ابتسمت ، بسبب سؤالك ، أخت ريمه ، لأني لست من الفقهاء ولا من الأدباء ، كنت أحسب أن الأدب بمختلف مشاربه هواية ، أو سجية متاحة للفقيه وللطبيب والطيار وغيرهم على السواء .
أما قولك : علماء الشريعة ، فلعله يحتاج إلى مراجعة ذلكم أنه ـ كما بينت في معجم معاني حروف وكلمات القرآن :
ولا يتأتى الصدق بوصف دراية أو معرفة الإنسان بالعلم إلا بإحدى ثلاث :
أولا : للإخبار عن المشاهدة بالعين المجردة .
ثانيا : للإخبار عن اتفاق أدوات الكسب والدراية على المعلوم .
ثالثا : للإخبار عن الوحي ومنه الكتاب المنزل .
وأبدأ بالقسم الأول وهو الإخبار عن المشاهدة بالعين كما في قوله : ﴿ فرددناه إلى أمه كي تقرّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ﴾ القصص
ولقد أوحي إلى أم موسى بقوله ﴿ إنا رادوه إليك ﴾ القصص ، وهو وعد من الله ، وكانت تؤمن بأنه وعد حق ، ولكن علمت رأي العين لما ردّ إليها وقرّت عينها به أن وعد الله حق .
وكان الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها يؤمن بأن الله سيحييهم بعد موتهم يوم البعث ، ووقع له العلم حين رآى بعينيه وتبين كيف ينشر الله العظام ثم يكسوها لحما فأقرّ صادقا بأنه قد علم أن الله على كل شيء قدير .
وعلم لوط رأي العين أن قومه لا يشتهون فروج النساء كما هي دلالة قوله ﴿ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ﴾ هود ، يعني أنه قد أبصرهم بعينيه وهم يأتون في ناديهم المنكر لا يستترون به .
ولقد علم كل أناس من بني إسرائيل مشربهم وهم يبصرون بأعينهم تفجر اثنتي عشرة عينا بالماء حين ضرب موسى بعصاه الحجر إثر استسقائه .
ولم يبصر فرعون بعينيه إلـها غيره للمصريين المنكوبين المبتلين به.
وعلم قوم إبراهيم أن آلهتهم جماد لا تنطق ولا تجيب .
ويوم يقع البعث والنشور والحساب ستعلم كل نفس ما قدمت وأخرت من الأعمال في الدنيا .
وأما القسم الثاني وهو الإخبار عن اتفاق أدوات الكسب والدراية على المعلوم فكما في قوله :
ـ ﴿ أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه ﴾ الأعراف
ـ ﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ﴾ النساء
وأدرك فرعون بجميع حواسه ووسائل الكسب والإدراك أن الآيات التسع التي جاء بها موسى لن يقدر على مثلها غير رب السماوات والأرض .
إن قوله ﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ﴾ النحل ، ليعني أن السمع والبصر والذاكرة هي أدوات التعلم بالكسب .
وهكذا نتبين قوله ﴿ وما علّمتم من الجوارح مكلّبين تعلّموهن مما علّمكم الله ﴾ المائدة ، لدلالته على أن الناس تعلّم الجوارح من الطير والكلاب الصيد بالترويض والكسب والتجربة ومن زعم أن الله قد علّم الصيادين بالوحي الخارق المعجز فهو أحمق أخرق ، وإنما الصيادون يعلّمونها مما تعلّموا هم أنفسهم بالكسب والتجربة أي مما علّمهم الله . ومنه قوله ﴿ ولا يأب كاتب أن يكتب كما علّمه الله ﴾ البقرة ، أي كما علم شهادته بالمشاهدة والسماع .
وأما القسم الثالث وهو الإخبار عن الوحي فكما في قوله ﴿ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ﴾ مريم ، من قول إبراهيم .
وكان يعقوب ذا علم كما في قوله ﴿ وإنه لذو علم لما علمناه ﴾ يوسف ، أي صاحبه بالوحي إليه .
وكان الرسل والنبيون هم أولوا العلم أي أصحابه كما في قوله ﴿ شهد الله أنه لا إلـه إلا هو والملائكة وأولوا العلم ﴾ عمران .
ولقد علم الملائكة وهم في الملإ الأعلى والرسل والنبيون بالوحي ما جعل شهادة كل منهم أنه لا إلـه إلا الله أكبر من شهادتنا نحن عامة الناس .
وكان إسحاق غلاما عليما كما في قوله ﴿ قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم ﴾ الحجر ، ومن المثاني معه قوله ﴿ قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم ﴾ الذاريات ، إذ هو نبي .
وكذلك قوله ﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾ فاطر ، يعني الرسل والنبيين كما بينت في كلية الرسالة .
وكان صحابة كل نبيّ أو رسول الذين تعلموا منه هم الذين أوتوا العلم بالتجهيل كما في قوله ﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا ﴾ القتال ، يعني أن المنافقين لم يفقهوا القرآن إذ لم يتجاوز آذانهم بل سألوا عن معانيه ودلالاته الذين أوتوا العلم وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله ﴿ بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ﴾ العنكبوت ، أي أنهم سمعوا القرآن وتجاوز آذانهم واستقر في صدورهم لكن دون مرتبة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم الذي نزّل على قلبه أي علم ما فيه من العلم .
ويقع العلم على الكتاب المنزل من عند الله وعلى بيناته المنزلة كما في قوله ﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ﴾ عمران ، أي أن اليهود لم تختلف إلا من بعد ما جاءهم الرسل ببينات التوراة وهـكذا اختلفوا أكثر لما جاءهم عيسى بالبينات .
ولقد وقع من الخواص تدليس العوام في بيان قوله ﴿ واتقوا الله ويعلّمكم الله ﴾ البقرة ، إذ ليست التقوى شرطا لزيادة العلم وحصوله من غير تعلم وكسب ولو كان كذلك لما كان من فرق بينه وبين قولنا "واتقوا الله يعلمكم الله" بجزم الفعل أي بإسكان الميم في يعلمكم على جواب فعل الأمر اتقوا وعلى نسق المتفق على قراءته في قوله :
ـ ﴿ فاتبعوني يحببكم الله ﴾ عمران
ـ ﴿ ذروني أقتل موسى ﴾ غافر
ـ ﴿ فقل تعالوا ندع ﴾ عمران
ـ ﴿ قل تعالوا أتل ﴾ الأنعام
ـ ﴿ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم ﴾ يوسف
وقد تم جزم الأفعال الواقعة في جواب فعل الأمر الواقع في موضع الشرط .
إن قوله ﴿ واتقوا الله ويعلمُكم الله ﴾ لمتفق على قراءته برفع الفعل ﴿ ويعلمكم ﴾ والمعنى اتقوا الله والله يعلمكم ما تتقونه به من الأحكام والتشريع أي أن الله لم يكلف العباد بتقواه كما يتصوره كل واحد منهم ويتخذه دينا لنفسه وإنما الله يبيّن لهم ما يتقونه به وهو مما يعلمهم إذ نزل من عنده في الكتاب وعليهم تعلمه بالكسب والمدارسة والاستقصاء وكما في قوله ﴿ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتقون ﴾ التوبة .
إن قوله ﴿ واتقوا الله ويعلّمكم الله ﴾ في آخر آية الدّين ، لتعني أن الله قد علّم المسلمين فيها وفي ما قبلها من الأحكام والتكاليف الفردية والجماعية وفي سائر الكتاب ما يتقون ـ بامتثال مأموراته واجتناب منهياته ـ عذابه وعقابه .
ولا يخفى أن قوله ﴿ ولا يأب كاتب أن يكتب كما علّمه الله ﴾ في أول آية الدّين لمن المثاني مع قوله ﴿ ويعلمكم الله ﴾ في آخر آية الدين إذ ما كلّف به الكاتب من الأمانة والنقل وأن يأتي بالشهادة على وجهها هو مما علّمه الله في الكتاب كذلك :
أما الأول ففي قوله ﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ﴾ الإسراء .
وأما الثاني ففي قوله ﴿ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ﴾ المائدة ، وقوله ﴿ كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ﴾ النساء ، وقوله ﴿ كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ﴾ المائدة.
......