعة حديدة في السيارة و قد تجلى فيه كل ما ينبئ عن طيب النفس و السذاجة و خاطب نفسه قائلا :
- إنك يا مولود سعيد الحظ بمثل هؤلاء الرفاق و لكن ألست ترهقهم في أمرهم ؟ زز هذا شاكر سائق سيارة عمومية و قد جاء بك إلى الحددون إذن صاحبها الذي يعمل هو لحسابه و ستترك السيارة في مخبأ هنا يعرفه شاكر ، فليس لكما أن تستخد ماها هناك وراء الحدود لأن رقمها ليس رقما فلسطينيا ، فكيف يكون حال شاكر لو سرقت أو دمرت ؟ زز
- و هنا التفت شاكر إلى مولود فقضى بذلك على تصور مولود.
- كان برنامج الرحلة أن لا تصاحبهما السيارة لهذا سلك مولود و شاكر سبيل كل مسافر أخر في باص عادي في قرية على الحدود يعرفانهما جيداز و حين غادرا الباص كانا قد بلغا أكثر من نصف الطريق إلى هدفهما و كان عليهما الاختيار بين طرق متعددة. و دلت معرفة مولود بالجبات الأربع على أن أقرب طريق و أقصره هو الذي يتجه جنوبا بغرب مخترقا بعض مراقي هضبة وعرة، وقال شاكر :
- أتعلم يا مولود أن هذا الطريق قد أعفانا من أكثر من خمسة آلاف متر ؟ ..
- - زكيف علمت ؟ ..
- - أتذكر يوم عدنا بالكوكبة الأخيرة من المنكوبين ؟ .. إذن فاعلم أن منطلقنا اليوم كان نهاية الأوبة غير هذا و أطول . لقد دلني الزمن القصير على ذلك. وقال مولود سائلا :
- - أعتقد أنك رام ماهر.
- -هذا ما أعتقده ، فقد كان تدريبي شاقا ، و لكنه أنتج أيما إنتاج و أنت ؟ ..
- - أما أنا فلا تزال عندي بقية من إجادة الرمي ..
- و تراجع مولود بذاكرته آخر نشاطه قبل دخول معهد الأحداث ، فلقد كان سرق مسدسا و مقدارا كبيرا من الذخيرة ، و دأب في مكان خال في ظاهر المدينة يتدرب في ثبات و إرادة حتى خيل إليه أن الطاثر المنقض لا يفلت طلقاته .
- وقال شاكر :
- - أظنني سمعتك تقول : إذ خلقنا سلاحنا ورائنا وجئنا بلا سلاح كان ذلك آمن.
- هو ذلك . و لكن إنما أردت المعرفة لأعرف كيف سنتصرف في المستقبل .
وطالعتهما أرض ذات وعورة ,فلما بلغا ساقية هناك, أبصرا حقلا أدهشتهما نظام الزرع فيه وفجأة وقع بصرهما على بقايا طعام معلبات ,فاجفلا واستقر رأيهما على اتخاذ اتجاه مضاد إلى الجنوب حيث يبدو أن الأرض لم تستصلح بعد, إلا أنهما اجتنبا الوديان, فعاجا خلال الهضاب ,وكان عليهما أن يشقا كل ميل شقا في هذه السباسب ,وأخيرا اجتازاهما جميعا ولكنهما سلخا إحدى عشرة ساعة ليقطعا عشرين كيلو مترا وكادت مؤونتهما من الزاد قد تقلصت ووجب أن يحسبا للعودة ,إلا أن الماء لم ينقص من مطرتهما كثيرا, فلقد ملآها من ماء ساقية أثناء سيرهما, والجو الرطب كان يساعد على السير بدون تعرق, إلا أن الوهج أصبح ساطعا فيما بعد والجبال البعيدة تبدو وكأنها تنأى عنهما وسخر منهما السراب ورأيا نفسيهما مرة بادين في صقال ما يشبه مرآة هائلة, وحدقا في صف جانبي, فإذا هو مؤلف من عشرين صورة لهما تحكي حركاتهما ثم قارب الماء الذي معهما على النفاد وكابد عذاب الظمأ, وبينهما كان النهار قائظا ,كان الليل بالعكس من ذلك مقرورا, مما الزمهما بالالتصاق التماسا للدفء.
ولاحت لهما بيوت منتظمة عن بعد فتجنبا الاتجاه إليهما وساعدهما على ذلك أن من مروا بهما من مزارعين يرتدون الخاكي ,لم يلقوا بالا لهما, ومع أن مولود وشاكر لم يكونا من أبناء البر في الأصل, إلا أنهما كانا يتمتعان بحس صادق, وقد وفق مولود إلى زيارة الأماكن ,أماكن الخطر بخاصة, ومرا بفتاة شقراء قد شمرت عن ساعديها ,وهي ترتدي بنطلونا مما يلبسه رعاة البقر, وتستاق أمامها بغلا موقرا بالأخشاب المنشورة, واكتشفا فيما بعد أنهما في رحلتهما هذه لم يستريحا إلا مرة واحدة, وكان طعامهما نزرا لأنهما تفاديا من أن يعرفا أحدا في هذه المناطق.
وأضنت المشقة نفسيهما ,وبدت عليهما مشية المكدود, ولكنهما صابرا حتى وصلا إلى الهدف فخفت البهجة لنجدة هاتين النفسين المكدودتين.
والان أصبح أمام مولود متسع من الوقت للتفكير, فلقد شاب بهجته حزن غامر ,وسرعان ما غاصت الابتسامة عنده ليحل محلها برم بهذا الوجود ,فإنه قبل سنوات بالطبع كان الناس الذين يراهم غير الناس, نالوا وحل محلهم اناس آخرون بدأت هجرتهم سلسالا ضخضاخا لم يلبث أن أصبح سيلا متبطحا وهو الآن يستريح ويستقر.
وبينما كان الرفيقان يجوسان خلال دغل صغير, لاحظ مولود أن النبات قد انحسر بشكل اسطوانة من الأعلى إلى الأرض كأن جسما ضخما ألقي من عل فقص النبات قصا منتظما, وتوقف قليلا ,أما شاكر فلم يلتفت إلى ذلك وخطا ,إلا أنه لم يستطع أن يتابع خطوه لأن مولود انقض عليه فجأة وأوقعه على يمين ذلك المكان بعنف ووقف أمامه منتصبا واضعا يديه في خصره.
جاءت هذه الدفعة على شاكر وصاحبهما كشك ألقي في نفسه جارح تجاه شخص مولود. ص 138