ثالثا: علم القراءات : التأصيل والأركان والأسانيد
ولا أجد فرقا بين تصورات العامة وبين بيان لجنة المصحف في المدينة المنورة القاضي بشذوذ كتاب التعريف للداني فاضطررت لإعلان الكليات التالية:
1. أن للقراءات تأصيلا لا يزال غامضا.
2. أن الأركان الثلاثة التي هي التواتر أو صحة السند وموافقة الرسم والنحو ليست ميزانا للمتأخرين إذ تعطل العمل بها منذ نشأة القراءات في صورتها الأخيرة.
3. أن الأسانيد التي يتهافت عليها طلبة القرآن وبعض المقرئين ليست بديلا عن الأركان الثلاثة المبثوثة في النشر لابن الجزري وفي غيره من أمهاته.
إن القراءات التي بأيدينا قد نشأت ابتداء من اختيارات الجيل الثالث بدْءًا بابن عامر الشامي (ت 118هـ) وابن كثير المكي (ت 120هـ) وعاصم ( ت 127هـ) وأبي جعفر المدني ( ت 130هـ) وكلهم من التابعين الكرام.
ثم الجيل الرابع ومنه أبو عمرو (ت154هـ) وحمزة (ت 156هـ) وابن وردان (ت 160هــ) ونافع (ت 169هـ) وحفص (ت 180هــ) والكسائي (ت 189هـ) وشعبة ( ت 193هــ).
ثم الجيل الخامس ومنه ورش (ت197هــ) وابن ذكوان (ت 202هــ) ويعقوب (ت 205هـ ) وخلاد (ت 220هــ) وقالون (ت 220هــ) وخلف (ت 229 هـ) ورَوْح (ت 235هــ) ورويس (ت 238هــ) وأبو الحارث (ت 240هــ) وهشام (ت245هــ) والدوري (ت 246هــ)
ثم الجيل السادس الذي اختص بالرواة وهم البزي (ت 250هــ) والسوسي (ت 261هــ) وإسحاق الوراق (ت 286هــ) وقنبل (ت 291هــ) وإدريس الحداد (ت 296هــ) والأصبهاني (ت 296هــ).
وتلاحظ الوسائطُ بين ابن كثير وبين راوييه البزي وقنبل وكذا بين ورش وبين الأصبهاني والواسطة بين الشامي وبين راوييه ابن ذكوان وهشام.
ولكم أن تتصوروا القيمة العلمية لاختيار أبي جعفر ( ت 130هـ) لقربه من الأداء بالمصحف المدني وتقارنوا بينه وبين الأداء الذي قرأ به الأصبهاني (ت 296هــ) عن شيوخه وشيوخ شيوخه عن ورش عن نافع وما نزل به سنده وأداؤه قبل أن يصبح الأداء منصوصا في مصنفات طرق الرواة.
أما الجيل الأول فهم الصحابة الكرام الذين رافقوا المصاحف العثمانية وأقرأوا الناس بأدائها.
وأما الجيل الثاني فهم رعيل التابعين الذين تلقّوا القرآن من حملة المصاحف العثمانية وممن أخذ منهم مباشرة:
ففي المدينة النبوية: مثل ابن المسيب وعروة وسالم وعمر بن عبد العزيز وابن هرمز وابن جندب .
وفي مكة: مثل طاووس ومجاهد وعكرمة بمكة.
وفي دمشق: مثل المغيرة بن أبي شهاب المخزومي وخليد بن سعد.
وفي البصرة: مثل أبي العالية ويحيى بن يعمر وأبو رجاء وابن سيرين.
وفي الكوفة: مثل أبي عبد الرحمان السلمي وزر بن حبيش وسعيد بن جبير.
وأخذ عن هؤلاء ونظرائهم متأخروا التابعين القراء الأربعة وغيرهم من قراء الجيل الثالث.
ولقد استغربت قبل ربع قرن ولا أزال نقاشا في النشر والمتون قبله ولدى المتأخرين حول الأركان الثلاثة.
والحق يقال أن هذه الأركان كانت ميزانا وضعه المصنفون الأوائل الذين كانوا يجمعون ما وصل إليهم من الأداء لحفظ القراءات والروايات وضابطا لقبول انشطارها وتعدّدها إذ كانوا يكتفون بصحة السند إلى أحد المصنفين أو أئمة القراءات.
وأجدني مَدِينًا للمصنفين من طرق الرواة في القرن الثالث والرابع والخامس للهجرة معلنا تزكيتهم بمباركتي أمانتهم العلمية إذ لم يخلطوا ولم يدلّسوا على العامة ولا الخاصة بل أعلنوا الأداء بالقرآن منصوصا في كتب من تقدمهم وقرأوا به القرآن من أوله إلى آخره وغير منصوص كما قرأوا به على شيوخهم قراءة مسلسلة متصلة وأعلنوا تلقيهم أحرف الخلاف غير مقترنة بقراءة القرآن وأعلنوا القياس في الأصول خاصة كالغنة والمد والإدغام والتسهيل والنقل ... غير مدلّسين فجزاهم الله خيرا بما نقلوا إلينا القرآن عذبا فراتا وسلسلا.
قال ابن الجزري في النشر (1/9 ) " ثم إن القراء بعد هؤلاء المذكورين كثروا وتفرقوا في البلاد وانتشروا وخلفهم أمم بعد أمم وعرفت طبقاتهم واختلفت صفاتهم فكان منهم المتقن للتلاوة المشهور بالرواية والدراية ومنهم المقصّر على وصف من هذه الأوصاف وكثر بينهم لذلك الاختلاف وقلّ الضبط واتسع الخرق وكاد الباطل يلتبس بالحق فقام جهابذة علماء الأمة وصناديد الأئمة فبالغوا في الاجتهاد وبينوا الحق المراد وجمعوا الحروف والقراءات وعزوا الوجوه والروايات وميزوا بين المشهور والشاذ والصحيح والفاذ بأصول أصّلوها وأركان فصّلوها وها نحن نشير إليها ونعوّل كما عوّلوا عليها فنقول : كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها "اهـ بلفظه .
إن القول بثبوت القرآن بصحة السند واستفاضته دون اشتراط التواتر ليعني تشريع إنشاء القراءات وقبول انشطارها وتعدّدها كالذي عرفته الأمة في القرن الثالث بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يزال المتخصصون في القراءات والباحثون المتأخرون متمسكين به تقليدا منهم، كما لا تزال عامة الناس تقرأ القرآن متواترا لديها خلَفا عن سلف تواتر صلاتهم الفجر ركعتين والظهر أربعا والعصر أربعا والمغرب ثلاثا والعشاء أربعا بالكيفية المعلومة إسرارا وجهرا وقياما وركوعا وسجودا وتواتر صيامهم وقيامهم رمضان وتواتر كيفية الحج تواترا لا يحتاج معه اللاحِقُ إلى إجازة وإسناد من السابقِ ولا الخلَفُ من سلفِه.
ولكأني باللجنة العلمية لمصحف المدينة المنورة قد التُبس عليهم فلم يتبيّنوا ضعف القيمة العلمية لإسناد معاصر مسلسل بحديث نبوي خلت منه كتب الحديث النبوي المعلومة، وكذلك لا قيمة اليوم لأسانيد الدنيا مجتمعة بأداء خلت منه أمهات كتب القراءات المعلومة، بل تكتسب الأسانيد المعاصرة قيمتها من موافقة كتاب من كتب أمهات القراءات.
إن الأداء المنصوص في أمهات كتب القراءات الذي قرأ به المصنفون الأولون ليعني أن كل مصنف من طرق الرواة يومئذ قد أذن لمن يأتي بعده بقراءة القرآن بمضمن كتابه، وفقه المحقق ابن الجزري ذلك فأذن في طيبته بقراءة القرآن بمضمن الطيبة كما هي دلالة قوله في آخرها:
وَقَدْ أَجَزْتُهَا لِكُلِّ مُقْرِي / كَذَا أَجَزْتُ كُلَّ مَنْ فِي عَصْرِي
رِوَايَةً بِشَرْطِهَا الْمُعْتَبَرِ / وَقَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْجَزَرِي
ولا يتأتى قصره على تلامذته الذين قرأوا عليه بمضمنها لإعلانه أنه أجاز كل من في عصره بمضمنها ومنهم من لم يقرأ عليه ولم يجتمع به ولم يلتقه ولإعلانه إجازته بمضمنها كل مقرئ متأخر عنه بقرينة تخصيص معاصريه بعد ذلك وليقتصر الأداء والإسناد على الشرط المعتبر وهو التقيد بما في الكتاب الأم.
ومما لا يخفى على غير الأعشى أن القيمة العلمية لحرز الأماني أقل من أصله التيسير، وكذلك مصنفات الداني بالنسبة لمن سبقه من مصنفي طرق الرواة كابن مهران وابن مجاهد وابني غلبون فكيف تأتّى للجنة العلمية نسخ أمهات كتب القراءات ومنها كتاب التعريف للداني بشروح فرعية متأخرة عنه.
إن تلك المتون من مصنفات طرق الرواة في القرنين الرابع والخامس لمن حفظ القرآن وأدائه لئلا يختلط أو يلتبس الأداء على شيخ يقرئ القرآن من حفظه إذ قد تصيبه آفات النسيان والهرم والخرف وليرجع طلابه إلى الكتاب الأم.
وتتيح تلك النصوص في مصنفات طرق الرواة عودة آمنة إلى الأداء الأول الذي أقرأ به الصحابة الذين رافقوا المصاحف العثمانية بل لا فرق بين الطعن فيها وبين طعن الشيعة الروافض في الصحابة الكرام وما نقموا منهم إلا أن نصروا نبي الله ورسوله بالقرآن العظيم.
ذلكم من تأصيل استغرابي وإنكاري فتوى لجنة المصحف في المدينة بإبطال القراءة بمفردة نافع لأبي عمرو الداني واعتمادها الدرر اللوامع وشروحه المتأخرة المصنفة في عصور الانحطاط.
يتواصل