﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾
إن الصراط هو السبيل أي الطريق الموصلة إلى غاية، وحرص الخصمان اللذان تسورا المحراب على أن يدلهما داوود إلى سواء الصراط بالقضاء بينهما بحكم يرضيهما معا فلا يختلفان بعده، وكان قوم شعيب يقعدون بكل طريق موصلة إلى شعيب يتوعّدون من يدخل عليه حصارا منهم وصدًّا عن سبيل الله.
ويسوق الملائكة في يوم الدين الذين ظلموا وأزواجهم إلى صراط الجحيم.
وتضمن تفصيل الكتاب المنزل أن سعي الناس شتى مختلفا لكل منهم صراطه الموصلة إلى غايته، فللذين أنعم ربهم عليهم صراط مستقيم، وللمغضوب عليهم صراط، وللضالين صراط، ويعني أن صراط الله واحد وسبل الشيطان متعددة كما في قوله ﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ الأنعام
ووقع في تفصيل الكتاب المنزل وصف كل من الهدى والصراط والطريق بالاستقامة كما في قوله:
ـ ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُـدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾ الحج
ـ ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ يس
ـ ﴿يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ الأحقاف
ويعني ترادف الكلمات الثلاث حال اتفاق وصفها بالاستقامة ودلالة كل منها على الأخرى، ويأتي مزيد من التفصيل والبيان.
ووقع في تفصيل الكتاب المنزل وصف الصراط الموصلة إلى رضوان الله ونعيمه بصراط الله والصراط المستقيم والصراط السوي.
وإن قوله:
ـ ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَـذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ الحجر
ـ ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ الأعراف
ـ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِي الذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ الحج
ليعني أن الصراط المستقيم كان معلوما يوم أبى إبليس أن يسجد لآدم وأن أصحابه هم عباد الله الذين لا سلطان لإبليس عليهم وأن إبليس سيجتهد ليجعل الناس لا يتبيّنون الصراط المستقيم ولا يتبعونه وكذلك أخبر الله في حرف الحج أن كل رسول ونبي قبل نزول القرآن قد تمنّى أن يهتدي قومه إلى الصراط المستقيم، وأن الشيطان كان يلقي في أمنية كل رسول ونبي من قبل، أي يشغلهم ويُزيّن لهم في الأرض غير اتباع الهدى مع الرسل به، ويقعُد لهم الصراط المستقيم كالموصوف في حرف الأعراف والحجر.
ولزم طلاب الصراط المستقيم تبيّنه من الكتاب المنزل بقسميه المعلومين وعد في الآخرين سيأتي بيانه، وذكر من الأولين كما في قوله:
ـ ﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ آل عمران
ـ ﴿وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ مريم
ـ ﴿إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ الزخرف
ـ ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَالَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾ مريم
ويعني حرف عمران ومريم والزخرف أن عيسى قد خاطب قومه بأن الصراط المستقيم الحاضر الذي أصبح شهادة مشارا إليه بهـذا هو كتاب الله المنزل من عنده الإنجيل فليعبدوا الله كما كلّفهم في كتابه المنزل وليتبعوا الرسول عيسى كما في أول الزخرف.
ويعني حرف مريم أن الرسل والنبيين يهدون من اتبعهم صراطا سويا.
﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾
وقبل بيان الصراط المستقيم وبيان كل من نوْعيِ الهداية المتعلقة به، لزم تبيّنُ دلالة الاستقامة في تفصيل الكتاب المنزل ومنها التي وصف بها الصراط.
الاستقامة ضد الاعوجاج كما في قوله ﴿وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا قَيِّمًا﴾ الكهف، يعني وصف الكتاب المنزل على النبيّ الأمّيّ بأنه لا اعوجاج فيه وتأكَّدَ المعنى بإثبات وصف الاستقامة أي أن الكتاب المنزل قيّم لا اعوجاج فيه أي لم يجعل له عوجا وجعله قيما مستقيما غير ذي التواء ولا عوج.
وكذلك الفواتح لا اعوجاج فيها لدلالتها على غيب سيصبح شهادة قبل انقضاء الدنيا يوم يقع الوعد ببيانها كما في قوله ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ القيامة، وإنها لمن القرآن، كما إن بيانها في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة لمن الكتاب المنزل الذي كلِّفنا بالإيمان به كله في قوله ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ آل عمران، وبينته في كلية الكتاب.
وكانت امرأة إبراهيم قائمةً حذو زوجها وضيفه تنتظر القيام بما يحتاجونه من خدمة، وينتصب ابن آدم قائما على قدميه معتدلا غير متوكئ كالذي ينتظر التكليف مستعدا للقيام به.
وأخذت الصيحة ثمود مصبحين أي بعد مطلع الفجر وكانوا نوّما فأفزعتهم فاستيقظوا يصارعون الموت البغتة ولم يستطيعوا القيام للاختباء ولا للانتصار.
وتضمنت سورة يونس حال المضطر يدعو ربَّه ليكشف عنه الضرّ وأشده حين يلزم الفراش على جنبه وأخف منه ما يستطاع معه الجلوس ثم تمكنه من الانتصاب قائما على قدميه.
ويدعو الذاكرون ربهم في جميع أحوالهم قياما وقعودا وعلى جنوبهم.
وتلك اللِّينة قائمة جاهزة لإعطاء الرطب والموز في كل حين، وتلك القرى قائمة بمتاع الإنسان ستصبح قبل انقضاء الدنيا حصيدا عذابا شديدا وعَد الله به في التوراة وفي القرآن.
وتعني كلمة القيام المسند إلى المخلوق الانتصاب والتمكن من التكليف والعطاء.
وقد جعل الله الأموال وسيلة يتمكن بها الإنسان من القيام بشؤونه، وجعل الكعبة قياما للناس يأمنون حولها أن يتخطفهم الناس ولا تسل عن انفلات الأمن وانفراط الأنظمة يوم يقع هدم الكعبة.
ويتركُ ما كان عليه من يقوم إلى صلاته الفريضة أو النافلة إلا المنافقين يتثاقلون إلى الراحة يقومون كسالى.
وتنزل تكليف المزمل أن يقوم لصلاة الليل، ولينشئ النائم من الليل ناشئة يستيقظ فيها يقوم فيصلي، وتنزل تكليف المدّثّر أن يقوم لينذر الناس ما ينتظرهم من الخزي والعذاب إلا يؤمنوا ويسلموا ويتقوا، ويعني أن القائم يستقبل عملا يبتدئه، ويقوم زوار القبور عليها يستغفرون لأصحابها ويتعظون ليمهدوا لأنفسهم بالعمل الصالح قبل الموت.
ويعني قوله ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ النساء، أن الذي يؤم المصلين يتقدمهم يُقِيم لهم الصلاة يأتي بها على وجهها يتم قيامها وركوعها وسجودها وجلوسها يتلو القرآن ويحسن الدعاء والخشوع والقنوت، وكلّف الله موسى أن يقيم الصلاة ليذكر الله فيها أي يدعوه، وحرص إبراهيم على أن يجعله ربه مُقيم الصلاة وأن يُقيمها ذريتُه من بعده، وسخرت مدين من حسن صلاة شعيب، ووقع تكليف النبيّ الأمّيّ أن يقيم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ولدلوك الشمس إلى غسق الليل، وأن يتلو الكتاب المنزل ويقيم الصلاة فمن رغب عن سنته فليس من أمته.
ووقع الخطاب بإقامة الشهادة لله أي بالإتيان بها على وجهها كما في قوله ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا﴾ المائدة، وكذلك دلالة إقامة الوزن بالقسط، وإقام الصلاة بالإتيان بها على وجهها، وأن يقيم المسلمون وجوههم عند كل مسجد، وكذلك المعلّق قلبه بالمساجد اطمئنانا منه إلى ذكر الله، وافتقارا وحاجة إلى هداية الله وتوفيقه.
ووقع الخطاب بإقام الصلاة على كل المسلمين جماعات وفرادى وتنزل التكليف بإقامتها في العهد المكي قبل التميز بالهجرة يوم كان المسلمون مستضعفين مشردين كما في قوله ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ﴾ الأنعام، وكذلك في العديد من السور المكية، ولا يتأتى للجماعة المتخفّية ولا للتنظيمات السرية إقامة الصلاة جماعة بل الإسلام دين العامة آذن به النبيّ الرسول به الناس جميعا على سواء.
ووقع في القرآن خطاب اليهود بإقامة التوراة، وخطاب النصارى بإقامة الإنجيل أي بالإسلام والإيمان بكل منهما لا الإيمانُ ببعض الكتاب المتفِق مع أهوائهم والكفرُ ببعضه الذي لا تهواه أنفسهم، ولا يزال الغيب يغَيِّب أمّةً من أهل الكتاب قائمة بالكتاب المنزل يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون.
ووقع تكليف النبي الأمي أن يقيم وجهه للدين غير منصرف عنه ولا منشغل ولا مائل إلى غيره، وتكليف المكلفين بإقامة الدين غير مائل إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
ووقع تكليف الزوجين أن يقيما حدود الله، بإبقائها قائمة مستقيمة كما في قوله ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ النساء.
وبينت دلالة الدين القيم ودين القيمة في مادة الدين من المعجم، ودلالة كتب قيمة في مادة كتاب من المعجم.
وتعني تعدية القيام بلام التعليل القصرَ والحصرَ ولينحصر قيام الوليِّ على مال اليتيم بالقسط، وإنما وقع إنزال الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.
ووقع التكليف بالقيام بالشهادة، وشهد الله قائما بالقسط يوم بعث الرسل مبشرين ومنذرين أنه لا إلـــه إلا هو ، وشهد بشهادته الملائكة وأولوا العلم وهم الرسل والنبيون خاصة.
وبينت في تأصيلي التفسير والفقه وقوع الوصف بالذين آمنوا على الصحابة خاصة دون غير من تابعيهم من المؤمنين الذين لم يعاصروا الرسول، ووقع تكليف الذين آمنوا أن يكونوا قوّامين لله شهداء بالقسط وقوّامين بالقسط شهداء لله وهو من خطاب الأعلى ويشمل من دونهم رتبة، أما الرسل والنبيون فلا يتأتّى منهم غير القيام لله والقيام بالشهادة على وجهها كما في قوله ﴿أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾ النور.
إن الإتيان بالشهادة على وجهها غير محرفة لهو القيام بها من القائم بالقسط والقوّام بها يجعلها مستقيمة غير معوجة بالتدليس والتحريف والكذب والظلم والشطط.
ووقع في الكتاب المنزل تكليف النبيّ الأمّيّ أن يدعو إلى الله ويستقيم كما في التكليف المنزل وتكليف سائر الأمة بالاستقامة كما في الذكر للعالمين.
ووقع وصف الوفاء بالعهد بالاستقامة وكلّف الله بها جماعة المسلمين في قوله ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ براءة.
وإن من الذكر من الأولين إذ استستقى لقومه كما في الأعراف والبقرة ومن المثاني معه وعدا في الآخرين قوله:
ـ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ﴾
ـ ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ الفلاح
ـ ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ الحجر
ـ ﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ الجن
ـ ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾ البقرة
ويعني أن الناس يوم يصبح الماء غورا ومنه الذي خزّنوه سيستسقون بصالح المؤمنين فيُسقون به ماء معينا أي ماء غدقا كرامة للذين استقاموا على الطريقة قبيل فتنة الدجال التي سيفتتن بها من يعرضون عن ذكر ربهم أي آياته الخارقة.
ولا يزال الغيب يغيّب طائفةً من هذه الأمة سيقولون ربنا الله ثم يستقيمون أي لا يفتتنون بالسامري الدجال وستتنزل عليهم الملائكة في ليلة القدر تبشّرهم أن لا خوف عليهم من العذاب بعد مطلع فجر ليلة القدر وأن لا يحزنون إذ هم أصحاب الجنة والملائكة أولياؤهم يومئذ تنجّيهم من العذاب الذي سيمحق المجرمين والكافرين والمنافقين وأولياؤهم كذلك في الآخرة.
وإن من تفصيل الكتاب المنزل أن التكليف بالاستقامة يعني أن فتنا ستأتي على المكلف المخاطب وهكذا كانت فتنة قوم موسى وهارون بالسامري وعجله بعد تكليفهما بالاستقامة، ولا تزال الفتن المظلمة تترى على هذه الأمة.
ولا تزال الفتن المظلمة تترى على العوام المغفلين المبتلين بالمنافقين والعلمانيين والجبابرة المتسلطين، ظلمات بعضها فوق بعض على من عشِيَ أو عمِيَ عن الصراط المستقيم فلم يبصره أو أبصره فرغب عنه إلى غيره مما افتتن به عن الكتاب المنزل والهدْيِ النبويّ ولو كان متونا فقهية أو متون قراءات أو تفاسير عريضة شغلته عن استنباط التي هي أقوم وعن تبيّن الرشد من الكتاب المنزل.
إن الصراط المستقيم ليوصل من سلكه إلى رضوان الله ولو مات السالك بعد خطوته الأولى التي هي النية والقصد.
وليس الصراط المستقيم هو اجتهادات المكلفين في متون التفاسير والفقه والقراءات بل هو طريق سلكه الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فلم ينقطع بهم بل أوصلهم إلى حيث رضي الله عنهم ورضوا عنه.
ولا تتأتى دراية الصراط المستقيم قبل تصحيح المفاهيم حول دلالة الدعاء في القرآن وحول دلالة كلمة الإنعام وحول الذين أضيف إليهم في الكتاب المنزل وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون الذين أنعم الله عليهم فجعلهم يهتدون الصراط المستقيم مباشرة دون واسطة تعدية الهداية بحرف اللام أو بالحرف إلى.
ولعل من الغفلة دعاء أحدنا ربه أن يهديه إلى الصراط المستقيم إذ قد هدى الله إليه من قبل بإرسال الرسل والنبيين وهدَى هذه الأمة إلى الصراط المستقيم يوم نزّل الكتابَ إلى النبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وسلم.
أولا: دلالة الدعاء في الكتاب المنزل
ويقع الدعاء في الكتاب المنزل على عدة معان منها:
ـ الضراعة في الطلب واقتصرت ضراعة النبيين والرسل في الحاليْن خوفا وطمعا إلى الله ربهم كما في دعاء زكريا حالة الطمع ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ الأنبياء، وكما في ضراعة موسى حالة الخوف ﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ القصص
ـ الزعم كما في قوله ﴿أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَدًا﴾ مريم
ـ النداء بصوت عال كما في قوله:
ـ ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ﴾ طـــه
ـ ﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ الأعراف
ـ ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾ الكهف
ـ ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ الفرقان
ـ ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ لقمان
ـ الدعاء بمعنى النسبة كما في قوله ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾ الأحزاب
ـ الدعاء بمعنى السؤال كما في قوله ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ﴾ البقرة
ـ الدعاء بمعنى الإتيان بالمدعو وإحضاره كما في قوله ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ عمران.
وكان من علْم النبيين أنهم لا يدعون الله إلا بما علموا من الكتاب المنزل عليهم أو علموا من الوحي إليهم أو علموا مما عرض عليهم أنه من وعد الله.
ولما دعا نوح ربه بما ليس له به علم بالوحي إليه به أوحي إليه كما في قوله ﴿فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ هود، ويعني قوله ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ صحة الحديث النبوي أن لا يرث الكافر المسلم.
وحيث تلوتَ في الكتاب المنزل دعاء بمعنى الطلب والضراعة فهو إذْن من الله للمؤمنين أن يدعوه به وليس هو من الاعتداء في الدعاء وإنما هو دعاء الله بما علّمنا من الكتاب المنزل من عنده أنه من وعده.
فإن كان في الكتاب المنزل فهو من الوعد غير المكذوب سيتم نفاذه في الدنيا أو الآخرة أو فيهما.
وإن كان في القرآن فهو من الغيب المنتظر في الدنيا الذي كلفنا الإيمان به ولا يخلف الله وعده سبحانه وتعالى عما يتوهم المفتونون.
فمن الدعاء في الكتاب المنزل قوله ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ البقرة
ومن الدعاء في القرآن قوله:
ـ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ الفاتحة
ـ ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾
ـ ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ آل عمران
ـ ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ آل عمران
يتواصل
ومن الدعاء في القرآن قوله:
ـ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ الفاتحة
ـ ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾
ـ ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ آل عمران
ـ ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ آل عمران
ويعني أنه محقق الوقوع والنفاذ في الدنيا إذ هو من وعد الله ضمن الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن ولعلها:
1. الذكر
2. ضرب الأمثال
3. القول
4. النبوة
5. الغيب في القرآن ومنه التكليف بالإيمان وبالعلم وإسناد العلم إلى الله
6. الوعد في الدنيا ومنه الأسماء الحسنى والدعاء بها ومنه الدعاء في القرآن دون الكتاب
7. إعلان الجزاء في الآخرة
ولا دلالة للترتيب من عندي ولا قطع على موافقة الحق والصواب وإنما اجتهدت ونحوت والله أعلم.
وصرف النبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وسلم الصحابةَ عن الاشتغال بتعدد الأداء المنزل إلى الغاية القصوى التي لأجلها أنزل القرآن وهي تدبّره الذي يهديهم إلى الرشد والتي هي أقوم صراطا مستقيما لا سبيل إلى تبيّنه قبل استنباط الأحرف أي المعاني السبعة التي أنزل عليها القرآن، وليقرأنّ بحرف منها على الأقل من قرأ ما تيسّر من القرآن.
وأجدني مفتقرا إلى التمثيل لكل حرف من الأحرف السبعة.
أما الذكر فكما في قوله ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ الأنفال.
وأما ضرب الأمثال فكما في قوله ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرْت بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾ النحل
وأما القول فكما في قوله ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ﴾ الملك
وأما النبوة فكما في قوله:
ـ ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا﴾ الأعراف
ـ ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ الأنعام
ـ ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ سورة ص
وأما الغيب في القرآن فكما في قوله ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ يونس.
وأما التكليف بالإيمان فكما في قوله ﴿وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ﴾ الأحقاف، للدلالة على الوعد بالبعث.
وأما التكليف بالعلم فكما في قوله ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ براءة، للدلالة على نفاذ الوعد بالعذاب على الكافرين في الدنيا وفي الآخرة.
وأما إسناد العلم إلى الله فكما في قوله:
ـ ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾ سبأ
ـ ﴿فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ يس
ويعني حرف سبإ يوم أبى إبليس أن يسجد لآدم الوعد من الله أن يجعل الغيب شهادة وليتميز من يؤمن بالآخرة أتباع عباد الله المخلصين ممن هو في شك من الآخرة أتباع إبليس.
ويعني حرف يــــــس الوعد من الله أن يفضح في الدنيا ما يسره ويعلنه أعداء الرسول من المكر والكيد وأن سيعذبهم به في الدنيا والآخرة.
وأما الوعد في الدنيا فكما في قوله ﴿فَإِنَّ لِلذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ﴾ والطور، ومن المثاني معه قوله ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ القتال.
وأما الأسماء الحسنى فكما في قوله ﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ﴾ يونس، يعني وعدا منه أن يفني جميع مخلوقاته فلا يبقى إلا الله الواحد القهار، إذ هو الغني أي لا يحتاج إلى أحد من خلقه، وكما في قوله ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ آل عمران، ولا تتعلق قدرة الله بماض منقض بل بموعود منتظر ولعل أكبر حدث منقض في الكون هو خلق السماوات والأرضين ولم يتضمن تفصيل الكتاب المنزل اقتران ذكره بقدرة الله إذ هو مما مضى وانقضى يوم نزلت التوراة والإنجيل والقرآن.
وأما الدعاء بالأسماء الحسنى فكما في قوله ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ الشعراء، ويعني استجابة دعاء الساجد وصحة الحديث النبوي" أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" يعني أن السجود متقبل من الله السميع العليم ولم يقترن بالاسمين السميع العليم من الأعمال والأدعية إلا المتقبل منها.
وأما الدعاء في القرآن فكما في قوله ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ آل عمران.
وأما الدعاء في الكتاب فكما في قوله ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ آل عمران.
وأما إعلان الجزاء في الآخرة فكما في قوله:
ـ ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ آل عمران
ـ ﴿وَالذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ النساء
ولقد وقع إسناد الدعاء إلى الله ربنا وإلى الرسل وإلى الناس وإلى الشيطان.
فأما الدعاء المسند إلى الله كما في قوله ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ يونس، فيعني أن الكتاب المنزل من عنده تضمن خطاب المكلفين بالإسلام ليفوزوا بالوقاية من النار ودخول الجنة.
وأما الرسل والنبيون فهم الذين أذن الله لهم في دعوة الناس إلى الله يّبينون لهم على بصيرة الطريق إلى ربهم ورضوانه.
إن الله أرسل خاتم النبيين محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن ولا يزال القرآن غضا طريا كما أنزل ومنه قوله ﴿فَاصْدَعْ بما تُؤْمَرُ﴾ الحجر ، ومن المثاني معه قوله ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ الأنبياء، ويعني أنه صلى الله عليه وسلم لم يُخْفِ عن بعض الناس رسالة الله إليهم وإنما صدع بها وجهر ليستوي الجميع في العلم بها وهو مدلول الإيذان على سواء، ومن زعم أن رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم كانت له تنظيمات سرية يسرّ إليها بعض رسالته ويخفيه عن العامة فليأت ببرهان من القرآن أكثر وضوحا من حرفي الحجر والأنبياء وأقرب إلى هَدْي النبيين من قبل وإلا فقد أعظم الفرية.
إن حرف الحجر يعني الأمر بوجوب إعلان أن الأوثان لا تضر ولا تنفع وأن الناس في ضلال مبين إن لم يهتدوا إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه بالقرآن، وهي الحقائق الكبرى التي أخفى إعلانها عن جمهور أهل مكة وحدّث بها خواصّه قبل نزول حرف الحجر.
ويعني حرف الأنبياء أن النبيَّ الأمِّيّ صلى الله عليه وسلم قد أبلغ رسالته وهي القرآن علنا لكل الناس سواء منهم المؤمنون الذين اتبعوه والكفار الذين تولوا عنه.
إن قوله :
ـ ﴿قُلْ هَــذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَني﴾ يوسف
ـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ﴾ الأحزاب
ـ ﴿الـر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ إبراهيم
ـ ﴿وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ﴾ المائدة
ـ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ النساء
ـ ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾ الأنبياء
ـ ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ السجدة
لتعني أن الدعوة إلى الله ليست عملا يختاره المسلم لنفسه يدعو كيف شاء.
وإنما كان الرسول النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله على بصيرة أي بوحي من الله إليه يرشده ويأمره بتكليف الله، وأرسله الله داعيا إليه بإذنه أي أن الله أذن له بالدعوة إليه وأذن له كذلك في أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور وأذن للناس في طاعته كما في حرف النساء.
وهل يستطيع الدعاة أو قادة التنظيمات السرية والجهادية ادّعاء أن الله قد أذن لهم في دعوة الناس وقيادتهم وأذن للناس في طاعتهم؟
إن قوله ﴿ وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ﴾ ليعني أن سيكون دعاة بغير إذن الله يدعون على غير بصيرة وبغير إذن منه.
إن الخطأ المنهجي الذي وقع فيه قادة التنظيمات السرية أن كلا منهم قد جعل من نفسه وصيا على الملة والأمة أي شرع لنفسه وللأمة أنه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمّته، واضطرب الأمر بتعدد الخلفاء قادة التنظيمات السرية، يتنازعون الأمّةَ لتصبح بين قادة متشاكسين مختلفين، كل منهم يرى نفسه ـ تزكية منه لنفسه ـ هو الآمر الذي يجب على جماعة المسلمين مبايعته وطاعته.
ولن يسلم له الزعم أن الله أذن للناس في طاعته بل الأمر كما في قوله ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ النساء، أي أن الله أذن للناس أن يطيعوا رسوله إليهم ولا يتخلفوا عنه ولا يعصونه، وأنّى لهم الرشد حين يتخلفون عن السمع والطاعة لمن يدعو إلى الله على بصيرة أي بالوحي المنزل عليه، ومنه أن الله أذن له في دعوة الناس وأن يعلّمهم الكتاب والحكمة وأن يزكيهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه.
وكان حريا بالأمة وبالأمناء على الملة وهم خواصها الذين درسوا الكتاب المنزل وتعلموا من الحديث النبوي أن ينشغلوا في تعليم الناس الكتاب المنزل والهَدْيَ النبويّ وتدارسهما فلعلّ مبلَّغا ـ بصيغة اسم المفعول ـ من المتأخرين أوعى من مبلِّغ ـ بصيغة اسم الفاعل ـ وأفقه ممن حمل إليه نصوص الوحي.
ومعلوم إعلان هذه الكلية الكبرى في حجة الوداع في يوم النحر كما أخرج البخاري في الحديث رقم 67 في كتاب العلم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "رب مبلغ أوعى من سامع"، بسنده إلى أبي بكرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه قال : "أي يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه قال أليس يوم النحر؟ قلنا بلى، قال فأي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس بذي الحجة قلنا بلى قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه" ورواه مسلم 1679 وهو من مكررات البخاري.
إن قوله ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ آل عمران، وقوله ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ النساء، وقوله ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ الحج، لظاهر الدلالة على الأمر بأعمال البر وإشاعتها بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لن تستطيع التنظيمات السرية تمثله.
ويدعو الناس بعضهم بعضا باسمه فلان يناديه به.
وكان تزيين المعصية والكفر والطغيان من دعوة الشيطان حزبه إلى عذاب السعير، واستجاب المعرضون عن الإسلام إلى الشيطان الذي دعاهم إلى الشهوات والراحة والخلود فأخلفهم وعده وما كان له عليهم من سلطان ولا تسلط ولا قهر، ولكن أعرضوا عن الله فتفرقت بهم السبل عن الصراط المستقيم.