﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾
إن لكلمة ﴿الدِّينِ﴾ بكسر الدال ومشتقاتها في تفصيل الكتاب المنزل معان منها:
ـ الحساب في يوم الدِّين بمغفرة الذنوب وسترها أو بعرضها في ما بين العبد وربه حسابا يسيرا أو بعرضها عليه وعلى العالمين إنسهم وجنّهم وملائكة أجمعين، ويبدأ يومُ الدين بزجرة واحدة يقوم بها أصحاب القبور ليشهدوا يوما لا تملك فيه نفس لنفس شيئا من النصرة والشفاعة إذ الأمر يومئذ لله، وأشفق الخليل من الحساب وعرض الأعمال في يوم الدين فضرع إلى ربه ليغفر له خطيئته يوم الدين.
وينتهي يوم الدين بالجزاء في اليوم الآخر بالجنة أو النار.
وتساءل المكذبون ﴿أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ وكذّبوا به، كما كذّب به الذي حاور قرينَه بقوله ﴿أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ الصافات، وكما في قوله ﴿فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا﴾ الواقعة.
وإن من تأصيلي الجديد لعلم التفسير ومما يطرد ولا ينخرم أن قوله ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا﴾ حيث وقعت في الكتاب المنزّل فإنما في وصف غيْب يوم نزل القرآن وكلّف الله بالإيمان بالغيب:
وكان من الغيب في البرزخ كتاب مرقوم في عليين وكتاب مرقوم في سجين.
ومن الغيب في اليوم الآخر القارعة والحاقة ويوم الدين والحُطَمة نار الله الموقدة ونار حامية وسقر.
ومن الغيب في الدنيا يوم نزل القرآن النجم الثاقب وليلة القدر.
ولقد أخذ الله أخذة رابية فرعون ومن قبله من الأحزاب وكان أقلُّ منه كافيا لإبادتهم وعذابهم قبل الموت به، أخذهم أخذةً رابيةً أي زائدة على ما كان كافيا لإبادتهم، وكذلك كانت اللّعنة التي لعن الله بها إبليس إلى يوم الدين زائدة على ما يستحق به الخلود في النار، ذالكم أن اللعنة من الله هي الحيلولة بين الملعون بها وببن التوبة والإسلام ساعة مصيبة الموت أي هي الحيلولة بين الملعون وبين رحمة الرحمان الرحيم، واشتد غضب الله على إبليس بما استكبر وأبى عن السجود وكفر فوقعت عليه لعنة الله إلى يوم الدين أي إلى حين الحساب والجزاء.
ولقد أنظر الله منظرين أخّر عنهم الموت كما بينت في مادة أنظر، وكذلك أُنظِر إبليسُ إلى يوم الوقت المعلوم ليهلك مع الصاغرين وساعة هلاك الصاغرين معلوم من القرآن كفلق الشمس، ولعن الله إبليس إلى يوم الدين ليبدأ معه الحساب فالعذاب في جهنم، ولم يستجب ربنا دعاء إبليس أن ينظره إلى يوم يبعثون إذ هو كافر، ودعاءُ الكافرين في ضلال وتباب.
وجعل الله في اليوم الآخر شجرةَ الزقوم نُزُلَ الضالّين المكذّبين بيوم الدين.
وجعل عذاب سقر في الآخر جزاء المجرمون بتكذيبهم بيوم الدين.
ويجزي الله المصدّقين بيوم الدين بإكرامهم في جنات في اليوم الآخر.
والتصديق كما بينت في مادة صدق إنما يقع من المعاصر ويعني التصديقُ بيوم الدين الخشوعَ دائما في جميع أحواله بتذكر الحساب كما في قوله ﴿وَالذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ﴾ المعارج، ومن المثاني معه قوله ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ البقرة، فالخاشع هو الذي يُصَلّي صلاةَ مودّع لغلبة ظنِّه أنه قد يموت قبل الفريضة اللّاحقة فيستقبل يوم الدين للحساب، فذلك الترقُّب ليوم الدين وتذكُّره وتصوُّر الموقف الرهيب يجادل المكلف فيه عن نفسه هو التصديق به.
يتواصل
وقد وعَد الله وعْدَه:
ـ ﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ الذاريات
ـ ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ﴾ النور
ـ ومن معاني كلمة ﴿الدِّينِ﴾ التشريعُ المنزل أي ما شرع الله للمكلفين أن يدينوا به في سلوكهم وتصوراتهم وسيُدانون أي يحاسبون في يوم الدين كلٌّ حسَب تقصيره وعصيانه، ووصّى الله به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا النبي الأميّ صلى الله عليه وسلم، ووقع الإنكار في سورة الشورى على المشركين إذ لم يدينوا بالإسلام كأنما لهم شركاء شرعوا لهم ما لم يأذن به الله من الدين أي الشرع.
وعلى من شهد الشهادتين إيمانا منه بالغيب أن يسلم لله الذي كلفه بالإسلام انقيادا منه وتمثلا سلوكا وتصورات يَدِين بها ما حيِيَ يرجو بالطاعة المغفرة والرحمة بالجنة ورضوانا من الله هو أكبر، ويخاف باجتناب المنهيات الحساب والعذاب بالنار ولَمَقْتُ الله أكبر.
وإن من دين القيّمة الذي شرع الله لأهل الكتاب من قبل وشرع لهذه الأمة أن يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة
ومن التشريع القيم الذي شرع الله للناس أن السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم.
ومنه تكليف جماعة المسلمين في ظل سلطانهم جلد الزاني مائة جلدة على الملإ.
وحيث اقترن الدين في الكتاب المنزل بالتكليف بالإخلاص فإنما يعني أن الله لا يقبل من العبادة إلا ما شرع منها وكان خالصا.
وما جعل الله في ما شرع لعباده من الدين من حرج أي لم يكلفهم إلا بما يطيقون.
ووقعت كلمة ﴿الدين﴾ كذلك على كل شرع كما في قوله:
ـ ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ يوسف
ـ ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ﴾ غافر
ـ ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ﴾ الكافرون
ـ ﴿هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ التوبة، الفتح، الصف
ولا يقع شيء منه على الإسلام وإنما هو تشريع ملك مصر، وشرع فرعون ذي الأوتاد ،وشريعة الكافرين الذين لا يعبدون الله، والشرائع كلها غير الإسلام.
ويعني قوله ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ المائدة، التشريع الذي شرع الله للنبي الأمي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه من صحابته الكرام، والمسلمين من ورائهم إلى آخر الحياة الدنيا، وقد كمُل الدينُ يوم الحج الأكبر في حجة الوداع في السنة العاشرة بعد الهجرة.
وتتابع نزولُ الوحي بعد نزول هذه الآية في حجة الوداع ونزل من القرآن بعدها طيلة ثلاثة أشهر ومنه قوله ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ البقرة، ولا شك أنها من الدين الذي كمُل في حجة الوداع رغم تأخر نزولها عن حرف المائدة.
وإن جميع ما تضمن القرآن من الغيب الموعود في الدنيا هو من الدين الذي كمل في حجة الوداع وأتمه الله وارتضاه ويجب الإيمان به كالغيب الموعود في الآخرة.
ومن الغيب الموعود في الدنيا تلكم الآيات الخارقة للتخويف والقضاء بين الفريقين كما في قوله ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ يونس.
ومن الغيب الموعود في الدنيا قوله ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ القيامة، ولعله كالموصوف في قوله ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ عبس.
ومن الغيب الموعود في الدنيا أن ينصر الله المؤمنين في القتال في سبيل الله كما في المثاني:
ـ ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ المائدة
ـ ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ براءة
ومن الغيب الموعود في الدنيا أن ينصر ربنا في يوم الفتح المؤمنين بإهلاك المكذبين بعد مطلع فجر القدر ويستخلف في الأرض المؤمنين لتكون العاقبة للمتقين خلافة على منهاج النبوة.
تلك الحوادث الموعودة من الغيب في القرآن ونبوة النبيين جميعا وكلّف الله المسلمين بالإيمان بها انقيادا منهم لدين الإسلام الذي ارتضى الله للمسلمين ومن يكفر بها فقد أعرض وتولى عن الإسلام.
وإن مما أقعده إبليسُ من الصراط المستقيم تلك المتون الفقهية التي قصرت عن الغيب في القرآن واتخذها الناس بديلا شرعيا عن القرآن والهدي النبويّ.
وليس من الدين في شيء ما في التراث من فهم المفسرين والمحدثين والفقهاء الذي خالف الكتاب المنزل من عند الله وحسب الناس أنه من عند الله واتخذوه دينا.
إن قوله ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ ليقع على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه يوم الحج الأكبر في حجة الوداع وقد أتمّ الله عليهم نعمته وأراهم مناسكهم ونصرهم ومكّن لهم في الأرض ودخل الناس في دين الله أفواجا ولا يعني دخول من بعدهم من الأجيال اللاحقة معهم في الخطاب كالذين قتلهم وأذلّهم جنكيز خان وهولاكو وتيمورلنك والصليبيون والعبيديون وكالمسلمين الذين سلط الله عليهم في العصر الحديث من يسومونهم سوء العذاب.
ولقد أتمّ الله نعمته على آل يعقوب واقتصر الخطاب على آل يعقوب أي على يوسف وإخوته خاصة دون أحفادهم الذين أذلّهم وقتلهم فرعون والذين شرّدهم جالوت وجنوده وجاسوا خلال ديارهم والذين قالوا يد الله مغلولة والذين قالوا إن الله فقير والذين قالوا عزير ابن الله وقالوا المسيح ابن الله سبحان الله وتعالى عن ذلك كله ولم يتم الله نعمته عليهم.
وإن قوله ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ ليعني أن الله رضِيَ أن يعبد بدين الإسلام ومن الإسلام الاهتداء بالقرآن والانقياد لجميع تكاليفه ومنها ما لا يزال غيبا منتظرا كُلّفنا الإيمان به.
يتواصل
وإن قوله ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ وقوله ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾ آل عمران، وأنه دين الله، وقوله ﴿هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ براءة والفتح والصف، ووصفه بأنه دِين القيّمة ودِين قيّم، في خطاب هذه الأمة لمن المثاني مع الذكر من الأولين من قول يعقوب ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴾ البقرة، ويعني أن الله ربَّ العالمين قد اختار لعباده دِين الإسلام.
وإن من دين الله قوله ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ البقرة، ومن المثاني معه قوله ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ الكهف.
ولقد شرع الله لهذه الأمة من الدّين ما وصّى به النبيين من قبل ووصّى به النبي الأميّ صلى الله عليه وسلم فكان من سُنّته أن يُقيمَ وجهه للدين حنيفا وللدين القيم، ولا يسع المؤمنين الرغبةُ عن سنة نبيهم أو الخروج عنها، ولأن خطاب الأعلى ليشمل من دونه رتبة كما أصّلت في أصول الفقه فقد وصّى الله به الأمة كلها ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ الشورى، وبينت دلالة كلمة حنيفا في مادتها وقيمّا كذلك في مادتها من المعجم.
ونهى الله المسلمين نهيا صريحا في قوله ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينِ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُم فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الممتحنة، فما ظننا بمن مالأ وموّل ووطأ واتخذهم وليجة من دون المؤمنين المستضعفين المشردين المقاتَلين في دينهم كالذين يتراءون مسلمين ويوالون ويدعمون الذين مزقوا إخواننا الروهينكا المسلمين في ميانمار، ويوالون الحكومة اللادينية الحاقدة على المسلمين في بنجلاديش ويوالون الذين استضعفوا إخواننا في الأحواز وغيرها ويوالون النظام السوري النصيري الذي شرّد المسلمين وسفك الدماء وأفسد في الأرض وأهلك الحرث والنسل.
واتخذ قوم من أهل الكتاب دينهم هزوا ولعبا معرِضين عما فيه من الهدى باتخاذه هَزْلا ولعبا ولهوا وهزوا أو باعتباره للتسلية والتبرك فقط،
واتخذ الكفار من الاستهزاء واللعب دِينا لا يفترون عنه.
ونهى الله المؤمنين عن موالاة الطائفتين.
وتضمن تفصيل الكتاب المنزل النهي عن الغُلُوّ في الدّين في سياق ذمّ إفراط النصارى في حبّ المسيح ابن مريم إفراطا أخرجهم من العبودية والإيمان إلى الكفر بالله والشرك به، ويعني حرف المائدة أن النصارى بغلوّهم في المسيح ابن مريم قد اتبعوا ﴿أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ وإنما هم المجوس الثنويون الذين يزعمون حلول اللاهوت في الناسوت غُلُوا منهم في تعظيم أسر أو طبقات من المجتمع، ولقد كان أول تحريف التوراة على يد فِيلُونْ اليهودي تلميذ الفلسفة المجوسية ذات التعاليم الباطنية.
ويأتي قريبا بيان دلالة الضلال والإضلال في آخر السورة.
ومن الطعن في الدين التنقيص من أهلية رسل الله وأنبيائه لما اصطفاهم الله له كما في المثاني:
ـ ﴿وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ براءة
ـ ﴿مِنَ الذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ النساء
ـ ﴿قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ براءة
ـ ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ الزخرف
ـ ﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ﴾ الدخان
ووقع في تفصيل الكتاب المنزل في سورة الماعون أن من التكذيب بالدين دعّ اليتيم أي دفعه عن حاجته إذا استطعم أو استسقى أو استكسى أو التجأ، والإعراض عن الحضّ على طعام المسكين، ومن المثاني معه في سورة المدثر من سلوك الذين كانوا يكذّبون بيوم الدين ودخلوا سقر سيعترفون أنهم لم يكونوا من المصلين ولم يكونوا ممن يطعمون المسكين وبينته في مادة الإطعام.
ومن الوعد في الدنيا قوله ﴿وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ النور، وذلك يوم تكون العاقبة فيه للمتقين آخر الصراع بين الفريقين.
ولقد كان من الذكر من الأولين قوله:
ـ ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الأعراف
ـ ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الشعراء
ـ ﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ﴾ طــــه
ـ ﴿وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ﴾
ويعني أن رسول رب العالمين موسى بدأ رسالته بالسعي إلى التميز والهجرة بقومه عن سلطان فرعون وليتركه وما اختار لنفسه من كفر وطغيان وفساد، وابتعد الرسول الكليم الوجيه عن الاغتيال وقطع الطريق.
ومن المثاني معه وعدا في الآخرين قوله:
ـ ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ آل عمران
ـ ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ الأنفال
ـ ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ الفتح
وبينته في مادة هجر وغيرها.
ولعل بدء الصراع قد أوشك وليقع التميز الموعود ويوم يقع الصراع بين الفريقين أو السوادين سيصطفي الله للأمة قائدا هو خليفة في الأرض من رب العالمين يُؤتَى التمكين والتسخير الخارق نواميس الكون ونظام الحياة آيات خارقة هي من الغيب في القرآن وليقع في هذه الأمة استخلاف كما استخلف الذين من قبلهم وهم داوود وسليمان وذو القرنين، وسيقع بعده استخلاف آخر بتدمير المكذبين ونجاة المؤمنين كالقلة من قبل مع نوح وهود وصالح وشعيب ويومئذ يمكن الله لهم دينهم الذي ارتضى لهم فيعبدونه لا يشركون به شيئا ولا وسوسة ولا شياطين إذ قد أهلكوا مع الصاغرين في يوم من أيام الله يبدأ بمطلع الفجر من ليلة القدر.
ومن الوعد في الدنيا قوله ﴿هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهَرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ الصف وبراءة، وقوله ﴿هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهَرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ الفتح، ويعني أن دين الحق سيظهر على جميع الأديان والملل والنحل غيره وإنما هو تمكين دين الحق خاصة في الأرض تمكينا لا سلطان معه لغيره من الأديان لتكون العاقبة للمتقين، وعدا معلوما نبّأ الله به جميع النبيين من قبل ومنهم النبي الأمي، وكذلك دلالة قوله ﴿لِيُظْهَرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ حيث وردت لوقوع الظهور على التمكين في الأرض والملك والتملك كما في قول رجل مؤمن من آل فرعون ﴿يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض﴾ غافر، وهو من الذكر من الأولين ومن المثاني معه وعدا في الآخرين قوله ﴿فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين﴾ الصف، وبينته في مادة ظهر، ويعني قوله في سورة الفتح ﴿ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ أن الهدى ودين الحق الذي أرسل الله به النبيّ الأمّيّ سيظهر على الأديان كلها ظهورا شهد الله عليه، ومن أكبر من الله شهادة، ولن يبقى ما شهد الله سرّا مخفيا بل سيصبح معلوما للعالمين جميعا يوم يقع نفاذ الوعد بها في الدنيا أو في الآخرة، وبينته في مادة شهد.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
إن قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ليعني أن من آمن بيوم الدّين وانتظره ستنحصر نيّتُه وأعمالُه وسعيُه في عبادة الله وحده، فإن عجَز أو فتَر استعان بالله وحده، وحسُن أدبُ الحامدين المؤمنين بيوم الدين بتقديم ضمير النصب المنفصل على فِعلَيِ العبادة والاستعانة ومن قام بهما من العابدين المستعينين ليمُدَّهم بالعافية والأمن والرزق ليتمكنوا من العبادة كما في قوله ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الذِي أَطْعَمَهُم مِّنْ جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ قريش، وكما في المثاني معه من الذكر من الأولين قوله ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ﴾ النحل، أي لم تستعن بنعمتي الرزق والأمن على العبادة، وكما في توجيه النبي الصّدّيق الخليل إبراهيم يخاطب قومه ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ العنكبوت، يعني ابتغُوا عند الله الرزق لتستعينوا به على العبادة، وكذلك دلالة قوله ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ الذاريات.
إن قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ بنوني الجماعة للدلالة على إقرار وعهد من الحامد المؤمن بيوم الدين أن يعبد الله مع العابدين وأن يستعين بالله مع المستعينين به، ووقع تكليف بني إسرائيل وتكليف مريم ابنة عمران بالركوع مع الراكعين.
وحريٌ بالعابد أن يحرص على هداية الناس كلهم ويفرح بعبادة العابدين إشفاقا من غضب الله على العاصين.
ولقد أنعم الله على المكلفين بهدايتهم إلى عبادته، وضلّ عنها كثير من الجن والإنس فعبد بعضهم بعضا، واتخذوا من أسماء وأصناما فعبدوها من دون الله.
وعرفت البشرية في الجاهليات الأولى ظلم المستضعفين المغلوبين والذين انقطعت بهم السبل كما باعت سيارة من الناس يوسف فجعلت منه عبدا مُفَرَّغا للقيام بخدمة سيّدته زوجة عزيز مصر، وتضمن القرآن تفصيل تعامل يوسف مع الواقع غير الشرعي، واتخذ فرعون ذو الأوتاد طائفة من الناس هم بنو إسرائيل فجعلهم قائمين مُسخّرين في خدمة آل فرعون وتعامل الرسول موسى مع الواقع غير الشرعي فسأل فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل كما هو مفصل في سورة الأعراف وطـــه والشعراء، وتعامل القرآن مع الواقع غير الشرعي فحضّ على فكاك الرقاب وكلّف به، وتمثّله النبيّ الأمّيّ فأعان سلمان الفارسي على فكاك رقبته من رقّ اليهودي، ذلكم ديننا الحنيف الأبيض النقي الذي لم يكلّف المستضعفين جُهدا يزداد به الجرح والقرح، لو علمه الإسلاميون المعاصرون.
ولم يهتدِ كثيرٌ من الناس إلى عبادة الله رب العالمين فاتخذوا أسماء وأصناما عبدوها من دون الله أي عكفُوا على تقديسها كما وصف طائفةٌ من المشركين أنفسَهم ﴿قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ الأنبياء، سخّروا أنفسَهم لتقديسها، والحقيقة أن الضّالّين قد اتخذوا أهواءهم آلهة كما في قوله ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَــهَهُ هَوَاهُ﴾ الجاثية، وكذا حرف الفرقان، وإنما أعرضَ العابدون أهواءَهم عن عبادة الله فعبدوا ما وافق أهواءهم أصناما أو أسماء أو غيرها.
ولا يخفى قصور التراث الإسلامي العريض عن تصور مدلول عبادة الله رب العالمين، وكأن لم يلاحظوا من تفصيل الكتاب المنزل أن العبادة ليست هي الركوع ولا السجود ولا التوكل على الله ولا تقواه ولا الإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى وقول الحسنى للناس ولا إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة، ولا القنوت ولا التوبة ولا السياحة ولا فعل الخير ولا الحمد ولا الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر ولا حفظ حدود الله، بل لعبادة الله مدلول مغاير لكل من هذه التكاليف من ربّنا وإلا لَلَزِم القولُ أن السجودَ هو برُّ الوالدين وأن النهيَ عن المنكر هو الركوعُ وهو ظاهر الفساد.
ويلاحظ في تفصيل الكتاب المنزل ورود العبادة بعد الدين كما في سورة الفاتحة وفي قوله ﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ يونس، ويعني المغايرة بين مدلول الكلمتين وأن الإيمان بالدين وتصوره يسبق العبادة وأن العبادة لاحقة بعد الإيمان بالدين المنزل من عند الله، كلُحوقها بعد التوبة في قوله:
ـ ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ﴾ التحريم
ـ ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ﴾ براءة
ويعني ورود العبادة بعد التوبة أن عبادة الله هي أول ما يبدأ به التائب إلى الله مما سلف من شروده أي هي الاستعداد في كل أحواله لتمثل ما يقع عليه من الخطاب والتكليف طاعة غير مشوبة بحرَج ولا تردّد، ذلكم أن عبادة الله هي استعداد المسلم في كل أحواله لتمثُّلِ ما يقع عليه من التكليف والخطاب في الكتاب المنزل والهدي النبوي.
ويعني حرف هود ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ قبول التوكل على الله ممن عبَدَه بتمثّل ما وقع عليه من الخطاب.
ويعني حرف العنكبوت ﴿اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ﴾ من خطاب إبراهيم قومه أن يطيعوا ما يقع عليهم من الخطاب والتكيف وليتقوه بالحذر من التفريط والإفراط والمعصية.
ويعني حرف طــه ﴿إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَــهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ أن أول تكليف وقع على موسى هو خطابه أن يكون في كل أحواله مستعدا لتمثل ما يقع عليه من التكاليف وأولها إقامة الصلاة ليذكر الله فيها.
ويعني حرف النجم ﴿فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا﴾ تكليف المكلفين بالسجود وبعد الفراغ منه بالمسارعة إلى تمثل ما يقع عليهم من التكاليف كقوله ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾ الشرح.
ويعني حرف الحج ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اركْعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ تكليف الذين آمنوا بالصلاة وبالمسارعة بعدها إلى تمثل ما يقع عليهم من التكليف وأن يفعلوا الخير.
ويعني حرف الإسراء ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ أن الإحسان بالوالدين هو أول ما وقع من التكاليف بعد الخطاب بالاستعداد لتمثل ما يقع على الناس من خطاب رب العالمين.
ويعني حرف البقرة أن أول ما وقع من الخطاب على بني إسرائيل في التوراة هو تكليفهم بالعبادة التي هي الاستعداد لتمثل وطاعة خطاب الله وتكليفه وبعْدَه كلّفهم الله بالإحسان بالوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وأن يقولوا للناس حُسْنا وأن يقيموا الصلاة وأن يؤتوا الزكاة.
ومن عجب القرآن أن جميع الرسل أمَروا أقوامَهم بعبادة الله إلا لوطا فلم يأمرهم بها وإنما بما يلزم قبلها إذ كلّفهم بالتخلي عن الفاحشة وأمرَهم بالتطهّر لأنهم قبل ذلك ليسوا مخاطبين بالعبادة ولا أهلا لها إذ ليسُوا على استعداد لتمثل ما يقع عليهم من خطاب رب العالمين، فخوطبوا بالتكليف الأول فلو أجابوا لخوطبوا بالثاني وإلا لم يتجاوز خطاب المرحلة الأولى وهكذا لم يستجيبوا فلم يتجاوز لوط دعوة قومه إلى الطهارة والعودة إلى الفطرة فرحم الله لوطا ما أشد ما ابتلي به وهو ينظر إلى طمس الفطرة في قومه الذين سبقوا العالمين إلى إتيان الفاحشة بإتيان أدبار الذكران من العالمين أي من البشر فإن لم يتمكنوا أتوا أدبار الذكور من الأنعام وغيرها من الحيوانات.
وإن لوطا الذي آتاه الله حُكْما وعلما قد أصاب في حكمه يوم قال لقومه ﴿هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ هود، ومن المثاني معه قوله ﴿هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ الحجر، وإنما أراد لوط أن يرُدَّ قومه إلى الفطرة كما في قوله ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ الشعراء، أي فروج النساء، ولو تمكن لوط من إرجاع قومه إلى الفطرة لسارع إلى تكليفهم بعبادة الله رب العالمين.
إن الذي جنح إليه المفسرون من التأويل هو من الأباطيل ومنه قولهم إنما يعني لوط نساء أمته فهم بناته ويردّه قوله ﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾ هود، ويعني أنهم علِموا أنه يريد بناتِه لا بناتهم اللاتي لا سلطان له عليهم.
إن الله لم يعتب على لوط دعوته قومه إلى بناته وأنهن أطهر لهم من الفاحشة بالذكور وإنما وصفه بأنه آتاه حكما وعلما وأنه من المحسنين وأنه فضله على العالمين وآتاه الكتاب والحكم والنبوة كما في الأنعام.
ولقد منّ الله على النبيين فوفّقهم إلى تحقيقهم العبادة في الدنيا في جميع أحوالهم في أنفسهم وفي ما يملكون أي للاستعداد لتمثل التكليف المنزل، وكان إسلامهم كإسلام من في السماوات والأرض يوم القيامة لله كما في قوله ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا ﴾ مريم، أي مسلما خاضعا يستجيب للداعي، ولا كرامة بالإسلام في يوم القيامة وإنما في الدنيا كإسلام الملائكة والنبيين فيها.
ومن الحسنة التي آتاها الله النبيين أن وصف كلا منهم بالعبد في القرآن لبيان كرامته ووجاهته عند ربه كما في المثاني:
ـ ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ الإسراء
ـ ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ﴾ سورة ص
ـ ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا﴾ الكهف
ـ ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ﴾ سورة ص
ـ ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ﴾ سورة ص
ـ ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ مريم
ـ ﴿سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ فاتحة الإسراء
ومن الوعد والغيب في القرآن الذي لم يقع بعدُ نفاذه ولا تزال البشرية على موعد معه قوله:
ـ ﴿وَالذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ فاطر
﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾
ـ ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَـــــهَ إِلَّا أَنَا فَاتّقُونِ﴾ النحل
ـ ﴿قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الذِينَ اصْطَفَى﴾ النمل
ـ ﴿وَلَــــــكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ إبراهيم
ـ ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ فاطر
ـ ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ...﴾ الأنبياء
ـ ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ ص، وكذلك حرف الحجر وأحرف الصافات
وبينته في معجم معاني كلمات القرآن وحروفه مادة اصطفى وأخلص وأكرم وعلم ومنّ وسلام وغيرها.
ومن الوعد والغيب في القرآن الذي لم يقع بعدُ نفاذه ولا تزال البشرية على موعد معه قوله:
ـ ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ النساء
يتواصل
﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
أعانه أي أمدّه بقدرة تبلِّغ العاجزَ ما يحتاجه للاستمرار أو لبلوغ المراد، واحتاج ذو القرنين إلى قوَة الأيدي العاملة لبناء السّدّ، واعترف كفّار قريش بإعجاز القرآن، فاتهموا النبي الأميّ الرسول به كما في وصفهم ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ الفرقان، وتَنَزّل الكتاب بتكليف الناس أن يُعين بعضُهم بعضا على البرّ والتقوى وبنَهْيِهم عن التعاون على الإثم والعدوان، وبينت دلالة كل من البرّ والتقوى والإثم والعدوان في مواضعها من المعجم.
وتضمنت سورةُ الفاتحة إقرارَ الحامدين المؤمنين بغيب يوم الدين وتعهّدَهم أن يعبدوا الله مع العابدين وأن يستعينوا بالله مع المستعينين.
واستعان النبي يعقوب بالله لما عجَز عن دفع كيد بنيه بيوسف فقال ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ يوسف، ويوم أصبح موسى في مصر خائفا يترقب أن يقتله فرعون خرج هاربا واستعان بالله وحده ﴿قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ القصص، ويوم مسّ الضرُّ أيوبَ استعان بالله وحده كما في قوله ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ الأنبياء، ويونس إذ التقمه الحوت استعان بالله وحده كما في قوله ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَــهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الأنبياء.
أولئك النبيون الذين كلَّفَ الله نبيّنا الأميّ أن يهتدي بهداهم استعانوا بالله ولم يستعينوا بأجدادهم ولا بالقبور ولا بما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
ومن تفصيل الكتاب المنزل خطابُ الجماعة المسلمة المستضعَفة بتكليفها بالصبر والاستعانة بالله حتى يزولَ عنها الاستضعافُ وتتجاوزَ مرحلةَ التميز بالانفصال عن دار الغالب، ليتأتّى خطابُها وتكليفها بالانتصار برد الاعتداء بمثله وبالقتال، ومن الذكر من الأولين قوله ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ الأعراف، من توجيه رسول رب العالمين موسى قومَه المستضعَفين الذين توعّدهم فرعونُ بالمزيد من القتل والقهر والاستعباد، ولم يأمرهم بالاغتيال والتنظيمات السرية ولا الحرابة، وكذلك خوطب بنو إسرائيل في التوراة أي بعد هلاك فرعون بقوله ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ البقرة، ومن المثاني معه في خطاب هذه الأمة قوله ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة، في وصف مرحلة المسلمين يوم يقع تسلط الذين ظلموا فيهدمون الكعبة وليهتدي المسلمون يومئذ كما أي بمثل الهداية الموصوفة في قوله ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة.
ومن الوعد في القرآن أن سيشتدّ الكرْبُ بالمؤمنين ويستفْتح صالح المؤمنين يومئذ كما في قوله ﴿قَاَل رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ خاتمة سورة لأنبياء.
﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
أعانه أي أمدّه بقدرة تبلِّغ العاجزَ ما يحتاجه للاستمرار أو لبلوغ المراد، واحتاج ذو القرنين إلى قوَة الأيدي العاملة لبناء السّدّ، واعترف كفّار قريش بإعجاز القرآن، فاتهموا النبي الأميّ الرسول به كما في وصفهم ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ الفرقان، وتَنَزّل الكتاب بتكليف الناس أن يُعين بعضُهم بعضا على البرّ والتقوى وبنَهْيِهم عن التعاون على الإثم والعدوان، وبينت دلالة كل من البرّ والتقوى والإثم والعدوان في مواضعها من المعجم.
وتضمنت سورةُ الفاتحة إقرارَ الحامدين المؤمنين بغيب يوم الدين وتعهّدَهم أن يعبدوا الله مع العابدين وأن يستعينوا بالله مع المستعينين.
واستعان النبي يعقوب بالله لما عجَز عن دفع كيد بنيه بيوسف فقال ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ يوسف، ويوم أصبح موسى في مصر خائفا يترقب أن يقتله فرعون خرج هاربا واستعان بالله وحده ﴿قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ القصص، ويوم مسّ الضرُّ أيوبَ استعان بالله وحده كما في قوله ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ الأنبياء، ويونس إذ التقمه الحوت استعان بالله وحده كما في قوله ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَــهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الأنبياء.
أولئك النبيون الذين كلَّفَ الله نبيّنا الأميّ أن يهتدي بهداهم استعانوا بالله ولم يستعينوا بأجدادهم ولا بالقبور ولا بما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
ومن تفصيل الكتاب المنزل خطابُ الجماعة المسلمة المستضعَفة بتكليفها بالصبر والاستعانة بالله حتى يزولَ عنها الاستضعافُ وتتجاوزَ مرحلةَ التميز بالانفصال عن دار الغالب، ليتأتّى خطابُها وتكليفها بالانتصار برد الاعتداء بمثله وبالقتال، ومن الذكر من الأولين قوله ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ الأعراف، من توجيه رسول رب العالمين موسى قومَه المستضعَفين الذين توعّدهم فرعونُ بالمزيد من القتل والقهر والاستعباد، ولم يأمرهم بالاغتيال والتنظيمات السرية ولا الحرابة، وكذلك خوطب بنو إسرائيل في التوراة أي بعد هلاك فرعون بقوله ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ البقرة، ومن المثاني معه في خطاب هذه الأمة قوله ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة، في وصف مرحلة المسلمين يوم يقع تسلط الذين ظلموا فيهدمون الكعبة وليهتدي المسلمون يومئذ كما أي بمثل الهداية الموصوفة في قوله ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة.
ومن الوعد في القرآن أن سيشتدّ الكرْبُ بالمؤمنين ويستفْتح صالح المؤمنين يومئذ كما في قوله ﴿قَاَل رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ خاتمة سورة لأنبياء.
﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾
الهداية
إن قوله ﴿قَالَ رَبُّنَا الذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ طـه، ليعني أن ربّ العالمين قد هَدَى كلّ مخلوق إلى ما جَبَله عليه مما يصلُح لبقائه وحفظ نوعه، وذلك التوفيق الذي فتح به المولود فاه ساعة يولد ليمصّ الثدي، وذلك التوفيق الذي جعل كل مخلوق على الأرض يسلك سلوكا خاصا لبقائه، وجعل أنثى الطير تهتدي إلى فقص بيضها في أجل معلوم لا تضل عنه ولا تخطئه، هو الهداية من رب العالمين إلى أسباب بقائه.
والمستضعفون من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة تُخَلّصهم من الاستضعاف ولا يعرفون الطريق التي توصلهم إلى حيث يبتغون إذ لا يهتدون إليها.
وتكلف بنو إسرائيل التقيد بأوصاف بقرة بذاتها ليهتدوا إليها فلا تتشابه مع غيرها من البقر.
واختبر سليمان عقلَ ملكة سبإ ليعلم رأي العين هل ستهتدي إلى معرفة عرشِها رغم ما لحقه من التنكير أم سيَلتبس عليها وتضلّ عنه فلا تعرفه.
وإن قوله ﴿اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ يـس، ليعني أن النبيين والرسل في الدنيا كأهل الجنة قد هداهم ربهم إلى الطيب من القول وإلى صراط مستقيم فلا يملك أحدهم لنفسه ضلالا ولا زيغا كما في قوله ﴿أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾ النور، ويعني أن رسل الله لا يحيفون ولا يميلون عن الحق أبدا بما هداهم ربهم ووفقهم إذ هداهم ربهم فاهتدوا ومن قبل قد آتاهم حكما وعلما وجعلهم أئمة يهدون غيرهم من الناس بأمره وإذنه وأوحى إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهداهم في الدنيا إلى الطيب من القول وإلى العمل الصالح فلا يخطئونه ولا يضلون عنه.
وأما هداية عامة الناس فإنما تعني تبيُّنَهم ما جاء به النبيون والرسل من الهدى والبينات والإيمان به واتباعه من غير ضلال عنه إلى ما تهوى الأنفس أو يدعو إليه الشيطان.
إن الكتاب المنزل من عند الله هو هُدًى للناس يهتدون به إلى رضوان الله وإلى أسباب النجاة في الدنيا والآخرة من عذاب الله كما في قوله:
ـ ﴿هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ عمران
ـ ﴿هَـذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُـدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ الأعراف
ـ ﴿فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ الأنعام
ـ ﴿هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ التوبة والفتح والصف
ـ ﴿وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُـدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ القصص
ـ ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُـدَى آمَنَّا بِهِ﴾ الجن
ـ ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى﴾ النجم
ـ ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولًا﴾ الإسراء
وشبهه ويعني أن الكتاب المنزل على الرسول النبي الأمي صلى الله عليه وسلم هو الهدى الذي أرسل به فمن قال به فقد صدق ومن تمسك به فقد نجا ومن اتبعه فقد اهتدى ولو خالفه الناس أجمعون وخالفه التراث أي جميع الاجتهادات والآراء.
وكذلك وقع في القرآن الوصف بالهُدَى على الآيات الخارقة للتخويف والقضاء مع الرسل بها من رب العالمين كما في قوله :
ـ ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ فصلت
ـ ﴿قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ طـه
ـ ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ﴾ القصص
ـ ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾ غافر
ويعني أن الناقة والعصا واليد البيضاء وسائر الآيات الخارقة للتخويف والقضاء مع الرسل بها كانت هدى يهتدي بها من رآها وحضرها إلى أن أحدا من العالمين لا يقدر على مثلها فإن آمن واتبع من جاء بها فقد اهتدى وأبصر الهدى وإن أعرض عنها فهو في ضلال مبين لا يختلف فيه كما استحبت ثمود العمى فلم يبصروا الناقة الآية المبصرة وهي مبصرة لأنها تجعل من آمن بها على بصيرة من ربه كما في قوله ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَـــؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ﴾ الإسراء، يعني الآيات التسع مع موسى للتخويف والقضاء.
إن تأخر نزول التوراة إلى ما بعد هلاك فرعون ليعني أن الهدى قبلها مع موسى وهارون كما في قوله ﴿قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ من قول موسى وهارون هو الآيات الخارقة معهما للتخويف والقضاء إذ جعلا الهدى بدلا من الآيات الخارقة المعجزة من ربه، وقولهما ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ هو من ليّن القول الذي كلِّفا به ليفهم فرعون أنه باتباعهما إنما يتبع الهدى من ربه، حرصا منهما على أن لا يمنعه الكبر والاستعلاء على من يعتبرهما من رعيته.
ووقع التكليف من الله باتباع كل من الكتاب المنزل والرسل.
فمن التكليف باتباع الكتاب المنزل قوله تعالى:
ـ ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ الأعراف
ـ ﴿وَهَـــذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ الأنعام
ـ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ﴾ البقرة ولقمان
ومن التكليف باتباع الرسل والنبيين قوله:
ـ ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهءدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾ مريم
ـ ﴿ اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ يس
ـ ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ آل عمران
ولقد وقع في تفصيل الكتاب تعدية الهدى باللام مسندا إلى الله وإلى القرآن فقط أي لم يوصف مخلوق كائنا من كان ولو كان من الملائكة أو النبيين أو الرسل بأنه يهدي للحق أو يهدي للصراط بتعدية الهداية باللام وحده، ويعني أن القرآن يهدي للتي هي أقوم وأن الله هو الذي يهدي للحق كما في قوله:
ـ ﴿إِنَّ هَــــذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ الإسراء
ـ ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُم مَّنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ يونس
ويعني الإسراء ويعني أن القرآن يهدي من تدبره وعقله فاتبعه للحق مهما تأخر المهتدي بالقرآن عن حياة الرسول به إلى الناس.
ويعني حرف يونس أن الله هو الذي يهدي الرسل والنبيين للحق وأن الرسل والنبيين هم الذين يهدون إلى الحق بتعدية الهداية ب"إلى " وأنهم أحق أن يتبعوا من شركاء المشركين الذين لا يهدون ولم يتضمن حرف يونس تكليف الناس باتباع الذي يهدي للحق إذ هو الله سبحانه وتعالى وإنما تضمن تكليف الناس باتباع الرسول إذ هو الذي يهدي إلى الحق فالمقارنة بين اتباع الرسل الذين يهدون إلى الحق وبين شركاء المشركين فافهم.
وكذلك يهدي القرآن إلى الحق وإلى طريق مستقيم وإلى الرشد فلا يخطئ من اهتدى به شيئا من ذلك أبدا كما هو مفصل في القرآن.
وكذلك يهتدي من اتبع الرسل والنبيين واهتدى بهم إذ يدلونه إلى صراط مستقيم أي إلى الكتاب المنزل من عند الله وكذلك دلالة قوله ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ خاتمة الشورى
وأخطر وأكبر مما تقدم ما تضمنه تفصيل الكتاب وبيان القرآن من إيقاع الهداية مباشرة على من تقع عليه مجردة من التعدية بالحرف كما في قوله:
ـ ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ الصافات
ـ ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾ الفتح
ويعني حرف الصافات أن رب العالمين قد أنعم على موسى وهارون نعما كثيرة فُصّلت حسب التسلسل الزمني إذ كان أولها المنّ عليهما بأن اصطفاهما للرسالة وثانيها أن نجّاهما وقومهما بني إسرائيل من الكرب العظيم أي من الاستضعاف وقتل ذكورهم واستحياء إناثهم وثالثها نصرُهم بأن نجّاهم وأغرق عدوهم ورابعها أن آتاهما الكتاب المستبين وهو التوراة وخامسها أن هداهما الصراط المستقيم بغير تعدية ب"اللام" ولا ب"إلى" ويعني أنها منزلة أكبر مما سبقها.
ولقد هدى رب العالمين موسى وهارون الصراط المستقيم بعد أن آتاهما الكتاب كما هو صريح حرف الصافات ووعد رب العالمين محمدا صلى الله عليه وسلم أن يهديه الصراط المستقيم في حرف الفتح في آخر حياته بعد أن آتاه الكتاب ويعني أن موسى وهارون بعد أن آتاهما ربهما التوراة قد منّ عليهما مرة أخرى فجعلهما مسيران بالوحي تسييرا إذ يوحى إليهما في كل شأن بما يجب عليهما فعله وقوله وكذلك النبي الأمي بعد سورة الفتح لم يفتر عنه الوحي ليجتهد في مسألة أو نازلة بل كان يوحى إليه في كل شأن بالجواب كما في قوله ﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ المائدة.
ولم تتبين الأمة بعد بما انشغلت وافتتنت بالمتون دلالة قوله تعالى ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ وشبهه.