متى سأراك بخير يا وطني؟...بقلم آرا سوفاليان
في الثانية من بعد منتصف الليل وقبل انبلاج فجر يوم جديد يحمل تاريخ 5 أيار 2013، وحزيران بعد أيار ومنذ 5 حزيران أو قبل ذلك بكثير لم أراك بخير يا وطني...ارتجت البناية التي يقع فيها بيتنا، ودخلت الستائر كلها الى الداخل ثم خرجت، وبعد قليل ترك الاولاد غرفتهم وجاؤوا الى غرفتنا، قالوا لنا هذا زلزال كما أكد لهم أصدقاؤهم في المدرسة، والكل صغار ومتمترسون خلف موبايلاتهم، فئة على الفيس بوك وفئة على التشات وفئة على الواتس آب، وفئة على اليوتوب وفئة على الانيستاغرام وفئة على الفايبر، والكل يقدّر ويتوقع ويستنتج على هواه...التوقع الاول زلزال...قلت للأولاد ليس زلزالاً...قالوا لي فوراً كيف عرفت؟...قلت: انظروا الى الثريا يجب ان تهتز كرقّاص الساعة...انظروا اليها انها ثابته في مكانها...دخل صديق آخر على الموبايل بطريقة ما وقال أن الشمس تشرق قبل موعدها من خلف قاسيون...سألوني فقلت لهم: انفجار مروع وكبير وبحمولة عشر شاحنات وأكبر من كل ما سبق...دخلت صديقة على موبايل الاولاد وقالت ان وميض النار يطال السماء...وارسلت صورة ببريد الفيس بوك...دخلت الفضائيات...لا شيء على الطلاق...لا أخبار عاجلة ولا أخبار آجلة...والكل ينتظر الكل...والكل ينتظر من يبيع ليشتروا ثم يبيعوا...والمزاد على دماء أبنائنا في كل سوريا المذبوحة من الوريد الى الوريد...رأيت كرة النار التي امتدت كقوس قزح واسع وكبير يضيء بعض البيوت وبعض المآذن وبعض الابنية الشاهقة التي تصطف أمامه كطوابع البريد في ألبوم متعب كلها في الأمام وهو في الخلف...قالت لي صغيرتي: بابا هل هذه كرة نار؟ قلت: نعم...قالت: وهل تحت هذه الكرة بشر؟...قلت نعم...قالت: وهل هم كثر يا أبي؟...قلت: نعم...قالت: وهل ماتوا جميعاً؟...قلت: العلم عند الله...قالت: لقد مللت يا أبي، متى سأراك بخير يا وطني؟...وتوقفت المحادثة هنا لأني لا أعرف الجواب.
منذ ذلك اليوم 05 حزيران 1967 وما قبل ذلك اليوم كانت كل ايامنا نكبات وكل نهاراتنا ظلمات، على مقاعد مدرستي درسنا ان العرب خسروا معركة العام 1948 نتيجة عدم التلاحم وعدم رص الصفوف وعدم اتحاد القلوب ونتيجة الخيانة ووصول سلاح فاسد ينفجر بيد الرماة فيحيلهم الى أشلاء...الخسارة هي نتيجة طبيعية للتفرقة والخيانة...كنا على مقاعد الدراسة ويتم شحننا بالامل وكنا في قرارة انفسنا نقول أنه لو حدثت الحرب اليوم فسيكون الامر مختلف، متى سأراك بخير يا وطني؟......وكنت بعمر الـ12 وأقود دراجتي الحمراء الصغيرة أما الباب الرئيسي لثانوية أمية وكنت أضغط بكل ثقلي لأوصل الدراجة الى أقصى سرعة أريد الوصول الى بيتي وهو في ساحة التحرير، خاصة وبعد سماع جهاز الانذار المنطلق من مبنى الدفاع المدني المواجه للباب الرئيس لثانوية امية بأبواقه المعدنية الثمانية وصوته المروع الذي أوقع الرعب في قلبي...الجميع كان يصرخ...غارة...غارة...غارة...انزلوا الى الملاجئ...أية ملاجئ ونحن الى اليوم لا نملك ملاجئ والملاجئ باعها أبناء الكلب للتجار وأصحاب الورشات بعد ان استحصلوا على اذونات...ووصلت الى ملجئي وهو دار أهلي...واستقبلتني أمي والجيران...وسألوني عن اترابي فقلت: انا لوحدي لم يكن أحداً معي ولا أعرف عنهم شيء...وتم اخلاء البناية كلها الى الطابق الأول والقبو وفرغت الطوابق العليا والملحق من الجيران...في اليوم التالي كنت على السطح مع ابي وصديقه العقيد الطيار المتقاعد قسراً عدنان الشويكاني وكنا نراقب المعارك الجوية وراديو الترانزيستور العائد للعقيد شويكاني ينقل لنا البلاغات والطائرات في الجوّ والعقيد شويكاني يشرح لنا ما يحدث والذي يحدث هو ما يراه ونراه بالعين المجردة وما كنا نراه كان كالذي نسمعه يصيبنا باليأس.
وخسرنا الحرب وكنت أقول في نفسي متى سأراك بخير يا وطني...ونسينا الحرب ونسينا الخسارة ونسينا ما حدث، ودخل جيشنا عشرات الكيلوميترات في الاراضي المحتلة وصارت القنيطرة خلف ظهره، وعبر الجيش المصري قناة السويس ورفع العلم على الضفة الشرقية...وانهار خط بارليف وهو أعظم من خط ماجينو...وفجأة بقينا لوحدنا وتوقفت الحرب على الجبهة المصرية فنقل الصهاينة كل جيشهم وعتادهم الى الجبهة الشمالية وبدأ التراجع تحت طائلة الانسحاب أو الابادة، والجبهة الشرقية هادئة، ووحدات رمزية خرجت من خلفها ووصلت متأخرة الى الجبهة الشمالية، وأضعنا ما كسبناه، ووصلت وحدات أخرى من العراق ولكن كان الفأس قد وقع في الرأس...ووصلت ألوف القوفل المجوقلة من أميركا لتضع بين يدي اسرائيل كمية من الاسلحة الحديثة تفوق أجمالي ما خسرته بعشرات المرات.
متى سأراك بخير يا وطني؟...وحرب الاستنذاف على الابواب وذقنا الامرّين منها وامتدت طويلاً بقدرات محدودة في مواجهة قدرات غير محدودة... متى سأراك بخير يا وطني؟
واشعلوا الدنيا في لبنان وطوقوا بيروت... متى سأراك بخير يا وطني؟...وانشغل العراق بحرب عبثية في الشرق ودفع كل طرف مليون قتيل...وعاد كل طرف الى نقطة البداية بعد أن خلّف كل طرف مليون قبر، وبدد كل طرف عوائد النفط لعشرات السنين أما الطرف الثاني وهو طرفنا فلم يكتف بتبديد عوائد نفطه لعشرات السنين بل بدد معها عوائد نفط الامة العربية كلها... متى سأراك بخير يا وطني؟ وتم اجتياح الكويت مما أدى الى ايجاد الحجة لإجتياح العراق ودفعنا عشرات الالوف من الشهداء هنا وهناك... متى سأراك بخير يا وطني؟... وداعب النصر خيالنا عندما تم تحرير الجنوب وإذلال اسرائيل لأول مرة في التاريخ العربي الحديث وعندما تم تدمير سفينة حربية اسرائيلية جاءت لتنتهك حرمة المياه الاقليمية العربية في لبنان ليتم جرّها الى ميناء أشدود وهي ذليلة وكسيرة ومعطّلة...وها نحن اليوم في البلاء الذي نحن فيه...وتحت كرة النار وانفجار مروع تتفوق نتائجه على النتائج التي تنجم عن تفجير عشر شاحنات محشوة بالمتفجرات...صاروخ أو عدة صواريخ أحالت المكان الى حطام تحت كرة من النار... متى سأراك بخير يا وطني؟...سؤال ابنتي الصغيرة، السؤال الكبير الذي أضعت عمري وانا أبحث عن جواب له.
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
الأحد 05 05 2013
arasouvalian@gmail.com