طابت أوقاتك بكل خير وطاعة وبركة وأمن وأمان أخانا الحبيب أسعد :
هي لفتة بارعة ضمّنتَها مقالك ، فالأعداء يلاحقوننا في كلّ شيء حتى في المصطلحات ، ذلك أنّ المصطلحات الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم ليست شنشنة لفظية خاوية ،بل وراءها ما وراءها ؛ فهي مصطلحات مُشبَعة بعوامل الاستنهاض النفسي ، ومُفعَمة ببواعث الاستعلاء الإيماني والعزة الإيمانية ، التي ضربها الله تعالى على المؤمنين بقوله في خضمّ القراع والنزال والجراح وإزهاق الأرواح وتناثر الأشلاء في السّاح { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } (آل عمران139 ) وقوله { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكنّ المنافقين لا يعلمون} (المنافقون 8) فالعزة الإيمانيّة والاستعلاء الإيماني المضروب على المؤمنين ليس رهين صولة وجولة مع العدو إنما هو من ثمرات إيمانهم بربّهم ، وعليه : فكل ما يلحق بالمسلمين جرّاء هجمة الظلم والظالمين وما يتمخض عن هجماتهم الهمجية العدوانية من إخراج للمسلمين من ديارهم وأموالهم أعاد القرآن الكريم تأطيره في سياق إيجابي حين نعت هؤلاء المعتدى عليهم بأنهم مهاجرون في سبيل الله تعالى ، فلم ينعتهم بالمشرّدين ولا بالنازحين ولا ... إنما هم (مهاجرون) ففي هذا النعت استنهاض فكري ونفسيّ وسلوكيّ لهم ، في حين تجد النعوتات السلبية الأخرى تفوح منها رائحة الإحباط والتيئيس والإذلال والخذلان ... وكلها معاني لا تستقيم مع مَنْ ألبسهم ربّهم بإيمانهم لبوس العزة ،وسربلهم بصبرهم سرابيل الكرامة !!
هذا وقد تطرّقتُ لأهميّة التمسك بالمصطلحات الشرعية في خضمّ النوازل والظروف العصيبة في مقال نشرته سابقا تحت عنوان ( وآلم كلّ حرّ) فكان أن قلت : (بيد أنه في خضم كلّ صراع ، يطلع علينا فئام من الناس ، تتباين مواقفهم عمّن سبقهم ، فليس لهم في ساحات الوغى بلاء ولا مراس ، إنما يجنحون لتحقيق مآرب سرعان ما تتكشف لكلّ ذي لبّ بلا التباس ، فلهم في الجهاد وأهله وأنصاره أغراض وأعراض ، لا تنمّ إلا عن نفوس عششت في قلوب أصحابها الفتنُ والأمراض ، حسبك أنه إذا ما داهم الأمة خطر ، جَدّوا في إشاعة أجواء الخوَر ، واستشرفت أنفسهم للمخادعة والغرَر ، يبغون بذا الفتنة والضرر ، فهم أهل عمالة وإرجاف. وحالهم هذا مفهوم ، ومن قديم الزمان معلوم ، وقد شخصت غزوة الأحزاب نموذجا يحكي حال هؤلاء الذين فقدوا الرّشد والصواب ، فمّما جاء بحقهم في آي الكتاب : (وإذ قالت طائفةٌ منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا )[ سورة الأحزاب آية 13 ].
ففي قولهم(يا أهل يثرب) انسلاخ من الأصالة ، ومغازلة لأهل الزيغ والضلالة، ودليل كونهم أهل خيانة وعمالة ، وأنهم إذا ما حزبهم أمر استحالوا حثالة، ذلك أن المصطفى صلى الله عليه وسلم نهى عن تسمية المدينة بيثرب ، مبيّنا بلسان عربي مبين ، أن هذا من صنيع المنافقين ، فقال : ( يقولون يثرب وهي المدينة ) [ متفق عليه ].
ذلك أن مُسمّى يثرب من الثرب وهو: الإفساد ، أو من التثريب وهو : التعيير والاستقصاء في اللوم والتوبيخ، ومنه قول يوسف عليه السلام لاخوته(لا تثريب عليكم اليوم)[ سورة يوسف الآية 92 ]. وهذا المعنى لا يليق بدار هجرته ، وموطن نصرته ، ومغرز رايته ، ومنبت دعوته صلى الله عليه وسلم ، والمؤمن الصادق إنما يتشبث بمبادئه ، ويستمسك بثوابته ، ويستعصم بأصالته ، إذا ما حفته المكاره ، ونزلت بساحته الفوازع ، في حين يحيد عنها في مثل هذه الظروف كل منافق مُخادع ، أو مستسلم مُستكنّ مُوادع ، كأولئك المنافقين الذين كان الأوْلى بهم أن يتنادوا للجهاد ، ويتواثبوا على الاستشهاد ، ذوْداً عن العباد والبلاد، فيوصي بعضهم بعضا أن (تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) لكنهم تقاعسوا ، فإذا بهم يصدعون بقولهم (لا مقام لكم فارجعوا)
واعجباه ! فمن أي مراتع الجبن رتعوا ؟!ومن أي مراضع الهون رضعوا ؟! )
وتقبّل تحياتي ومودتي