الرحمة: هي النعمة بالسلامة من الآفات والضر والعذاب كما في قوله ﴿وَلَئِنْ أَذّقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ هود، وإنما هي النعمة بالعافية والأمن فما دونهما، وبينت في مادة السيئة دلالتها على المصائب والآفات.
ووقعت رحمة الله على الماء ينزل من السحاب وأرسل الرياح مبشراتٍ بين يديها، ولا يخفى أثر رحمة الله بماء السحاب يحيي به الأرض الميتة بعد موتها، وعلى سائر الغيث ويفتح منها للناس ويمسك.
ووقعت الرحمة في تفصيل الكتاب المنزل في مقابلة العذاب والسوء كما في الوعد المنتظر من ربنا هذه الأمة في قوله ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ﴾ الإسراء
وتضرع أيوب لمّا مسّه الضرّ، وكان كشف الضرّ عنه هو رحمة أرحم الراحمين به، ومن محاورة إبراهيم ضيفه قوله ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ الحجر، ويعني أن على المكروب والمحروم من نعمة أن لا يقنط من الفرّج بعد الشدة ومن المثاني معه قوله ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ يوسف، وأخرج الشقيُّ نفسَه بقتلها من سَعَةِ رحمة الرحيم بالمؤمنين.
وكتب الله على نفسه الرحمة فأخّر عرض الأعمال والفضيحة بها إلى يوم القيامة موطن المغفرة أو المؤاخذة، واقترف المكلفون ذنوبا تأخر عنهم عقابها بفضل الله ورحمته.
وكتب ربّنا على نفسه الرحمة فوعد بالمغفرة والرحمة الذين يؤمنون بآيات ربهم الخارقة للتخويف والقضاء كلما عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعدها وأصلحوا، ويعني الوعد بهما أن لن تُعرَض عليهم الأعمال السيئة بل سيغفرها الله وسيرحمهم فلا يعذبهم في النار.
وأخّر ربنا الغني ذو الرحمة عن المكذبين بعد نزول القرآن العذاب المستأصل إلى موعد في آخر الأمة، ويومئذ لن يردّ بأسه عن القوم المجرمين.
ووقعت رحمة ربنا على الفرَج من الضيق دون جهد من المرحوم وسألها أصحاب الكهف حين فرارِهم بِدينهم من الفتنة، واستخرج اليتيمان كنزهما بظهوره على حين فقر وحاجة إليه، وكذلك رحمة ربنا عبدَه زكريا إذ نادته الملائكة بالبشارة بيحيى بعد ما وهن العظم منه، وكذلك سدُّ ذي القرنين رحمة بقوم لا يكادون يفقهون قولا، وتنزَّلَ الوحيُ والكتابُ على النبي الأمِّيِّ صلى الله عليه وسلم رحمة من ربه وفضلا كبيرا عليه ما كان يرجوه ولا علم له به ومن غير جهد منه، ولينتظر المعرضون عن اللغو والإيذاء وعدا من الله بفرَج ويسْرٍ وعِزٍّ دون جهد منهم كما هي دلالة قوله ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا﴾ الإسراء، ووهب ربُّنا من رحمته لموسى نبوة أخيه هارون، ووهب لإبراهيم وإسحاق ويعقوب من رحمته فرَجا ومخرجا دونما جهد منهم.
وجعل الله بين الزوجين رحمة أي لم يشرع لأحدهما إيذاء الآخر، وإنّ رَحِمَ الأمِّ لقرارٌ مكين لا يضرّ بالجنين ولا يؤذيه، وحرُم الإجهاضُ بقوله ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ البقرة، والقتلُ بالإجهاض أكبرُ من كِتمان النطفة في الرَّحِمِ الذي لا يحِلُّ وكذا ضرْبُ الوالدين أكبر من قول الشقيّ لوالديه ﴿أُفٍّ لَّكُمَا﴾ الأحقاف، ولا تسل عن عقوق الغلام قتيل الخضر وجفائه والديه كالأبعد منهم رُحْما وإرهاقهما طغيانا وكفرا، ومن خفض جناح الذل من الرحمة لوالديه تباعد عن الإيذاء والإضرار بهما، وجعل الله للرَّحِم حقوقا لا إثم على من سألها ذوي رَحِمِهِ، وكان التواصي بالمرحمة مما تُتَجاوز به العقبة في يوم القيامة، ومن عادة المنافقين يوم يتولَّوْن أي يصبحون ولاة في الأرض الإفساد فيها وتقطيع الأرحام، وشرع الله في الكتاب المنزل ولاية أولي الأرحام بعضهم على بعض.
وبرحمة من الله لَانَ خُلُقُ النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم مع الناس، وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم رحماء بينهم أي لا يؤذي بعضهم بعضا.
ووقعت الرحمة على صرْفِ عذابِ يومٍ عظيم عن المرحوم، وكذلك وقاية السيئات يومئذ، ولا يغني يوم الفصل مولى عن مولى شيئا بل الكل موبَقٌ إلا من رحم الله، وكل نفس أمّارة بالسوء إلا ما رحم ربنا من الأنفس المطمئنة أو اللوامة.
ووقعت الرحمة على أسباب النجاة من العذاب أي ﴿لَعَلَّكُمْ تُرحَمُونَ﴾ على طاعة الله والرسول، وعلى اتباع كتابٍ مباركٍ منزَّلٍ على النبيّ الأميّ، وعلى استغفار ربنا على لسان رسول الله صالح، وعلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول، ويوم تقع تلاوة القرآن على الاستماع له والإنصات، وعلى تمثل التقوى يوم يقال ﴿اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ يس، وعلى الإصلاح بين المؤمنين المتقاتلين.
وأشفق كل من آدم وحواء ونوح من الخسران إلا يغفر له ربه ويرحمه.
ومن رحمة ربنا بالناس تشريعُ العفو عن الجروح والعفوُ عن قاتل الفرد الواحد لا المحاربين السفاحين الذين يسعون في الأرض فسادا.
ووقع وصف الكتاب المنزل ـ توراة وإنجيلا وقرآنا ـ بالرحمة لنجاة من اتبعه من العذاب في الدنيا والآخرة والبرزخ بينهما، ولن يزول الاستضعاف والذل والصغار والهرج والقتل وتسلط المنافقين ومن لا يرعون في مؤمن إلًّا ولا ذمة عن المؤمنين إلا باتباع القرآن الموصوف ببصائر من ربنا وهدى ورحمةٍ.
ويعني إيتاء الرحمة من ربنا عبدا من عباده كنوح وصالح والخضر معلم موسى اصطفاءه وللمصطفين عهد من الله أن لا يعذبهم.
وأرسل ربّنا النبيّ الأميّ بالقرآن رحمة للعالمين ولن ينزل العذاب في الدنيا على المكذبين إلا بعد رفع القرآن المبارك، والنبيّ الأميُّ رحمةٌ للذين آمنوا خاصة وهم الصحابة الكرام لا يحتاجون في حياته إلى اجتهاد قد يخطئ.
ونجّى ربّنا برحمته نوحا والرسل بالآيات بعده من عذاب في الدنيا أهلك به المجرمين المكذبين، ويوم وقع الطوفان لم ينج من الإغراق إلا من رحم الله مع نوح.
ووقعت الرحمة على زوال الاستضعاف ـ بقرينة الوعد بالجنة بعدها ـ عن المؤمنين الذين يوالي بعضهم بعضا ويتآمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ براءة، وكان ذريةٌ من بني إسرائيل يكتمون تصديقَهم موسى خوفا من فرعون أن يفتنهم ومما تضرعوا به إلى ربهم دعاؤهم ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ يونس، ومن وقوع الرحمة على زوال الاستضعاف قوله ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ يوسف، وسيصيب المؤمنين استضعاف بفتنة السامري الدجال وسينال الذين آمنوا صلوات من ربهم ورحمة يزول بهما القتل والقرح والجرح وهم المهتدون في آخر الأمة، وكانوا يدعون ربهم ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً﴾ آل عمران، أي لا تزغ قلوبنا بالدجال بعد إذ هديتنا بصالح المؤمنين وهب لنا رحمة يزول بها الاستضعاف.
ووقع وصف الجنة برحمة الله يُخَلِّد فيها الذين ابيَضّت وجوههم، وسيُدخِلها الذين آمنوا بالله واعتصموا به، وما يكون للمسلمين ولو أسرفوا على أنفسهم أن يقنَطوا من رحمة الله، وسأل موسى ربه أن يغفر له ولأخيه هارون وأن يدخلهما في رحمته، وكره الصالحون دعاءهم من دون الله وابتغَوُا الوسيلة إلى ربهم أيهم أقرب إليه ويرجون رحمته بالجنة ويخافون عذابه بالنار، واقتربت رحمة الله من المحسنين، وبشّر ربنا بها ﴿الذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾براءة، ويَئِسَ من رحمة الله أي جنته الذين كفروا بآيات الله ولقائه، ويرجو رحمة الله أي جنته ﴿الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ البقرة.
وتضمن تفصيل الكتاب المنزل تقديم المغفرة على الرحمة وبينته في تأصيلي الجديد للتفسير ومنه تقديم الموعود المتأخر في سياق خطاب المؤمنين بالغيب الذين يحرصون أوّلًا على أن تغفر ذنوبهم في يوم الحساب فلا تعرض عليهم ويحرصون بعد ذلك على الرحمة ومنها ما يقع في الدنيا.
وتقع رحمة ربنا على الآيات الخارقة كما هي دلالة قوله ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ الزخرف، وإن القرآن لآية خارقة معجزة ومن رحمة ربنا كما في قوله ﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ الزخرف، وإنّ مما يجمعون أموالا وأسلحة ذات بأس شديد وأحزابا وجيوشا، وقد وعد الله في القرآن أن يكفّه وأن يبطله يوم يُحِقُّ اللهُ الحقَّ بكلماته فيزهقَ الباطلُ.
ولقد أدخل الله في رحمته قبل نزول القرآن كلا من لوط وإسماعيل وإدريس وذا الكفل، ووعد في القرآن أن يدخل في رحمته من يشاء كما في الشورى والفتح الإنسان.
ومن الوعد في القرآن أن يتنزل خير من ربنا كما في قوله ﴿وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ البقرة، وبينته في مادة اختص.
ومن الوعد في القرآن كذلك قوله ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ آل عمران، وبينته في مادة اختص ومادة هدى.
ومن الوعد في القرآن كذلك قوله ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ الحديد، وبينته في مادة كفل.
وبينت دلالة قوله ﴿أّمَّنْ هُوَ قَائِمٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ وَالذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذّكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ﴾ الزمر، في الرجاء وفي أولي الألباب.
وبينت دلالة قوله ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ هود، في مادة الاختلاف.
وبينت دلالة قوله ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضَيًّا﴾ في مادة عيسى.
وبينت دلالة قوله ﴿رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾ في مادة البيت.
وأما قوله ﴿إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾ فهو حال من الفاعل في ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾ هود، وبينته في مادة شاهد، وكذلك حرف الأحقاف وبينته في مادة مثل ومادة كتاب .
وبينت فاتحة لقمان في مادة كتاب.
من الأسماء الحسنى ﴿الرحمان الرحيم﴾
يتواصل
من الأسماء الحسنى ﴿الرحمان الرحيم﴾
ـ أولا: ﴿الرحمان﴾
الرحمان الرحيم اسمان من الأسماء الحسنى تضمن كل منهما وعدا حسَنا غير مكذوب سيُلاقيه المرحوم إذا وافق الأجل الذي جعل الله له وهو الميعاد ولا يخلف الله الميعاد ولا وعْدَهُ أي ما وَعَدَ به.
وحيث قرأْتَ في الكتاب المنزل اسمَ اللهِ الرحمانَ فاعلم أن الله وعد برحمة منه، ولتختر لنفسك أيها المكلف بين الشكر والطاعة وأن تسعك رحمة الرحمان وبين الكفر والعصيان وأن تحرم من رحمة الرحمان.
وكذلك دلالة قوله ﴿بسم الله الرحمان الرحيم﴾ في أوائل السور، إذ يسع المكلّفَ القراءةُ وتركُها، فإن قرأ وتدبّر واستبصر وتذكّر نال وعد الرحمان الرحيم برحمة منه، وإن قرأ وأعرض فهو محروم من رحمة الرحمان الرحيم،كما هي دلالة قوله ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ الأعراف، وكذلك دلالة البسملة في ابتداء الطاعات على أن من لم ينتفع بطاعته فهو محروم من رحمة الرحمان الرحيم.
وقد وعد الرحمان في سورة الرحمان برحمة من تعلم القرآن وبرحمة السعيد الموصوف أن الرحمان علمه البيان، والذين سيخرون سجّدا وبكيا يوم تُتلى عليهم آيات الرحمان ومن خشيَ الرحمان بالغيب، ووعد بجنات عدن عبادَه الذين يمشون على الأرض هوْنا ولهم صفاتهم المعلومة في سورة الفرقان، وسيجعل في الدنيا للذين آمنوا وعملوا الصالحات وُدًّا، وسيُساق المتقون إليه وفدا.
ويعني تذكير النبيّ هارون قومه بأن ربهم الرحمان: أنّ من عبد العجل منهم فقد حرم نفسه من رحمة الرحمان، وكذلك دلالة خطاب الصّدّيقة مريم الملكَ الرسول مستعيذة بالرحمان منه، ومفوِّضة أمرها إلى الرحمان ليرحمها مما قد يقصدها به الذي تمثل لها بشرا، وقد أحصنت فرجها من قبل ووجدت نفسها أمام رجل غريب في خلاء من الأرض وقد ابتعدت عن أهلها مسافة كالحجاب لا يرونها ولا يصل إليهم صراخها واستغاثتها، ويعني نذْرها للرحمان صوما أن لن تحاسب ذا الجهل على جهله وجهالته وهو يطعن فيها ويتهمها.
وإنما المحروم من عذّبه الرحمان بذنوب قصرت به عن رحمته التي وسعت كل شيء، وأشفق الخليل الصّدّيق النبيّ على أبيه أن يمسّه عذاب من الرحمان كما في قوله ﴿ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ مريم، ويعني أن أولياء الشيطان في الدنيا أو في الآخرة هم من وقع عليهم عذاب من الرحمان كما هي دلالة قوله ﴿تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ النحل، أي هم معذّبون في البرزخ، ولهم عذاب أليم بعده في اليوم الآخر.
ويا حسرة على الذين يسبّون الرحمانَ ويشركون به حسب مبلغهم من الكفر، لقد قطعوا عن أنفسهم كل أسباب النجاة وحرموها من رحمة الرحمان ولا تسل عن غرور الكافرين وهم يكفرون بالرحمان ولن يجدوا جُندا ينصرهم منه يوم يقع عليهم العذاب في الدنيا وفي الآخرة، وأشد الناس عذابا في جهنم هم الأشد عتيا في الدنيا على الرحمان.
ويا حسرة على الذين عاصروا النبي الأمي يتلو عليهم آيات الرحمان يسمعونها ولا يسلمون بل يكفرون بالرحمان، ويكفرون بذكر الرحمان، ويعني أن الرحمان لن يرحمهم.
وأيس من رحمة الرحمان الذين كذبوا وافتروا أن الرحمان اتخذ ولدا أو آلهة تعبد من دونه، وكذلك سيفتريها مبلسون في آخر الأمة وبينته في مادة ولد.
وقد عذّب الرحمان في الدنيا المكذبين بذكر ربهم ولن يجد خلفهم في آخر هذه الأمة من يكلؤهم بالليل والنهار منه.
وامتلأ حكمة رجل جاء يسعى من أقصا المدينة ليعز الرسل الثلاثة إذ علم أن من يُرِدْهُ الرحمان بضر لن تغني عنه شفاعة الشافعين.
ونسي فرعون نفسه فتكبر وعظم في نفسه كما في قوله ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ الشعراء، وتبعه خلَفه من كفار قريش كما في قوله ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ﴾ الفرقان.
ولا يزال الجاهل أحمقَ أخرقَ كأصحاب القرية الذين كذّبوا الرسل الثلاثة وقالوا ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَانُ مِنْ شَيْءٍ﴾ يــــس.
ويألف المشركون سلوكا ويكْذبون باتخاذه دينا كما في قوله ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ الزخرف.
وعلى المؤمنين بالغيب ألا يفتتنوا بزخرف الحياة الدنيا التي قد يُمتّع فيها من يكفر بالرحمان متاعا منه البيوت ذات المعارج والأبوابُ والسررُ وسقفٌ من فضة، واستدرج الرحمانُ برحمته الكفارَ ومن في الضلالة فأمدّ لهم نِعمه مدَّا حتى حسبوا أنفسهم من المكرمين عنده فمنهم من قال ﴿لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا﴾ يعني في يوم الدين لو بعث وجهل أن الـمُلْك في يوم الدين لله وحده وجهل أنه ليس من الرسل والنبيين وهم الذين اطلعوا الغيب واتخذوا عند الرحمان عهدا أن لا يعذبهم.
وإن يوم القيامة ليومٌ يغضب فيه الجبّار غضبا معلوما يُشفق منه النبيون فيتدافعون الشفاعة الكبرى، ولتُعرَضنّ جهنمُ فيه عرْضا وقد وعد الرحمان في الدنيا بالجزاء في يوم الحساب ويومئذ يعلم المكذبون من قبلُ صدقَ المرسلين.
وإن المـُلك في يوم الدين للرحمان فمن هلك فيه فليدْعُ ثبورا أن حرم من رحمة الرحمان.
وليُبعثنَّ كل منا فردا إلى الرحمان ولتخشعنّ الأصوات للرحمان من رهبة الموقف ومبلغ الخطب ويخسر الذين كانوا يسبون الرحمان في الدنيا.
وإنما أذن الرحمان بالشفاعة في يوم القيامة لمن اتخذ عنده عهدا في الدنيا أن لا يعذّبهم وهم الرسل والنبيون.
وتعني الضراعة إلى الرحمان في آخر سورتي الأنبياء والملك أن المسلمين سيعجزون عن دفع الفتن والهرج والمرج والقتل والاستضعاف وعليهم أن يؤمنوا بالرحمان وأن يتوكلوا عليه ويستعينوا به ليحكم بالحق بينهم وبين عدوهم المتغلب، ولعلها مرحلة قد بدأت وفتنة قد اشرأبّت.
ولقد خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام لأجْل أن يُعبدَ فيهما، وتضمن تفصيل الكتاب المنزل الاستواء على العرش سبع مرات أي في الأعراف ويونس والرعد وطــه والفرقان والسجدة والحديد وأسند الاستواء إلى الله في غير الفرقان وطــه وإلى الرحمان فيهما، ولا يَفتقر القرآن إلى تأويلنا نحن المكلفين القاصرين بل يفسِّرُ بعضه بعضا ويستدل ببعضه على بعض، وعلم أولوا الألباب أن الله ما خلق السماوات والأرض باطلا بل لأجل التكليف والجزاء في اليوم الآخر كما في سورتي آل عمران وص، وتأخر الاستواء على العرش عن خلق السماوات والأرض وما بينهما بقرينة حرف ﴿ثم﴾ المقترنة بجميع الأحرف، للدلالة على أن إجراءات المحكمة الكبرى أو القضاء بين الناس في يوم الفصل قد بدأ مع بدء التكليف والخطاب الأول على آدم وحواء لأن الله علام الغيوب سيسأل المرسَلين ويسأل الذين أُرسِل إليهم ، ويقصُّ عليهم ما اختلفوا فيه بعلم أي يعرض أعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، وما كان الله وملائكته الحفظة غائبين بل كانوا شهودا على كل شأن وعمل، وكذلك دلالة المثاني:
ـ ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾ الأعراف
ـ ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنُه مِنْ قُرْآنٍ ولَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ يونس
ولْيَفْرَقْ فرَقًا أولوا الألباب ولْيَخافوا ولْيُشْفِقوا من يوم يُنبَّأ الإنسان بما قدّم وأخّر، ومن نبّأه الله عرَض عليه كل شيء يتعلق بالنبإ، كذلك تعرض الخطايا غير المغفورة في يوم الدين ويُعرَض على المحتضر حين موته كلُّ شيء مما يستقبل وعُرِض على كل نبيٍّ ما يتعلق بأمته وهكذا سأل موسى ربه ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ الأعراف، لأنه رأى بأم عينيه عرْضا كُلَّ شيء فتاقت نفسه إلى المزيد، وذلك فرْقُ ما بين أن ينبّئ الله وأن ينبِّئ المخلوق فاعلم.
ويعني إسناد الاستواء على العرش إلى الله أن الله يُحَذّر المكلفين من الطغيان والمعصية والكفر لأنه سيحاسبهم.
ويعني إسناد الاستواء على العرش إلى الرحمان أن الرحمان لم يعجل بعقوبة العاصين والمبطلين بل أمهلهم إلى يوم يجيء ربنا والملك صفا صفا ويحمل عرش ربنا يومئذ ثمانية.
وعجبي من المفسرين كيف وسِعَهم الإعراض عن الحدَث الخطير في المثاني:
ـ ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِم مِّنْ ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾
ـ ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ ذِكْرٍ مِّن الرَّحْمَانِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ الشعراء
ـ ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيَّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ طـــه
ولقد كانت الإنجيل ذكرا مُحدَثا بعد التوراة وكان القرآن ذكرا مُحدَثا بعد الإنجيل، وبينته في مادة حدث وذكر صحف وكتاب، وأشفق من الوعد في قوله ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ الزخرف.
يتواصل
الرحيم
وحيث قرأت في الكتاب المنزل اسم الله ربنا ﴿الرحيم﴾ فاعلم أنه بنعمته عليك قد صرف عنك شرّا مستطيرا لا طاقة لك بصرفه عن نفسك ويعني قوله ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَحِيمٍ﴾ يس، أن ربّنا الرحيم قد صرف عن أهل الجنة عذاب النار، ويعني قوله ﴿لِيُخْرِجَكُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ الأحزاب، أنهم لا يقدرون على إخراج أنفسهم من الظلمات وإنما أخرجهم منها اللهُ الرحيمُ إذ أرسل إليهم رسولا، ويعني قوله ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ النساء، أن الله الرحيم قد حرّم قتلَ النفس وأن من قتل نفسَه فقد أخرجها من رحمة الرحيم أي لن يدخل الجنة أبدا، وإنه لحَرِيٌ إذن إن كان من المؤمنين أن يصبح بعد الأحقاب من وقود النار كالحجارة، ويعني قوله ﴿رَبُّكُمُ الذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ الإسراء، أن الفلك تجري في البحر فلا تستقر ولا تغرق برحمة ربنا الرحيم، ولا خصوصية اختص بها المؤمنون دون غيرهم في هذا الحرف برحمة الرحيم كما توهمه البعض.
وتعني دلالة الاسمين ﴿الرحمان الرحيم﴾ حيث اقترنا استغراق رحمته التي شملت قارئ القرآن طاعة لله الذي كلّفه به وشملت الحامدين اللهَ ربَّ العالمين وشملت الـمُقِرّين أن إلــههم هو إلــه واحد لا إلــه إلا هو وشملت المؤمنين بتنزيل القرآن من الرحمان الرحيم وبينته في مادة التنزيل.
وتعدد اقتران الاسمين ﴿الغفور الرحيم﴾ وتأصيلُه كما استنبطت هو تقديمُ الموعودِ المتأخر أو الأعظم في خطاب المؤمنين بالغيب وهو هنا مغفرة الغفور ومحلها وموعدها هو يوم الدين يومُ يعرض من الخطايا والذنوب ما لم يغفره الغفور فيحاسب به صاحبه، وتأخير الموعود المتقدم وهو رحمةُ الرحيم ولا تختص باليوم الآخر بل تشمل الدنيا.
وسأل النبيون والرسل وأتباعهم المغفرة قبل الرحمة لما عظم في أنفسهم من افتضاح غير المغفور له أمام جميع الملائكة وجميع بني آدم وجميع الجن، ولدلالة المغفرة على الرحمة، وقد رحم الله في الدنيا الكافرين وإنهم لمعذبون في اليوم الآخر.
وإنما تقدمت الرحمة على المغفرة في دعاء طائفة بني إسرائيل عبدت العجل وخافوا العذاب في الدنيا أكثر من خوفهم عذاب الآخرة.
ومن المفردات اقتران الاسمين ﴿الرحيم الغفور﴾ بتقديم الرحمة على المغفرة في قوله ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ﴾ سبإ، ويعني تقديم الأغلبية وتأخير الأقلية إذ يخفى اختصاص المكلفين بالمغفرة وهم أقل عددا من سائر العالمين ومنهم الملائكة والطير والزواحف والدواب، أي تقدم الأغلب وتأخر الأقل.
وتعدد اقتران الاسمين ﴿التواب الرحيم﴾ وفصّلته في بيان اسم الله ﴿التواب﴾ ويعني جملة أن المكلف سيُعانِي من البلاء والتمحيص في الدنيا توبة عليه من الله ينال بها رحمة الرحيم في اليوم الآخر، كما لا يخفى في الثلاثة الذين خلّفوا، وفي أبويْنا بعد أكلهم الشجرة، وفي اللذيْن يأتيان الفاحشة ويتوبان ويصلحان.
وتعدد اقتران الاسمين ﴿الرؤوف الرحيم﴾ في سياق التذكير بنعم الله التي قصر المكلفون عن شكرها ولم يقع عليهم العذاب الذي استحقوه بجحودهم رأفة ورحمة من الله بهم، وبينته مفصلا في مادة اسم الله ﴿الرؤوف﴾.
وتعدد اقتران الاسمين ﴿العزيز الرحيم﴾ للدلالة على أن جهود المؤمنين القاصرة لم تُبَلِّغْهم النصرَ على عدوِّهم وسينصرُهم الله بعزّته رحمة من ربهم الرحيم بهم وجميعه من الوعد الحسن ومواضعها في سورة الشعراء في الأمم المكذبة المهلكة في الدنيا تعني أن الرسل قد وعَدُوا القلّةَ المؤمنةَ معهم بنصر من العزيز الرحيم وبينته مفصلا في اسم الله ﴿العزيز﴾.
ومن المفردات اقتران الاسمين ﴿البر الرحيم﴾ في قوله ﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ الطور، ويعني أن الله البرّ الرحيم وعد في الكتاب المنزل أن يمنّ على المشفقين في الدنيا بالوقاية من عذاب السموم وأن يدخلهم الجنة، وبينته مفصلا في اسم الله ﴿البرّ﴾.
ومن المفردات اقتران الاسمين﴿الرحيم الودود﴾ في قوله ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾ هود، من كلام شعيب يخاطب قومه مدين وبيّنه النبيّ الأمّيّ صلى الله عليه وسلم بالحديث القدسي أنه من تقرب إلى الله شِبْرًا تقرب الله إليه ذراعا، وبينته في اسم الله ﴿الودود﴾.
رد مع اقتباس رد مع اقتباس
الحمد
الحمد تعبير عن تمام معاني النعم والخير وهكذا كملت وتمت في النبي الأمي محمد صلى الله وبارك عليه وعلى آله وسلم معاني الفضل والخير والبركة امتلاء فاض فلم يبق معه موضع أو موطئ للشر والسوء، وسيبعث رب العالمين عبده محمدا قبل انقضاء الدنيا مقاما محمودا لا يتأتى معه ذمّه أو النيل منه.
وغفَل المنافقُ الـمُمَكَّن في الأرض عن حمد الله، فأحب أن يُحْمَد بما لم يفعل، فرحا بسلوكه وعمله، وليْتَه تعلّم الإنصاف من الكتاب المنزل فلم يكلّف رعيتَه بحمده على نيته وتسويفه بالإصلاح كما هو مفصل في آخر سورة آل عمران.
ويوم ينفخ في الصور ويدعو الداعي أهل القبور سيستجيبون بحمد الله استجابة كاملة لا يعتريها ضَعف أو نقص، إذ قد تمّ إحياء كل ميِّت حياةً تامة وتجددت قوى أجسامهم وليخرجوا سراعا من القبور يتبعون الداعي إلى حيث يقوم الناس لرب العالمين.
ويسارع من يسبّح بحمد الله إلى البراءة من الشرك والمعصية إلى الإقرار بحمد الله ذي النعم الظاهرة والباطنة ومنه تسبيح الرعد بحمد الله، وتسبيح الملائكة براءةً من متمكن يفسد في الأرض ويسفك الدماء قبيل ظهور خليفة في الأرض، وتسبّح المخلوقاتُ غيرُ الإنس والجن بحمد الله براءةً من شرك ومعاصي الثقلين.
وبينته في مادة التسبيح.
وإن من تفصيل الكتاب وبيان القرآن أن ﴿الحَمْدُ للهِ﴾ حيث وقع في الكتاب المنزل فإنما لبيان نعمة هي من وعد الله وعد بها من قبلُ قد تمّت ونفذَت يوم نزل القرآن أو لبيان نعمة هي من وعْد الله سيتِمّ نفاذُه في الدنيا أو في الآخرة.
ومن الأول قوله:
ـ ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الأنعام
ـ ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الحَمْدُ للهِ الذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ الفلاح
ـ ﴿ الحَمْدُ للهِ الذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ إبراهيم
ـ ﴿ الحَمْدُ للهِ الذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾ الكهف
ـ ﴿ الحَمْدُ للهِ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ الأنعام
ولا يخفى أن جميعه مما مضى وانقضى.
ويعني حرف الأنعام أن قطع دابر القوم الذين ظلموا من قوم نوح والأحزاب من بعدهم هو مما وعد الله به رسلهم نوحا وهودا وصالحا ولوطا وشعيبا وموسى وقد تمّت النعمة به على المؤمنين فليحمد المسلمون بألسنتهم وليعملوا شكرا بسائر جوارحهم.
ويعني حرف الفلاح أن الله وعد نوحا أن ينجّيَه هو ومن معه من الطوفان وأمرهم بحمده إذا تم الوعد به، ويدل على الوعد به قوله ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ﴾ هود ، يعني تمسك نوح بوعد الله أن ينجيه ومن معه ظنّا منه دخول ابنه في من معه.
ويعني حرف إبراهيم أن الله قد استجاب دعوة إبراهيم ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وبشّره بغلامين صالحين هما إسماعيل وإسحاق كما هو معلوم من بشارته هو وزوجته بإسحاق الغلام العليم على ألسنة ضيفه الملائكة المكرمين، ومعلوم في سورة الصافات من بشارته بغلام حليم وهو إسماعيل كما في حرف مريم الذي وصف إسماعيل بأنه كان صادق الوعد، ولم يتضمن تفصيل الكتاب المنزل وعْدا من إسحاق وإنما من إسماعيل إذ قال: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ وقد صدق وعده كما هي دلاله إسلامه كأبيه كما في قوله جلّ جلاله ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾.
ويعني حرف الكهف أن الله قد وعد أنبياءه من قبل أن سيُنزّل على النبيّ الأمِّيّ صلى الله عليه وسلم الكتاب ومن ذلك الوعد قوله تعالى في التوراة والإنجيل والقرآن ﴿فَالذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ وقد نفذ الوعد وتم يوم كان القرآن يتنزل.
وتعني فاتحة الأنعام أن الله وعد بعض ملائكته ولعلّهم الذين يحملون العرش ومن حوله من الملائكة المقربين أن يخلق السماوات والأرض وأن يجعل الظلمات والنور ولا يخفى نفاذ الوعد وتمامه وأن العرش وما حوله فوق السماء السابعة.
ومن وعد الله الذي سيتم نفاذه في الآخرة قوله ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لقمان، ويعني أن الله الذي خلق السماوات والأرض سيخلق مثلهم ليوم البعث أي بعد إعدامهما فلا يبقى منهم شيء وعدا منه سيتم نفاذه بحمد الله ولو جهله أكثر الناس.
وقوله ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يعقلون﴾ العنكبوت، ويعني أن الله الذي نزّل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها وعد بإحياء الموتى يوم البعث وسيتم بحمد الله ذلك الوعد ولو كذّب الذين لا يعقلون.
وقوله ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ الزمر، ويعني أن جميع موعودات الله عن اليوم الآخر ستتحقق كلها.
ومن وعد الله الذي سيتم نفاذه في الدنيا قوله ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾ النمل، ويعني أن قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم وتلاوته القرآن سيتم بعدها نفاذ وعد الله بإنزال الآيات الخارقة للتخويف والقضاء يراها الناس فيعرفونها بالقرآن ولا ينكرونها، وبينته في مادة رأى.
وأما قوله ﴿فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ غافر، فهو من الأمر في القرآن الذي سيقع نفاذه في الدنيا خاصة كما أصلت في تأصيلي للتفسير، والخطاب للأخيار في آخر الأمة سيقومون بالكتاب والحكم والنبوة حق القيام كما هو مدلول قوله ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ ومن المثاني معه قوله ﴿مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ أولئك الأخيار سيُستخلفون في الأرض وَعْدًا من الله من قبلُ ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ التي نبّأ الله جميع النبيين من قبل ويومئذ يحمد الحامدون ربهم رب العالمين.
وقوله ﴿قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الذِينَ اصْطَفَى﴾ النمل، يعني أن الله وعَد وعْدا سيتم نفاذه يوم ينجِّي من العذاب الموعود في الدنيا عباده الذين اصطفى ومنهم يقينا ثلاثة في حرف فاطر ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ وبينته في مادة اصطفى.
وبيّنتُ قوله ﴿وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ خاتمة الصافات، في مادة رسل.
وقوله ﴿ الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فاطر، يعني أن البشرية قبل انقضاء الدنيا ستشاهد رسل الله من الملائكة تتنزل من السماء فيعرفونهم بأجنحتهم مثنى وثلاث ورباع ولا ينكرونهم وهم يبشّرون المتّقين في ليلة القدر أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون بل ناجون من العذاب وبالجنة في اليوم الآخر ، أولئكم الملائكة ليصبحن غيبهم في الدنيا شهادة وليشهدوا على أن محمدا الأمي رسول الله بالقرآن، ولم تقع بعد شهادة الملائكة عليها رغم تكليفهم بها في القرآن كما في قوله:
ـ ﴿لـَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ النساء
ـ ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَــــهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ عمران
وبينتها في مادة شهد، وبينْتُ من حرف فاطر في مادة فطر.
وبينتُ قوله ﴿يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمٌلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ التغابن، في مادة التسبيح ومادة الملك.
ومن الوعد الذي سيتم نفاذه في اليوم الآخر قوله ﴿ الْحَمْدُ للهِ الذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ سبإ، ويعني أن وعد الله في السماوات والأرض سيتم نفاذه كله فيهما وفي ما بينهما.
وقوله ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يونس، أن أهل الجنة تجاب دعوتهم عند فراغهم من الدعاء فيعطون ما يشاءون فيكون آخر دعواهم ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يعني أن قد صدقهم الوعد وأتم النعمة فأعطاهم ما يشاءون ويبتغون، وإنما دعاؤهم التسبيح أي تنزيه الله أن يخلف وعده في الدنيا أن لهم في الجنة ما يشاءون.
وأما في فاتحة الكتاب ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فتعني:
وأما في فاتحة الكتاب ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فتعني:
ـ أن العالمين كلهم وهم جميع المخلوقات قد تمت عليهم النعمة يوم نزل القرآن بإرسال الرسول به رحمة للعالمين من الله ربهم كما بينته مفصلا في مادة خليفة.
ـ أن من نعم ربنا القيام بالتكليف حامدين لله ربنا
ـ أن الحمد لله هو أصل الطاعات كلها ومنه تتفرع كلها كالتسبيح والاستغفار وسائر التكاليف فمن صلى وصام وقرأ القرآن وتدبّره وحجّ وأنفق فقد حمِد الله على نعمه بصرفها في طاعته عزّ وجلّ
ـ أن العالمين جميعا مكلفون بالحمد إذ تمت عليهم نعمة الله ربنا يوم نزل القرآن على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، ولقد علموا من القرآن من تفصيل الغيب الذي وقع التكليف بالإيمان به جملة وتفصيلا.
وعلِم العالَمون من القرآن أن من نعم الله عليهم:
ـ أن رسالة النبيّ الأميّ بالقرآن هي رحمة للعالمين وإذن فلن يقع العذاب على العالمين قبل أن يرفع القرآن من الأرض فما ظنّ الذي مات ولم يقرإ القرآن في عمره كله مرة واحدة ولم يتدبره ولم يهتد به
ـ وأن الله لا يريد ظلما للعالمين وبينته في مادة ظلم
ـ وأن الله غنيٌّ عن العالمين وأنهم الفقراء إليه
وأن البيت العتيق في بكة مباركٌ وهدًى للعالمين فيا لسفاهة الذين ظلموا من الناس سيهدمونه، ولا يزال الناس يتمتعون بنظُم وتقاليد وموازين ما لم يهدم البيتُ الحرام فإن هُدِم انفلت الأمن كما هي دلالة قوله ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ﴾ المائدة، وسينعدم قيامُ الناس في شؤونهم آمنين مطمئنين بانعدام البيت.
ـ وأن الله ذو فضل على العالمين، وبينته في مادة فضل.
ـ وأن القرآن ذكرى وذكر للعالمين، وبينته في مادة ذكر.
ـ وأن تفصيل الكتاب وتنزيله كلاهما لا ريب فيه من رب العالمين وبينته في مادة ريب ومادة تفصيل ومادة تنزيل ومادة كتاب ومادة صحف.
ـ وأن من الوعد الحسن غير المكذوب أن يقوم الناس لرب العالمين ليفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون قبل الجزاء بالجنة أو النار.
أما الحمد المقترن بالتسبيح فيعني أن الحامد قد علم من الله وعْدا وعَدَه به سيُدركه ويناله في حياته ولإيمانه بالغيب فقد سبّح ربه مستشعرا نعمته فقدّسه ونزّهه عن خُلْف الوعْد وعن العجْز عن إتمامه ونفاذه.
وهكذا سبّح زكريا بالعشيّ والإبكار بعد بشارته بيحيى في سورة آل عمران تسبيحا لم يقترن بالحمد لأن زكريا مات قبل أن يولد عيسى ولأن المصدّق بعيسى هو يحيى الذي عاصره ولو عاش زكريا إلى حين ولادة عيسى لصدّق به.
ووعد الله نبيّه الأمي بنصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا وكلّف بالتسبيح المقرون بالحمد لأنه سيدرك ذلك كله في حياته، وبينته في مادة التسبيح.
الله عز وجل:
إن العبد لحقيق بدراية افتقاره وأنه ليس قائما على نفسه ليشكر فاطر السماوات والأرض على نعمه الظاهرة والباطنة وإذ خلقه فجعله شيئا مذكورا بعد أن لم يكن، وفضّله على كثير من العالمين كالجن والأنعام والدوابّ والطير ...
هو الله لا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء، لم يلد، ولو يولد، وهو على كل شيء وعد به قدير ، وبكل شيء من الغيب عليم، فعّال لما يريد، اصطفى من بني آدم رسلا وأنبياء فأنزل عليهم الكتاب والميزان ليحكم بين الناس بالحق وليهتدوا إلى صراط مستقيم ووعد بإعدام الكون وبإعادة نشأته مرة أخرى وبالبعث بعد الموت والحساب والجزاء بالنار أو الجنة.
ويعني أن ليس كمثله شيء أن قدرة كل ذي قدرة من الخلق ليست كقدرة الله وهكذا لا يماثل علمه علم عليم ولا قوته قوة قويّ وهو السميع البصير، ولن يبلغ غيرُه من خلقه مثل أسمائه الحسنى، رغم ثبوت الرحمة والقوة والسمع والبصر والخلق في المخلوقات ولا يجحده إلا المغفلون، كما لا يتأوّل أسماء الله وصفاته إلا المعطلون بما ألحدوا، وأما قولنا "ليس مثله شيء" فيعني أن ليس شيء مثله ويشمل الذاتَ والصفاتِ ولا يقول به إلا المشبّهون بما أشركوا .
وإن من تفصيل الكتاب وأصول الخطاب أن اسم ﴿الله﴾ حيث ورد ذكره في الكتاب المنزل فإنما :
ـ لبيان عبادة وتكليف من الله المعبود يسع جميع المخاطبين به الطاعة والعصيان .
ـ أو لبيان أسباب العبادة التي أمدّ الله بها المكلفين.
ـ أو لبيان أثر الإيمان والطاعة على المكلفين في الدنيا.
ـ أو لبيان أثر الكفر والمعصية على المكلفين في الدنيا.
ـ أو لبيان الحساب والجزاء في الآخرة.
فأما بيان ما كلف الله به من العبادة فكما في قوله ﴿اعْبْدُوا اللهَ﴾ وقوله ﴿اتَّقُوا اللهَ﴾.
وأما بيان أسباب العبادة التي أمدّ الله بها المكلفين وأعانهم بها ليعبدوه فكما في قوله ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ العنكبوت، من قول إبراهيم يعني اسألوا الله أن يرزقكم لتقوى أجسامكم على الطاعة والعبادة، وقوله ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ الذاريات، يعني أن الله يرزق الإنس والجن ليتمكنوا بالرزق والقوت من العبادة وقوله ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللهِ﴾ البقرة، وقوله ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ آل عمران.
وأما أثر الطاعة على المكلفين في الدنيا فكما في قوله ﴿وَيَزِيدُ اللهُ الذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ مريم، وقوله ﴿ دَعَوُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ يونس، فكانت نجاتهم بسبب أثر طاعتهم في دعوتهم الله مخلصين له الدين.
وأما بيان أثر المعصية على المكلفين في الدنيا فكما في قوله ﴿إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ البقرة، أي بسبب كفرهم وإعراضهم عن النذير عوقبوا بذلك ، وقوله ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الأنفال، والمعنى أنهم بسبب كفرهم بنعم الله التي أنعم عليهم بها ليعبدوه ويطيعوه عذبهم في الدنيا .
وأما بيان الحساب بعد البعث فكما في قوله ﴿وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ النور، وقوله ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ النور.
وأما بيان الجزاء فكما في قوله ﴿فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَاُر خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾ المائدة، وقوله ﴿ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ فصلت.
رب:
تضمن تفصيل الكتاب المنزل ورودها في وصف بعض الناس وأكثر ما وردت وصفا لله الواحد القهار.
أما ورودها في وصف ولِيّ النعمة من البشر ففي قوله ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ﴾ يوسف، وأما في وصف ما يتصوره الناس من معبوداتهم ففي قوله ﴿فَلَمَّا رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ الأنعام.
وأما قول يوسف مخاطبا امراة العزيز ﴿مَعَاذَ اللهُ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ فيتجلى فيه أن ربه قد آتاه من قبل حكما وعلما، إذ لم تفهم امرأة العزيز غير استحيائه من خيانة زوجها المنعم عليه، غير أن كلام الصديق يوسف صريح في إقراره واستشعاره نعم ربه الخالق عليه بإبعاده عن كيد إخوته وإيوائه في بيت عزيز مصر، وبقرينة إضافة نفسه إلى ربه على غير نسق خطابه صاحب السجن ورسول الملِكِ إذ أضاف كلا منهما إلى الملِك وحرِيٌ بغيره من العوام في مثل حاله أن يقول لصاحب السجن اذكرني عند ربي الملك ليخرجني من السجن.
ووردت في وصف الله غير مقترنة في السياق بمربوب في قوله ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ سبأ، وقوله ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ في يس.
واقترنت في السياق بالمربوبات التالية: العرش العظيم، العالمين، كل شيء، السماوات والأرض وما بينهما، السماوات السبع ، السماء والأرض، رب المشرق والمغرب وما بينهما، المشارق والمغارب، المشرق والمغرب ، المشرقين، المغربين، هذه البلدة التي حرّمها، هذا البيت، العزة، الشعرى، الفلق، موسى وهارون، الناس، وآباؤهم الأولون، وبضمائر يأتي تفصيلها في مادة المضمرات.
وأضاف النبيون والرسل والمتضرعون خفية أنفسهم إلى ربهم فابتدأ كل منهم مناجاته الخفية بقوله : ربِّ، بحذف حرف النداء إلا في قوله ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرآنَ مَهْجُورًا﴾ في الفرقان، ثبتت فيه ياء النداء لأن الرسول سيسمع المكلفين شكواه إلى ربه أنهم اتخذوا القرآن مهجورا فلم يتدبروه ليهتدوا به للتي هي أقوم وإلى الرشد.
وتضمن تفصيل الكتاب المنزل تأصيلا عجيبا من أصول التفسير في سياق خطاب الله نبيا أو رسولا مضيفا ربوبيته إليه لتنبيهه إلى وعده بنصره كما في قوله ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ هود ﴿قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ﴾ هود ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى﴾ ﴿وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا﴾ الأنبياء ﴿وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ وبينته في تأصيلي الجديد للتفسير.
ولا تسل عن الخفة من المرسل إليهم وهم يخاطبون رسلهم بإضافة الرب إلى الرسول المخاطب كما في قوله ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ البقرة، ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ الزخرف
وإن اسم ﴿رب العالمين﴾ حيث ورد ذكره في الكتاب المنزل فإنما:
ـ ليقوم به أمر أو فعل خارق يعجز العالمون عن مثله وإيقاعه كما يعجزون عن دفعه.
ـ أو لبيان نعمه التي لا كسب للمخلوق فيها وما يجب له من العبادة والشكر.
ـ أو لاستعانته ليهب لنا في الدنيا ما لا نبلغه بجهدنا ولا نستحقه بعملنا القاصر.
وأما بيان أن كل فعل أو أمر أسند إلى ربنا فإنما هو أمر خارق يعجز العالمون عن مثله فكما في قوله ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ﴾ الإسراء ، من قول موسى في وصف الآيات المعجزة التي أرسله ربه بها.
وأما بيان أمر ربنا الذي يعجز العالمون عن دفعه فكما في قوله ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ هود، من قول رسل ربنا من الملائكة الذين أرسلوا بعذاب قوم لوط.
وأما بيان نعم ربنا التي لا كسب للمخلوق فيها فكما في قوله ﴿رَبُّكُمُ الذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ الإسراء.
وأما بيان ما يجب لربنا من العبادة والشكر على نعمه فكما في قوله ﴿ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ الزخرف.
وأما بيان ما يجب علينا من استعانته ليهب لنا في الدنيا والآخرة من نعمه ويصرف عنا من الضر والكرب ما لا نستطيعه بجهدنا ولا نستحقه بعملنا القاصر القليل فكما في دعاء النبيين وضراعتهم ربهم حيث وقعت في القرآن كما في قوله ﴿وَأَيُّوبُ إٍذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ الأنبياء .
وبينتُ الفرق بين كل ما أضيف أو أسند إلى الله وإلى ربنا في مواضعه من المعجم.