غسّان كنفاني.. قلم نادر في سخريته وفي صدقه.!

بقلم: عدنان كنفاني

هل نستطيع أن نضع "أنموذج" كتابة النقد الساخر تحديداً تحت عنوان ما.. أن نقول مثلاً الأدب الساخر.. أو الإبداع الساخر.. أو الالتزام الساخر..؟
أو أن نقول أن مثل هذه الكتابة "حديثة كانت أم قديمة" تمثل شكلاً أو منهجاً أو جنساًً من أجناس وأشكال الأدب بالعام، أو أنها شعبة من شعبه..؟
أقول نعم.. إذا امتلكت الشروط اللازمة.. وإذا امتلك كاتبها الأدوات..
يقول غسّان كنفاني:
(إن فّن السخرية هو أصعب فنون الكتابة على الإطلاق.. إذ المطلوب من الكاتب أن يقنع القارئ "بالإضافة إلى جميع البنود المعروفة في الكتابة".. بأنّ دمه خفيف).
مؤكّداً بوضوح وجلاء لا يقبل الخلط، ويحذّر من الاستسهال فيقول: (إن الجملة الساخرة الأفضل، هي الجملة التي يبذل فيها جهد أكبر..)
ولعلني ما تعجّلت، عندما ذكرت الاسم الحقيقي لـ (فارس فارس) أو لـ (أ. ف) أو لـ (غينكاف) أو لـ (هشام).... الخ. وكلها تواقيع مستعارة كان يختفي وراءها غسّان كنفاني في كتاباته النقدية الساخرة.. وخصوصاً في جريدة المحرر بشكل يوميات تحت عنوان "بإيجاز".. وفي مجلّة الصّياد تحت عنوان "كلمة نقد" وفي ملحق الأنوار الأسبوعي تحت العنوان نفسه.. وامتدّت منذ العام 1965 وحتى أوائل تموز 1972..
ولا بد أن يبرز السؤال الهام..
لماذا كتب غسّان كنفاني ما كتب، بأسماء مستعارة..؟
وقد أصحح صيغة السؤال حتى يكون مفهوماً أكثر..
لماذا كتب غسّان هذا النوع والشكل "على وجه التحديد" من الكتابة بأسماء مستعارة..؟
أستعير الجواب من الأستاذ محمد دكروب الذي يقول:
(تحت قناع "الاسم المستعار" كان غسّان كنفاني ينطلق على هواه. يتحرر إلى حّد كبير من صفة كونه غسّان كنفاني المناضل الفلسطيني الحزبي الملتزم والمسؤول، ينتقد ويسخر ويتمسخر ويفضح ويكشف الزيف "في الفن وفي الموقف" بما لم يكن ليتيح لنفسه أن يكتبه تحت خيمة اسمه المعروف.. فتظنه انزلق على هواه الفردي المحض)..
إنه بذلك يفك قليلاً القيود الصارمة التي فرضها على نفسه، وفرضتها عليه مسؤولياته الجسيمة النضالية في الإطار الفلسطيني دائماً، كقيادي عليه في كل وقت شأن الشرفاء أن يراقب نفسه وكلماته وآراءه، ليذهب في وقت ما إلى معين آخر غير ملحوظ، وباسم مستعار، يكتب آراءه في كتابات عامّة ليست بعيدة عن ثقافة واهتمام والتزام غسّان كنفاني، تتمحّور حول القضايا الجادّة بوجه العموم تحرّضه الخوض في مسألة المقال الأدبي والنقد بالعام، والنقد الساخر بالخصوص.. ومن هنا فكتابات غسّان "بأسماء مستعارة" كانت تختلف تماماً عن كتابات غسان كنفاني "نوعياً" بحيث تتيح له الكتابة "بالاستعارة" أن يكون على قدر أكبر من الجرأة والتجرؤ والمناكفة والمسخرة في إطار الأفق العربي أيضاً المتنوع بالموضوعات..
(لهذا استطاع "فارس فارس" أن يضّلل الكثيرين، وربما حتى اليوم الأخير "بل ربما حتى الآن" عن معرفة اسمه الحقيقي.؟)
وحتى لا يفسّر هذا على أنه ضرب من العبثية، يضيف الأستاذ دكروب..
(إذا تابعت ما يكتبه "فارس فارس" متمعناً ومتذوّقاً، ترى أن الساخر يلتزم بأعلى درجات الأمانة للخّط النضالي الفكري السياسي، والفنّي خصوصاً، لغسّان كنفاني..)
وحتى لا تنسب الكتابات الساخرة "الجادّة" التي دأب على كتابتها غسّان كنفاني بأسماء مستعارة إلى ضرب من الرغبة في التسلية أو السطحية ليس إلا.. يقول الأستاذ دكروب..
(تلك الصفحات الساخرة تكشف عن اطلاع واسع عميق، ومتابعة متواصلة ودقيقة إلى حد كبير لآخر تيّارات الفكر والفن والصرعات التجديدية التي حفل بها زمان الستينات في بلادنا العربية وفي العالم)..
ويضيف بحماس ورؤية جلّية واضحة كونه كان الأقرب من غسّان في مراحل كثيرة ومديدة: (السخرية في كتابات فارس فارس هي في عمقها وغاياتها، فن جاد جداً، شأن أي سخرية أصيلة تحترم ذاتها وتحترم كونها فنّاً هادفاً بالأساس سواءً في أدبنا العربي أم في آداب الأقوام الأخرى)
ويقول غسان كنفاني..
(الأدب الساخر ليس تسلية، وليس قتلاً للوقت، ولكنّه درجة عالية من النقد) ويضيف (السخرية ليست تنكيتاً ساذجاً على مظاهر الأشياء، ولكنها تشبه نوعاً خاصّاً من التحليل العميق.. إن الفارق بين النكتجي وبين الكاتب الساخر يشابه الفرق بين الحنطور والطائرة.. وإذا لم يكن للكاتب الساخر نظرية فكرية فإنه يضحى مهرّجاً)..
ومن هذه المبدئيات كان غسان كنفاني في كتاباته الساخرة خفيف الدم، وخبيراً لا يجارى في إثارة الضحك المفجع، بارع النكتة، سخريته جارحة، يكشف ويفضح ويعّري التفاهات والسفاهات و[فقر الدم الأدبي أو الفكري].. وكان في هذا كله "وهذه ميزة" جادّاً جداً..
ولا بد أن أعترف أن بحث غسّان عن الموضوعات "الأعمال الأدبية" التي يدخلها مشرحته كان دقيقاً ومتلهّفاً للإمساك بالتفاهات ليعمل مبضعه عليها وفيها لأنها بطبيعة الحال لضحالتها تغدو أسهل عرضة للنقد والسخرية و[لنشر سنسفيلها] حسب تعبيره.. ولأنها كما يصفها: [ولدت لئيمة، وستموت كذلك..!]
المفارقة التي أجد ضرورة للتوقف عندها قليلاً أن كتابات غسّان الساخرة جاءت بمعظمها في زمان هزيمة 5 حزيران.. وهناك من يسأل..
هل يصح أن نكتب أدباً ضاحكاً ساخراً في زمان الانحدار..؟
يقول غسّان.. (الكتابة الساخرة ضرورية في كل آن، وقد تكون ضرورية أكثر في زمان الهزيمة، فهي بالمحصلة سلاح لكشف وفضح وتمزيق الأقنعة)..
كما هي سلاح "له خصوصيته" في كشف جديد الفن، وجديد الحركة النضالية معاً ولو عبر الضحكة والسخرية التي تذهب مع غسّان وعلى لسان أبطاله المستعارين إلى أقصى درجات الجدّية الجارحة والموجعة والمفجعة أيضاً..
وعلى هذا المسار فقد صدر في حينه كتاب حديث "بعد عامين من هزيمة حزيران" يحمل عنواناً غريباً عجيباً.. (الأدّلة النقلية والحسّية على جريان الشمس وسكون الأرض، وإمكان الصعود إلى الكواكب).. مؤلفه جهبذ موسوعي ألمعي يحتل منصب رئيس إحدى الجامعات في دولة عربية "لا أجد ضرورة لذكر اسمه" وقد عمل هذا البروفسور على تقديم (براهينه العلمّية) من كلمات وأبيات متناثرة في بعض الشعر العربي القديم ومنها أبيات من عنترة شخصياً، ليثبت بشكل دامغ أن الأرض راسية لا تتحرك ولا تدور ....الخ..
وقد وقع هذا الكتاب بين يدي غسّان [كما تهبط النعمة من السماء] وقبل أن يدخل في الحديث عن المضمون الفكري والبراهين العلمية للكاتب يقدم في بداية مقاله الساخر اقتراحاً أو لعلها عدّة اقتراحات تتلخص بما يلي..
(جرت العادة في هذه الأيام، وعند الدكاكين المتطورة، أن يقدّموا لك مجاناً صابونه إذا اشتريت علبة برش. وجوز كلسات إذا اشتريت بنطلوناً.. وهذا الأسلوب هو تطوير حضاري لما كانت أمهاتنا يسمينه "عالبيعة الله يخليك!".. هذه المقدمة ضرورية كي أفسّر لماذا شعرت بان الكتاب الذي اشتريته مؤخراً كان ناقصاً هدية "عالبيعة". فقد كان من المفروض أن تعطى معه مجّاناً سلّة مهملات، كإشارة إلى مصيره، أو على الأقل كان من المفروض أن تربط إليه عصا خيزران، وذلك كي ينهال القارئ على نفسه ضرباً بعد الانتهاء من قراءته، من باب الندم والنقد الذاتي.. إن ملخّص الكتاب "كما لا شك تخّمن" هو أن صاحبنا البروفسور....... أخذ على عاتقه في 75 صفحة، أن يبرهن لك ولي وللجدعان، أن الأرض ثابتة راسخة لا تتحرك قيد شعرة، وأن الشمس "أيّها الشاطر" هي التي تركض وتدور حول الأرض..) الصيّاد 7/4/1972
ليأتي السؤال البدهي.. هل أمثال هذه الكتب هي من نتاج الهزيمة، أم هي من أسبابها..؟
وفي نقده لكتاب من نمط الصرعات السلبية للكتابة "الأدبية" الهذيانية والمدّعية يطرح تساؤلاته الساخرة على هذا النمط من الكتابة التافهة ولا يوجّهها إلى المؤلف فقط.. [بل إلى بعض النقّاد المأخوذين بنغمة اللاوعي هذه، والذين ينضبعون بهكذا خزعبلات حداثية، وإلى هكذا كتاب تناسلت وتوالدت أنماط منهم حتى وقتنا هذا]
يكتب فارس فارس في ملحق الأنوار 14/1/1968..
(إذا كان الفن هو التحرر من الوعي والعقل فينبغي أن يكون تجّار المخدرات هم الناشرين. وإذا كان الفنان هو الأكثر هروباً من مسؤولية الوعي، فإن بطحة عرق هي أكبر وحي. وإذا كان العمل الفني هو الهذيان الأكثر تحلّلاً، فإن المحشّشين والشمّامين والسكرانين هم أدباء العصر)
ثم يتناول بنقده كتاباً ثورياً جداً وواع جداً وواضح جداً، فيلعن سنسفيله وسنسفيل مؤلفه وناشره.. كتب في ملحق الأنوار "كلمة نقد" 24/3/1968..
(يسمي المؤلف القصص العشر في مجموعته (قصصاً ثورية). ولو كانت وكالة الاستخبارات الأمريكية تفهم، لطبعت من هذا الكتاب مئة مليون نسخة، وقصفت بها العالم الثوري حتى يطلق ثوريته)..
وهذا يبرز كما يقول الأستاذ دكروب (فارس فارس مدافعاً عن الفن الأصيل ضد كل زعيق باسم الثورية.. والزعيق "الثورجي" ليس معادياً للفن فقط، بل هو "في محصلته" معاد للثورة ولنضال الثوريين، ومعاد للتقدم على صعيدي الفن والمجتمع معاً)
وفي كثير من الأحيان كان فارس فارس منصفاً للكتابة الجّادة والجيدة.. فقد قرأ كتاباً لروائي عراقي كان مغموراً في ذلك الوقت. كتب عنه في 21/1/1968..
(ومنذ السطر الأول لهذه الرواية، شعرت أنني بين أصابع رجل موهوب، أخذني في رحلة إلى أعماق العراق وأعماق أناسها، ورّد للأدب المعاصر في ذلك البلد السّباق دائماً في الإنتاج الفني قيمه ومعناه، وأعطاني شيئاً كنت أفّتش عنه)..
ويقول عن قصة جيدة قرأها (هي واحدة من أجود ما يمكن للإنسان أن يقرأه في هذا العصر الأدبي الزفت..).
ثم يأتي بعد ذلك للحديث عن القصّة عموماً من منظوره فيقول..
(من المعروف أن العمل الفني، وعلى وجه الخصوص القّصة القصيرة، هو عمل ينجز الكاتب نصفه ويترك النصف الآخر للقارئ.. والبراعة الفنيّة هي أن يستطيع الكاتب بطريقة غير مباشرة إعطاء القارئ المفاتيح التي تستطيع أن تدّله على أبواب وطرق ذلك النصف الآخر غير المكتوب في القصة يكتشفها القارئ أو "يكتبها" في خياله.. عكس ذلك نسميه "الاستغباء" أي الاعتقاد بأن القارئ رجل تافه لا يفهم، وأن على المؤلف أن يّدق الفهم في رأسه بالمطرقة) 20/10/1968..
ويقف غسان كنفاني أمام الشعر "الشعاراتي" الزاعق الذي يحمل الخزعبلات والخلط والادّعاء المزّيف والهذيان باسم حداثة مظلومة.
يقول ويكتب عن "عصابات الشعر" التي تمارس إرهابها: (إذا أنت لم تتّذوق هذا الشعر وتتقّبله وتعترف بثورته التجديدية وتتحمّس لها.. فأنت جاهل متخّلف ومتشبّث بالقديم!)..
ويعلن بشجاعة ووضوح (إنني لراغب حقاً في مصارحة شجاعة هنا. وهي باختصار إنني لا أفهم شيئاً من هذا الشعر.. فغالبية الشعر الذي نقرأه هذه الأيام يشبه كوابيس فتى مصاب بالحمّى وبالكبت وبهواية تسجيل هذيانه. ذلك أن هذه القصائد المعاصرة تتحدّث عن أمور خرافية.. مثل كأس فيه رؤوس دامية لعشيقة لها عشرون رجلاً تمطر على سهوب من الصدور المشرعة أمام انشقاق سماوي في وجه أزرق ينعكس على مرآة من الوحل.. إنني أعلن أنني لا أفهم هذا الهذيان، وقد آن الأوان لنتّخلى عن خشيتنا من أن نتّهم بالجهل، ونبدأ بتأسيس ناد يضم بين صفوفه جميع الذين لديهم الجرأة على الإقرار بأنهم عجزوا عن فهم واستيعاب هذا الشعر.. وسيكون على هذا النادي أن يلقي القبض في كل مكان على الشعراء هؤلاء، ويقّدمهم إلى المحاكمة بتهمة الغش والتزوير..)
يقول الأستاذ محمد دكروب..
(إن واحة فارس فارس التي خلقها غسان كنفاني ليفيء إليها مرة في الأسبوع، متخفّفاً من أعباء ومسؤوليات اسمه وصفته الحزبية النضالية والقيادية في حركة التحرر الوطني الفلسطينية. كانت، في حقيقتها ومسارها ذهاباً أعمق في اتّجاه القضية نفسها، وأن مفاعيل الهزيمة، سلباً وإيجاباً، حاضرة في النسيج العميق لهذه الكتابات كلها، وحاضرة كذلك وبصورة مباشرة في عدد من الجدالات ذات اللغة الساخرة، وذات الطابع الجدّي على حد سواء)..
آخر مقال لفارس فارس نشرته مجلّة الصيّاد في 16 تموز 1972 بعد أسبوع من استشهاد غسان كان بعنوان "ملحمة المعزاية والذئب" ولأول مرة باسم غسّان كنفاني..
حاولت أن أقدم مقاطع ومقتطفات منه لكنني فوجئت بحقيقة لم أستطع تجاوزها وهي أن كل كلمة في ذلك المقال على قدر من الأهمية، ليس لأنها تنسحب منذ تاريخ كتابتها وحتى الآن على واقع الحال فقط.. بل لأنها أيضاً تحمل الرؤيا والقدرة على الاستشراف..
مقال ساخر وجدّي حتى العظم.. يكشف فيه غسان الانحياز الفاضح في الصحافة الغربية إلى جانب "إسرائيل" ضحية الإرهاب البربري. وحالة العداء المتأصل والمستمر ضّد الفلسطينيين والعرب.. وقد أقول بوعي وروّية أن هذا المقال يصلح ليكون النموذج للعنوان الذي تساءلنا عنه منذ البداية.. النقد والنقد الساخر.. ومن أجل ذلك أجدني مضطراً لنقله بالكامل...
يقول غسّان كنفاني: (لابد أن تكون طينة العرب من طينة أخرى غير طينة الأجانب، وخصوصاً غير طينة "الإسرائيليين"، وقد كان دافيد اليعازر مهذّباً جداً حين أعلن أسفه لسقوط ضحايا مدنيين أثناء الغارات الإسرائيلية على لبنان "لأن ذلك لا يمكن تجنّبه" والواقع أن هذا الكلام هو استكمال للشعار المرفوع عالياً في إسرائيل.. "إن العربي الجيد هو العربي الميت"..
وأنا واحد ممن لم يتيسر لهم هذا الأسبوع قراءة القصص وكتب الأدب، وكنت مشغولاً طول الوقت بقراءة الصحف وأخبار الاعتداءات الإسرائيلية، وخطابات دهاقنة اللغات الدبلوماسية في أروقة مجلس الأمن والأمم المتحدة. وقد تبين لي " كما هو الأمر بالنسبة لـ 120 مليون عربي على الأقل" [في وقت كتابة المقال] أن أروع عمل أدبي في التاريخ ينطبق على حالنا هو تلك القصة القصيرة التي تعلمناها حين كنا أطفالاً عن المعزاية والذئب، وكيف لوّثت المسكينة مياه الجدول وعكّرته على الذئب المهّذب، مع أنها كانت تشرب من مكان أدنى من الموقع الاستراتيجي الذي تمركز فيه الذئب، منذ احتلال 1967 على الأقل..
قلت، قرأت الصحف، وقرأت تعليقاتها إثر حادث مطار اللد الأول، ثم حادث مطار اللد الثاني، ثم حوادث الاعتداءات الإسرائيلية. وطويت الجرائد وأنا أنفخ غيظاً، إذ إن هذا العالم الأحمق ليس بوسعه أن يكون أكثر حماقة، وبعد ملايين السنين من انحدارنا من العصور الحجرية ما زالت القاعدة الذهبية إياها هي الصحيحة: إن صاحب الحجر الأكبر، وحامل العصا الأتخن، والبلطجي الشرّاني، هو الذي معه حق.!
يقول "رئيف شيف" أحد أساتذة المنطق العسكري الإسرائيلي.. إن على إسرائيل أن تعترف بأن الفدائي علي طه، الذي خطف طائرة السابينا، قد أظهر شجاعة لا يمكن تصورها بعمله هذا.. تساءلت يومها إن كان رئيف شيف سيعترف بذلك لو انتهت عملية خطف السابينا إلى نجاح، أم أن المسألة تشبه قصائد التفشيط العربية القديمة، حين ينظم الشاعر تسعة وتسعين بيتاً من الشعر في وصف شجاعة الأسد وسطوته كي يقول في البيت المئة إنه قتله.؟
وصبّرني الله شهراً، فإذا بهذا المنطق نفسه يصف الفدائيين الثلاثة الذين اقتحموا مطار اللد بأنهم.. جبناء.! يا سبحان الله..
وانتظرت فترة من الوقت، فإذا بهذا الفبركجي نفسه، يمتدح شجاعة الطيارين الإسرائيليين، المتربّعين في السكايهوك والفانتوم، والعارفين بأنه لا توجد "نقيّفة" واحدة تزعجهم، يرمون قنابلهم من وزن 2500 رطل فوق بيوت اللبن والطين في دير العشاير.!
وأثناء ذلك كان محررو "الاكسبرس" الفرنسية يحللّون هجمات المقاومة بقولهم "إن الطائفة الأرثوذكسية في العالم العربي قد تأثرت بالإسلام إلى حد صارت تسمح لنفسها بالقيام بعمليات همجية ضد الآمنين المدنيين المتربّعين بهدوء وسلام فوق الأراضي المحتّلة.!"
وقلت لنفسي: يا سلام كيف ينحدر العقل الغربي حين يصبح مرشّواً وجباناً، ألا يشبه هذا الكلام كلام هتلر وروزنبرغ وأمثالهما.؟
على أن "الاكسبرس" نفسها لم تذكر حرفاً واحداً عندما زّخ مطر الموت فوق قرويي الجنوب العزّل، وأطلقت على تلك العملية البربرية اسم "رّد عسكري"..
لندن لا تزعج أفكار السادة..!
قلنا لعل "التايم" على انحيازها، لم تنّحط إلى درجة جنون "الاكسبرس" و "النوفيل أوبزرفاتور" فإذا بنا نستفتح بالعبارة التالية: "لماذا يجب أن يقتل يابانيون حجّاجاً بورتوريكيين لمجرّد أن العرب يكرهون اليهود.؟" قلت: عجيب.؟ ألم يكن بوسع الكاتب أن يقول "لمجرّد أن العرب واليهود يكرهون بعضهم بعضاً.؟" إذا شاءت الموضوعية المزيّفة.؟
وصباح اليوم الذي تلاه، قلنا: لعل إذاعة لندن معقولة أكثر.. فإذا بها ألعن وألعن، أمّا نشرتها بالانكليزية فلم تشأ أن تزعج أفكار السادة سكّان لندن، فلم تذكر شيئاً، ولا حرفاً واحداً، عن المئات الذين ماتوا تحت قصف الطائرات الإسرائيلية أثناء العدوان على جنوب لبنان..
لجأنا إلى "النيويورك تايمز" وإلى "الإيكونومست" إلى "الفيغارو" وإلى " اللوموند" إلى "ستامبا" وإلى "دي فيلت".. وكان الشعار المستتر واحداً، وهو الشعار الذي يجد رواجاً كبيراً هذه الأيام "إن العربي الجيد هو فقط العربي الميت".!
وأمس قالت إذاعة لندن ببساطة: "ألقت طائرات الـ ب 52 ألفي طن من القنابل حول مدينة (هوي).. هكذا.. بس.!
قلت لنفسي: يا مساكين يا عرب! كل الذي فعله فدائيو اللد هو أن كل واحد منهم قوّص مائة طلقة، ورمى قنبلة يدوية واحدة أو اثنتين، لمدة دقيقتين وذلك في قلب أرض محتّلة، على موقع استراتيجي، ضّد عدو ما زال يذيقنا الموت كل ثانية.. وهذا اسمه عنف وهمجية وبربرية وقتل وفتك ولا إنسانية ووحشية.. أمّا ذلكما الطّنان الألفان "أي مليونا كيلو من الموت" في أقل من خمس ساعات، فوق عدد لا يحصى من القرى الفيتنامية، ذات الشظايا البلاستيكية التي لا تقبل بان تقتل إلا بعد أن تعّذب الجريح شهرين أو ثلاثة شهور.. أمّا هذه الجريمة الجماعية، التي هدفها الاحتلال وليس التحرير، فاسمها في قاموس الصحف والإذاعات "غارة استراتيجية".!
الطائرات بدل الفدائيين..!
يا مساكين يا عرب..؟
لو أن لديكم بدل الفدائيين الثلاثة، ثلاثة أسراب من قاذفات الـ ب 52 الاستراتيجية، وبدل الرشّاش الخفيف طاقة من النار تبلغ ألفي طن من القنابل في الساعة الواحدة، لصار منطقكم عند "الاكسبرس" و "النيويورك تايمز" وإذاعة لندن وفالدهايم منطقاً معقولاً، يمكن الاستماع له..
لكن، يا حسرة.. ما العمل عندما يكون المنطق الصحيح مصاباً بشلل الأطفال، والخطأ الفادح مسلّحاً بألف كيلو من العضلات.؟
وبعد ذلك كلّه يأتي "يوسف تكواع" مندوب تل أبيب في مجلس الأمن، فيلوم العالم لأنه لم يكترث "بالدماء اليهودية، وكأنها أقّل قيمة"!
إن التاريخ حافل بالوقاحات، ولكن ليس إلى هذه الدرجة! إن تكواع هذا هو مندوب دولة قال مسؤولوها مراراً وعلناً وعلى رؤوس الأشهاد إنهم يعتبرون كل إسرائيلي مساوياً لمئة عربي. وهم لم يقولوا ذلك فحسب، بل تصرّفوا وفقه، وآلاتهم الحاسبة لا تزال تشرب دماء قرويي الجنوب، كي توازن القتيل الواحد، أو ذلك الذي أصيب بجروح طفيفة، أثناء بازوكا على مستعمرة كريات شمونة..!
بعد هذه القراءات كلها، وخصوصاً بعد الاطّلاع على "الردود" الفهلوية للحكومة، وبعدما ألقيت نظرة عامّة على الوضع الثقافي عندنا، وجدت أن علينا إعادة الاعتبار لحكاية "المعزاية والذئب وجدول الماء" فالظاهر أن أحداً لم يستوعب هذه الحكاية جيداً..
ومن هنا وحتى تتفّجر على جسمنا عضلات من مستوى الصراع، فإن الأثر الأدبي المتمّثل بحكاية المعزاية والذئب هو ملحمتنا الأدبية الفذّة..
والذي نسمعه الآن من تصريحات المسؤولين العرب هو.. الثغاء..) انتهى نص المقال..
يقول الأستاذ محمد دكروب: (عندما تقرأ هذا المقال تغّص.. تتلامح أمامك صورة غسّان كنفاني نفسه متقدماً باتجاه الموت، كأن غسّان تنبأ، هنا، بأن المخابرات الإسرائيلية سوف تغتاله..)
اغتيل صباح 8 تمّوز 1972، ونشر المقال بعد أسبوع من الاغتيال..
في التمهيد الحزين للمقال الأخير من مقالات (فارس غسّان كنفاني فارس) كتبت مجلّة الصيّاد..
(هذا المقال الذي كتبه غسّان كنفاني قبل أيام من استشهاده، لم يكن مقدّراً له أن يكون باسم فارس فارس.. ولم يكن مقدّراً له أيضاً أن ينشر باسم كاتبه الحقيقي: غسّان كنفاني)
يا فارس فارس "أيها القلم الساخر الجارح الرائي، النادر في سخريته وفي صدقه، الغاضب بوجه مهازل زمانك ومهزلات بعض رجالات قومك.. الكاشف الفاضح للمزوّرين والمزيّفين والمتاجرين بالقضية والناس" أين، الآن، أنت..؟
ـ ـ ـ