منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123
النتائج 21 إلى 29 من 29
  1. #21

    الأمير المجاهد ترونوجويو




    بلغ الحقد ذروته في قلوب الصليبيين على الإسلام وأهله ، وعملوا من اجل القضاء على الإسلام فبدءوا باجتياح عام لكل الدول الإسلامية ؛ فقامت الحملات الفرنسية لتغزو مصر وإفريقيا ، وقام هولندا بغزو إندونيسيا وغيرها من دول آسيا ، ولم تهدأ الحروب في الأندلس حتى سقطت في أيدي نصارى إسبانيا ، وفي كل بلد إسلامي كان الله يهيئ لهذه الأمة من يدافع عنها ويلم شمل المسلمين ؛ ليقفوا صفًّا واحدًا تجاه عدوهم ، ومن هؤلاء الأبطال المجاهدين الأمير ترونوجويو .






    جزيرة جاوا ودخول الإسلام : وقبل أن نخوض في سيرة هذا الأمير المجاهد نلقي نظرة سريعة على أهل جاوا في ذلك الوقت، لقد وصل الإسلام إلى جزيرة جاوا وجزر إندونيسيا عن طريق التجار، ودخل أهل هذه الجزر في الإسلام عن قناعة وعن حب ، ومسلمو جاوا صحيحو العقيدة على مذهب أهل السنة والجماعة ، يتبعون الإمام الشافعي في الفقه، في غاية التمسك والاعتزاز بدينهم ، عملوا منذ بداية ظهور عقيدة الأبنجان الضالة على التوحد فيما بينهم ، والتصدي لهذه البدعة الخبيثة ؛ مما أدى لحصرها في دائرة ضيقة جدًّا في متارام لم تستطع الخروج عنها ؛ مما جعل ملوك هذه الإمارة يعملون على فرض هذه العقيدة بالقوة على الناس ، والتعاون مع المحتل الهولندي من أجل تحقيق هذا الهدف الشرير . كان لهذه العقيدة الضالة الأثر الكبير في تحالف هولندا مع حكام منطقة متارام ، والذي أدى بدوره بعد ذلك إلى وقوع الجزر الإندونيسية في الاحتلال ، وكان هدف حكام منطقة متارام هو نشر عقيدتهم الضالة فوجدوا في هولندا تحقيقًا لأهدافهم ، وبدأ هذا التعاون منذ عام 991هـ في عهد سناقي ، ثم بدأ يتطور السلطان أقغ في تعاونه مع هولندا ، وكان هدفه توحيد جاوا تحت سيطرته؛ لينشر العقيدة الضالة التي يدين بها ، وبلغ التعاون ذروته في عهد الطاغية منكورات الأول ، وقد أقدم على نشر عقيدة الأبنجان بين المسلمين ليوافق الهندوس على التوحد معهم ، ولكن علماء المسلمين وقفوا ضد هذه المحاولات الشريرة ؛ فأقدم منكورات على قتل كثير منهم ، وأراد أن يهدم منار الدين ويطفئ شعائره ، وعندها ثار بطلنا العظيم والزعيم الديني لعلماء جاوا (ترونوجويو) وذلك سنة 1083هـ/ 1674م .




    نسبه ومولده : هو الأمير ترونوجويو من إحدى البيوت الحاكمة في (متارام) ، وفي نفس الوقت كان عالمًا من علماء الدين ذا إيمان راسخ وبصيرة نافذة و سلامة قصد ، وقد هاله ما جرى للدين وأهله على يد الطاغية (منكورات الأول) من ترويج للكفر والضلال وتقتيل لعلماء الإسلام ، وغار على الدين أن ينتقص وهو حي ، وما أشبه ذلك بموقف أبى بكر الصديق في حرب مانعي الزكاة ، وهكذا ينبغي أن يكون قلب المؤمن وشعوره تجاه مصاب دينه .





    نشأته و تربيته : نشأ الأمير ترونوجويو بين أسرة مسلمة وأميرًا من الأسرة الحاكمة ، والواضح أنه تربى على يد أحد علماء الدين كعادة الخلفاء المسلمين ولا يخفى على أحد أهمية العالم المسلم في الدولة الإسلامية فهو الروح لها ، فالعالم آق شمس الدين استطاع أن يربي محمد الفاتح حتى تسنى له فتح القسطنطينية ، ولا يخفى على أحد دور العالم عز الدين بن عبد السلام في محاربة الصليبيين والتتار . لقد استطاع هذا العالم الذي تربى لديه ترونوجويو أن يغرس في قلب الأمير حب الدين والغيرة عليه ، ففي القريب يصبح ملكًا وكما يقال الناس على دين ملوكهم ، ولم يضع الله هذه الثمرة فقد أينعت وصارت شجرة وارفة الظلال أصلها ثابت وفرعها في السماء تستمد غذاؤها من كتاب ربها وسنة نبيها .



    جهاده وأهم المعارك ودوره فيها : أعلن الأمير ترونوجويو الجهاد ضد الطاغية الضال منكورات الذي أراد حمل الشعب المسلم على عقيدته فقد كان الموقف متشابهًا بموقف أبي بكر الصديق فقد أراد مسيلمة الكذاب حمل الناس على عقيدته الضالة ووقف له أبو بكر الصديق ، هكذا كان موقف الأمير فقد تصدى لمنكورات بكل قوة ، وما إن تم إعلانه عن الجهاد حتى توافدت إليه كل القبائل تتصدى لهذا الطاغية الضال ، وكان الأمير (جكرا ننقرات الثاني) حاكم منطقة (مدورة) ، وهي إحدى ولايات إقليم متارام ، وهو في نفس الوقت عم الأمير المجاهد (ترونوجويو) ، مواليًا لمنكورات ومقيمًا عنده في متارام بصورة دائمة ، مهملاً لشئون مدورة ؛ مما أحزنه ولكن غلبت العاطفة الدينية على عاطفة القرابة ، فأعلن الجهاد ضد الطغيان ، ومن خلفه وقف جميع أهل جاوا يساندونه ويؤازرونه .أعلن الأمير الجهاد فتوافد عليه المجاهدون من كل نواحي إندونيسيا ليس من جاوا ومدورة وحدها ، بل من سومطرة والملايو، وقد هاجروا من بلدانهم لنصرة الإسلام ، لقد اكتسبت الثورة دعمًا قويًّا عندما انضمت قبيلة (مكاسر) للثورة وهي أكبر قبيلة إندونيسية وأهلها هم من أشجع مسلمي هذه الجزائر وأشدهم تمسكًا بالعقيدة الصحيحة ، وكانت هولندا الصليبية عندما احتلت جزيرة سومطرة قد وجهت كل حربها ضد هذه القبيلة ، حتى أجبروا أهلها على الهجرة من موطنهم الأصلي ، فانتقلت هذه القبيلة إلى جاوا ، وأصبحت عونًا لكل من يقف في وجه المحتل الصليبي ، وقد قام الزعيم الأكبر للقبيلة واسمه (كاريج فاليسون) بنصرة (ترونوجويو) ودعمه ، بل أقنعه أن يخلع عمه (جكرا ننقرات) الموالي للطاغية منكورات ، وبالفعل أصبح الأمير ترونوجويو واليًا على مدورة وأطاعه الناس .بدأ الأمير بتوحيد هذه الجيوش الإسلامية فبعد الإيمان الذي خالط القلوب وتوغل فيها ، بدأ في تفعيل العامل الثاني من عوامل النصر ، هو عامل الوحدة والإخاء .لم يعجب هولندا أمر هذه الثورة التي أُعلنت باسم الإسلام فهذه الثورة تهدم كل ما فعلته هولندا في القرون ، وكانت هذه الثورة معلمًا وإشارة على الوحدة الإسلامية في إندونيسيا ، وجسّمتها في أجمل معانيها (التعاضد و التناصر) . وكانت بدايات الثورة قيام أهل مدورة والتي يحكمها عم الأمير ترونوجويو بخلعه ؛ وذلك لتواطئه مع منكورات الحاكم الطاغية الضال وتولية الأمير ترونوجويو، وقامت قبيلة (مكاسر) بقطع تصدير محصول الأرز للمحتل الهولندي ، الذي كان قد أنشأ له مستعمرة في سومطرة أطلق عليها اسم (بتافيا) ، وهو اسم إحدى القبائل الهولندية ، وهذه المستعمرة قد أصبحت بعد ذلك (جاكرتا) العاصمة .لهذا جهز الهولنديون جيشًا سار مع جيش متارام العميل إلى مدينة (ديموج) مركز قبيلة مكاسر، وكان الأسطول الهولندي في البحر مسايرًا للجيوش البرية مناصرًا لحركاتها وذلك سنة (1085هـ/ 1676م) ، واستعد المكاسريون الذين بايعوا ترونوجويو على الجهاد في سبيل الله ونصرة الإسلام للصدام مع هذا العدوان المزدوج من البر والبحر .وبعد سلسلة معارك حامية وعنيفة بين الطائفة المؤمنة والطائفة الكافرة بفرعيها الأصلي والمنافق ، أنزل الله نصره على المؤمنين وخذل المنافقين والكافرين ، ومزق المسلمون هذه الجيوش البرية والبحرية كل ممزق .بعد ذلك الانتصار الأول الباهر للمؤمنين على الهولنديين والمنافقين من متارام قام زعيم المكاسريين (كاريج فاليسون) بضم جيشه إلى جيش ترونوجويو، وتكونت جبهة واحدة من جيوش أهل السنة والجماعة ضد المحتل الصليبي الهولندي و متارام المساعدة لهم ، والقائمة بخطة نشر عقيدة الأبنجان الضالة بين مسلمي إندونيسيا .بعد الهزيمة الساحقة التي منيت بها القوات الهولندية أرادت هولندا استمالة الأمير ترونوجويو لصالحها فعرضت عليه الإقطاعات والأموال ظنًا منهم أن المجاهد الأمير قام بالثورة من أجل المال والسلطة ، إلا أن هذا الأمير رفض في عزة المؤمن الواثق بالله . لقد ردَّ المجاهد ترونوجويو على هذه المفاوضات بعمل جهادي لكي يلقن الهولنديين درسًا لا ينسوه ، فقام بالزحف إلى مملكة متارام ، وأقبل المجاهدون من كل مكان يناصرون الأمير ، استطاع الأمير دخول مملكة متارام بعد محاولات عدة من جيش منكورات العميل بالتعاون مع هولندا، لكنهم فشلوا واستولى المجاهدون على عدة مدن مثل (دمك) و(سماراج) ، واهتز موقف متارام بشدة .بعد الهزائم التي ألحقها المجاهدون بمنكورات والهولنديين ، عقد منكورات صفقة مع هولندا وتم الاتفاق فيها على بيع جاوا لهولندا مقابل إتيانهم بالأمير ترونوجويو حيًّا، وعلى أن يتكفل منكورات بمصاريف الحملة والتي لا تقل عن 1.7 مليون روبية ؛ وذلك كله من أجل أن يشفي غليل قلبه الأسود المشحون بالكفر والضلال .لقد كبدت تلك الثورة هولندا و منكورات خسائر فادحة ، وأفضل ما في هذه الثورة هي توحيد شمل البلاد والعباد ، واجتماع الناس على الإيمان ، وفي ذلك أبلغ درس لكل المسلمين أن الأرض لن تحرر بعقائد باطلة أو شعارات زائفة ، بل عقيد خالصة وإيمان راسخ في القلب ، وأخوة صادقة يتبعهما استعداد في حد الاستطاعة .




    وفاته : جندت هولندا جنودها وجواسيسها لقتل هذا المجاهد الذي استطاع أن يكبدهم خسائر كثيرة ، لقد خسرت هذه القوى الغاشمة أموالاً كثيرة من أجل أسر الأمير ترونوجويو، وبعد جهود مضنية، وتجنيد الجواسيس المندسين في جيش الأمير، استطاعت هولندا أن تأتي به حيًّا ليقتله الخائن الضال منكورات بيده ، وظن أنه يجزع من الموت . ولكن كيف بقلب غمره الإيمان أن يجزع من الموت ، فلقد واجه الموت بقلب ثابت؛ مما أذهل منكورات وأخذ بلبه ، فلم يمهله بعد قتله للأمير فذهب عقله ، وترك ملكه ، وهام مع الوحوش والحيوانات في البراري ، ومات وحيدًا طريدًا بين الوحوش . وأكرم الله الأمير ترونوجويو بيد منكورات فنال الشهادة ، التي من أجلها أقام الجهاد ليستقر هناك في جنة عرضها السموات والأرض مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا [1] . المصادر : [1] موقع مفكرة الإسلام ، الرابط :
    http://www.islammemo.cc/، بتصرف .
    --

  2. #22



    عبد الله بن ياسين




    نسبه ونشأته :





    هو عبد الله بن ياسين الجزولي أصله من قرية تماماناوت في طرف صحراء غانة الملقب بالزعيم الديني لدولة المرابطين . نشأ الشيخ عبد الله بن ياسين القائم بأمر دولة المرابطين الملقب بالزعيم الديني لدولة المرابطين في طلب العلم ، فقد كان من طلبة أوكاد بن زلوه اللمطي ، في داره ، التي بناها بالسوس للعلم والخير، وسماها دار المرابطين ، ويتضح أن الشيخ عبد الله بن ياسين كان لديه من الصفات القيادية ، والشخصية ، والأخلاقية التي أهلته لأن يبعثه شيخه مع جوهر بن سكن ليعلم قومه ، إذ كان الدين عندهم قليلاً ، وأكثرهم جاهلية، وليس عند أكثرهم غير الشهادتين ، ولا يُعرف من وظائف الإسلام سواهما .



    جهاده وأهم المعارك ودوره فيها : قال الشاعر: بالعلم والمال يبني الناس ملكهم *** لم يبن ملك على جهل وإقلالكان العلماء - وما زالوا - نهضة كل الأمم والدول ، وقد يكون للعالم أثر كبير في تأسيس دولة ، ومن هؤلاء العالم الفقيه عبد الله بن ياسين الذي كان له أثر كبير في تأسيس وبناء دولة المرابطين في المغرب ، وجاهدت النصارى في الأندلس ، وشاع ذكرها بين الناس . بدأ عبد الله بن ياسين رحلته الجهادية بالدعوة إلى الإسلام حتى صار له أنصار وأتباع فبدأ بتوجيههم إلى القبائل لنشر دعوة الإسلام ، ومنهم من أجاب ومنهم من عصى .يقول القاضي عياض : وجه الشيخ أكاد عبد الله بن ياسين مع جوهر بن سكن ، وكان موصوفًا بعلم وخير، فسار معه ، وفهم له سيره ، ولقومه . وأخذ من الشدة في ذات الله تعالى ، وتغيير المناكير و انعزام صاحبه ، من لم يقبل الهدى ، ولم يزل يستقر تلك القبائل حتى علا عليهم ، وأظهروا الإيمان هنالك . بدأ عبد الله بن ياسين دعوته في شرح الإسلام للناس وشرح عقائدهم ، وبيان فضل الإسلام ، واستجاب الناس لدعوة عبد الله بن ياسين إلا أنهم سرعان ما أجهضوها ، وقالوا أما الصلاة والزكاة فقريب ، وأما قولك من قتل يقتل ، ومن سرق يقطع ، ومن زنا يجلد، فلا نلتزمه ، فاذهب إلى غيرنا ، وما كان عبد الله بن ياسين يقبل هذا الأمر الذي يقسم الدين ويؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه فتحول عنهم إلا قبيلة أخرى ، ولم يكن عبد الله بن ياسين متهورًا معهم ليعلن عليهم الحرب بل تحول إلى قبيلة أخرى يدعوا فيها ليوجد له فيه أنصارًا لدعوته ، وظل على ذلك حتى صارت دعوته من الدعوة الفردية القليلة الأنصار إلى جماعة كبيرة بلغ تعدادها في بادئ الأمر ألف رجل فبدأ عبد الله بن ياسين بتوجيه هؤلاء الرجال بالتوجه إلى قبائلهم ودعوتهم للإسلام ، ومن هنا بدأت دعوته في الانتشار .بدأ عبد الله بن ياسين مرحلته الثانية وهي مرحلة الجهاد بالسيف بعد أن جاهد وبلغ بالكلمة ، وتزامنت هذه الدعوة مع بداية ظهور ملامح الدولة . بدأت ملامح الدولة تظهر ؛ فبعد أن نظم ابن ياسين جانب الدعوة وجانب العبادة نلاحظ أنه سرعان ما التفت إلى الجانب الاقتصادي ، حيث أمرهم بالصلاة والزكاة وأداء العشر، واتخذ لذلك بيت مال يجمع فيه ما يرفع إليه من ذلك . كما ركز على الجانب العسكري حيث أخذ في شراء السلاح وإركاب الجيوش التي ألقي على كاهلها حماية خطاب ودعوة المرابطين وتطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد التي سيطروا عليها .وكذلك لم يتجاهل عبد الله بن ياسين الجانب العلمي حيث " بعث بمال دَثْر مما اجتمع لديه من الزكوات والأعشار والأخماس إلى طلبة العلم ببلاد المصامدة ". و تلك عين الحكمة ؛ لأن الوعي شيء ضروري في تقدم الأمم وازدهارها ، فهذا درس عظيم لمن ينفق الأموال في غير حقها .وليُعلم أن المجتمع الذي يغيب فيه العلم ولا يمُوّل ولا تُعطى له قيمة ، هو مجتمع جاهلي منحط، يعتبر من دول العالم الثالث المتخلفة لذلك تجدها تهتم كثيرًا بالفنون الجميلة وتنسى العلوم الجليلة ، التي ساد بها سلفنا فاحتلوا بفضلها - بعد الله - أعلى وأسمى مكانة في تاريخ البشرية ، والكل يعلم أن الحرب اليوم حرب ثقافية علمية .يقول الدكتور حامد خليفة منوهًا بصنيع هذا البطل: " إن هذه الالتفاتة نحو طلبة العلم لهي إحدى روائع ابن ياسين ، حيث لم يشغله عن هذا الجانب مسائل الإمارة الفتية ، ولا المشاركة في الأعمال العسكرية وقيادة الجيوش وإعدادها ، ولهذا كان لها أطيب الأثر في النفوس ، ولاقت الارتياح التام في الأوساط العلمية المتمثلة بالربط والمدارس الفقهية آنذاك " .وبعد أن ظهرت ملامح الدولة فلا بد لها من قيادة تحكمها فأقام الشورى لاختيار قائد يقود هذه الجماعة المرابطة ، ولقد عزموا على اختياره أميرًا إلا أنه رفض فاستقر رأيهم على ولاية أبي بكر بن عمر .وفي سنة خمسين وأربعمائة قحطت بلادهم ، فأمر ابن ياسين ضعفاءهم بالخروج إلى السوس وأخذ الزكاة ، فخرج منهم نحو تسعمائة رجل ، فقدموا سجلماسة ، وطلبوا الزكاة ، فجمعوا لهم شيئًا له قدر وعادوا .وكان عبد الله في ذلك الوقت التي بدأت تظهر فيه هذه الجماعة في صورة دولة يبث فيهم العلم والسنة ، ويقرئهم القرآن ، فنشأ حوله جماعة فقهاء و صلحاء . وكان يعظهم ويخوفهم ، ويذكر سيرة الصحابة وأخلاقهم ، وكثر الدين والخير في أهل الصحراء . ولما قويت شوكتهم خافت منهم القبائل الغير مسلمة فتألبت عليهم أحزاب الصحراء من أهل الشر والفساد ، و جيشوا لحربهم ، فلم ينجزوهم القتال ، بل تلطف عبد الله بن ياسين وأبو بكر واستمالوهم ، وبقي قوم أشرار، فتحيلوا عليهم حتى جمعوا منهم ألفين تحت زرب عظيم وثيق ، وتركوهم فيه أيامًا بغير طعام ، وحصروهم فيه ، ثم أخرجوهم وقد ضعفوا من الجوع وقتلوهم . فدانت لأبي بكر أكثر القبائل وقويت شوكته .واستقامت للمرابطين بلاد الصحراء بجملتها وما وراءها من بلاد المصامدة ، والقبلة ، والسوس ، بعد حروب كثيرة . ثم خرج بالناس لجهاد برغواطة الكفرة . فغزاهم مع أبي بكر بن عمر، في جمع عظيم من المرابطين ، و المصامدة . قيل إنهم كانوا في نحو خمسين ألف راجل ، و راكب .


    أهم المعارك التي شارك فيها : اجتمع لعبد الله بن ياسين جيش كثيف من لمتونة و مسوفة و لمطة و مزجة وصار بهم إلى درعة ، فوجد بها عاملاً لمسعود بن و انودين ، فنفاه عنها، ووجه 50 ألف ناقة لمسعود - وكانت ترعى في حمى حماه لها هناك - فاكتسحها عبد الله بن ياسين . ووصل الخبر إلى مسعود بن وانودين ، فجمع جيوشه وخرج نحوه ، فالتقى الجمعان فيما بين درعة و سجلماسة ، فمنح الله النصر للمرابطين بعد حرب فظيعة بينهما ؛ فقُتل أميرهم مسعود ، وأكثر جيشه ، وفرَّ الباقون ، واستولى عبد بن ياسين على دوابهم ، وأسلحتهم ، وأموالهم ، مع الإبل التي كان اكتسحها في درعة .ومن حسن حظ شعب برغواطة ، وسوء حظ آخر أمرائها - أبو حفص عبد الله - أن ملكه تزامن مع قيام الدولة المرابطية بقيادة أبي بكر بن عمر اللمتوني .


    غزو برغواطة : وصل الخبر إلى عبد الله بن ياسين ما عليه أهل برغواطة من معتقدات فاسدة ؛ فقد كانوا يبيحون التزوج بأكثر من أربع نسوة ، ويتعاملون بالسحر، وحرموا أكل كل رأس ، وأكل الدجاج وغير ذلك مما كانوا عليه ، فرأى أن الواجب تقديم جهادهم على جهاد غيرهم ، فسار إليهم في جيوش المرابطين ، فكانت بين ابن ياسين وأمير بر غواطة ملاحم عظام ، مات فيها من الفريقين خلق كثير، وأصيب عبد الله بن ياسين ، فقضى بذلك نحبه ، فاستشهد رحمه الله تعالى . وبعد وفاته قام أبو بكر بن عمر لقتال برغواطة حتى أخذ الثأر منهم، " فأثخن فيهم قتلاً وسبيًا حتى تفرقوا في المكامن و الغياض ، واستأصل شأفتهم ، وأسلم الباقون إسلامًا جديدًا ، ومحا أبو بكر بن عمر أثر دعوتهم من المغرب ، وجمع غنائمهم وقسمها بين المرابطين ، وعاد إلى مدينة أغمات " .لقد قام المرابطون بخدمة كبرى للأمة بأجمعها ، حيث أنيرت هذه الزاوية المظلمة بمبادئ الحق ، وأصبحت جزءًا من كيان الأمة ، وثغرًا من ثغورها الصامدة ، فضلاً على أنهم مَهَّدوا الطريق لربط أقاليم المغرب فيما بينها بعد إزالة الكيان الغريب في تركيبه وتفكيره ، ومن ثَمَّ تكوين الدولة الواحدة التي تخضع لقيادة واحدة وقانون واحد .


    من كلماته : لعبد الله بن ياسين موقف عظيم سجله التاريخ إلى يومنا هذا ، ويتجلى في الوصية التي قدَّمها لإخوانه المرابطين وهو على فراش الموت ، يقول فيها : " يا معشر المرابطين، إنكم في بلاد أعدائكم ؛ وإني ميت في يومي هذا لا محالة ؛ فإياكم أن تجبنوا أو تنازعوا فتفشلوا فتذهب ريحكم وكونوا ألفة وأعوانًا على الحق ، وإخوانًا في ذات الله تعالى ؛ وإياكم والمخالفة والتحاسد على طلب الرياسة ؛ فإن الله يؤتي ملكه من يشاء من خلقه ويستخلف في أرضه من أحب من عباده ؛ ولقد ذهبت عنكم ؛ فانظروا من تقدمونه منكم يقوم بأمركم ويقود جيوشكم ويغزو عدوكم ، ويقسم بينكم فيئكم ، ويأخذ زكاتكم وأعشاركم " .يقول الدكتور حامد محمد خليفة معلقًا على ذلك : " من خلال هذه الوصية يتبين لنا أن ابن ياسين، كان مخلصًا في كل ما يدعوا إليه إلى حدّ الاستشهاد وبذل الدماء في سبيل مبادئه التي آمن بها ، فلا يشغله عن بذل النصيحة لإخوانه ألم الجراح ولا نزيف الدّماء التي تجري من جسده ولا قعقعة السلاح من حوله ، بل إن حرصه على إتمام رسالته والبذل في سبيلها يشغله حتى عن نفسه .ومن كلماته لما ندب المرابطين إلى جهاد من خالفهم من قبائل صنهاجة وقال لهم : " معشر المرابطين ، إنكم اليوم جمع كثير نحو ألف رجل ! ولن يغلب ألف من قلة ! و أنتم وجوه قبائلكم ورؤساء عشائركم ، وقد أصلحكم الله تعالى ، وهداكم إلى صراطه المستقيم ، فوجب عليكم أن تشكروا نعمته عليكم ، بأن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، وتجاهدوا في الله حق جهاده ! "



    وفاته : تجهزت القبائل لمواجهة عبد الله بن ياسين ومن معه من مجاهدين ، وثبت المسلمون في هذه الحرب ، وقد فرت برغواطة أمامه في جبالهم و غياطهم . و تقدمت العساكر في طلبهم ، وانفرد عبد الله في قلة من أصحابه ، فلقيه منهم جمع كثير، فقاتلهم قتالاً شديدًا . فاستشهد رحمه الله ، وذلك سنة خمسين وأربعمائة (450هـ) ، وليلحق بركب المجاهدين المناضلين ، ويكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين [1] .

    المصادر : [1]: ترتيب المدارك وتقريب المسالك - تاريخ الإسلام للذهبي - الكامل في التاريخ - مواقف المرابطين في دفع بغي السلاطين .

  3. #23

    أحمد بن محمد بن عرفان :


    النسب و المولد :


    ولد السيد أحمد بن محمد عرفان في صفر سنة 1201 هجري الموافق سبتمبر 1786 ميلادي في قرية من قرى " راي بريلي" وتعرف الآن باسم " تكية " .

    النشأة و التربية : نشأ احمد عرفان لأبوين مسلمين والتحق وهو في الرابعة من عمره بالكتاب ليتعلم العلوم الابتدائية ، ولكنه لم يكن يهتم بالتعليم ولكنه نشأ كما يقول الأستاذ محمد عبده ولعاً بالفروسية والألعاب الرياضية منذ صباه ، أما في الجانب التعبدي فقد شغف السيد أحمد عرفان بأمور الناس وبالذكر والنوافل حتى صار من النساك المتعبدين ، ولما شب أجمد عرفان كان والده قد التحق بالرفيق الأعلى فاضطر إلى السفر برفقة جماعة من أقربائه إلى لكهنؤ باحثاً عن عمل ليسد حاجات أهله وبيته ليدفع عنهم الأذى ، وفي رحلته وعند مدينة دلهي والتي يقطنها أبناء العالم ولي الله دلهي التقى بالعالم عبد العزيز الدهلوي فتتلمذ على يديه ، وشغف قلبه بحب الجهاد ونيل الشهادة فالتحق بمعسكر الأمير المجاهد نواب ميرخان ، وخاض معه حروبًا دامية ، ولكن وجده يقنع بالمغانم فتركه وعاد إلى دلهي وهناك قام بنشر السنة والطريقة السلفية ، والتف الناس حوله مربياً لهم ومعلماً حتى استطاع أن ينشيء معسكراً للمجاهدين وبايعه الناس على الجهاد ومنذ هذه اللحظة بدأ بالجهاد ضد الإنكليز والسيخ حتى ارتقى إلى العلا شهيداً .

    جهاده وأهم المعارك ودوره فيها : عملت بريطانيا على احتلال الهند فقامت بإقامة صداقات مع دولة المغول الإسلامية في الهند ، ولم تكن ببريطانيا قوة لمواجهة دولة المغول فبدأت بإقامة علاقات مع الأقليات الغير المسلمة في الهند كالسيخ وغيرهم وعملت على إضعاف الدولة المغولية حتى أسقطت وبذلك بدأت بريطانيا في احتلال الهند ، وظنت بريطانيا إنها لن تواجه أي مقاومة من مسلمي الهند تدافع عن وطنها المسلوب ، لكن خرج لهم المجاهد أحمد عرفان ليقود المسلمين في مواجهات مسلحة ضد الإنجليز حتى اختاره الله شهيداً في جواره . أرادت الحكمة الإلهية أن ينشأ السيد أحمد الشهيد جنديا محاربا في جبهة الإسلام مجاهداً في سبيل الله ، فهيأ الله له وسائل المران على الجندية والفنون العسكرية لأن الجهاد لا يحتاج إلى عواطف القلب فقط بل وحاجته إلى قوة اليد والمعرفة بفنون الحرب لا تقل عن الأولى ... وكان السيد أحمد يشعر بميل شديد نحو الجهاد وحنين غريب إلى الإسهام فيه بأسرع ما يمكن ، وذات مرة نشب صراع بين المسلمين و الهنادك في قرية مجاورة . فقام يستأذن أمه للجهاد والقتال ... فأذنت له بذلك لكنه ما إن وصل إلى تلك القرية حتى انتهت الحرب .بعد أن تلقى السيد أحمد عرفان علوم الدين على يد السيد عبد العزيز الدهلوي ذاك العالم الجليل قفل راجعاً إلى بلدته ووطنه "راي بريلي" وأقام فيه نحواً من عامين ولكن لم يرق له أن يرى المحتل يغتصب أرضه ويأكل من خيراته دون أن يقاومه فغادر بلدته مهاجراً إلى نواب أمير خان ( حاكم ولاية تونك) وقد قامت بينه وبين الانكليز وبعض القبائل معارك ... فأبدى له استعداده للجهاد وتربية الجيش ... فأقام عنده ستّ سنين يدرب الجيش ويشير على الأمير بتدابير الحرب ومصالح القتال ... ثم وقعت بين الإنجليز والأمير مصالحة بالرغم من تحذير السيد احمد . وفي النهاية تم احتلال الولاية وسيطرتهم على الحكم .عاد أحمد عرفان بعد الاتفاقية بين نواب الأمير خان وبين الإنكليز والتي مكنتهم من احتلال ولاية تونك إلى وطنه متجولا في مدن كثيرة ومتفقدا أحوال الناس وأوضاع المسلمين وقد ترك تأثيرا عميقا في كل مدينة أو قرية أقام فيها ... إذ كان إقبال الناس عليه متزايدا ... وكان السيد أحمد ينتهز هذه الفرص لتوجيه الناس إلى الدين وتنفيرهم من البدع و الوثنية .وكانت قصة اضطهاد مسلمي - البنجاب - من طرف - السّيخ - الذين كانوا ينالونهم بالأذى والظلم وهتك الحرمات ... لها أثرها البالغ والمؤرق للسيد أحمد الشهيد ... وحثه على الإعداد للجهاد .. وإثارة همم الناس لنصرة إخوانهم .. وشحنهم بمواعظ البذل و التضحية والفداء ... منتهزا رحلة الحجّ الشهيرة التي قام بها عام 1238 و التي مكّنته من ملاقاة الكثير من المسلمين في طول الهند وعرضها وتجميع الكثير من الأنصار و المجاهدين .وقد تفطن السيد أحمد الشهيد إلى أن الظروف القاسية والأوضاع السيئة التي يعيشها مسلمو الهند ولا سيما مسلمو " بنجاب " لا ينقشع سحابها بدون أن تكون لهم سيطرة مستقلة وكلمة نافذة - أي سلطة ودولة - لقد رأى أن الإسلام في هذه البلاد يعاني ضعفا ويجتاز فترة اضمحلال شديد ولو لم يقم لإسعافه أولو العزة والإيمان من المسلمين لكان للهند آخر عهد بالإسلام ... و علم حقّا أن دواء هذا الداء ليس في الوعظ والإرشاد فحسب و أن مجالس الدرس والتزكية الباطنية لا تغيّر في الوضع شيئا... وإنما كان يعتقد حقّ الاعتقاد ويؤمن أقوى الإيمان بأن الإسلام والمسلمين بحاجة إلى القوة . ولما رأى السّيخ يستعبدون المسلمين ويصبّون عليهم من الظلم والقسوة والعذاب ما يفتت القلوب ويفلق الأكباد عزم على الخروج في سبيل الله دون أن ينتظر الفرصة الأخرى . وقد عيّن البنجاب مركزا للجهاد .و لما استهلت سنة 1241 هجري ودع السيد أحمد الشهيد أهله ووطنه مهاجرا في سبيل الله بجمع حاشد من المجاهدين ... وقام معه الشيخ إسماعيل الدهلوي بجولات في المدن والقرى للدعوة وبيان السنة وكان لها كبير الأثر في جمع المجاهدين ، وعندما أعلن للناس أنه عازم على ذلك، وشاع حديث الجهاد وحدا بالناس حادي الشوق ، وتسابق الآباء والأبناء ، وكانت خطة الشيخ أن يهاجر في منطقة نفود الإنكليز ، ويستعين بالقبائل الأفغانية وأهل البنجاب التي يتمتع أهلها بالأنفة والفروسية ومن هناك يزحف على الهند التي أصبحت مطية للإنكليز .اتجه موكب الجهاد غربًا باتجاه السند ، ثم بلوشستان فأفغانستان وقد لاقوا في الطريق أهوالاً و مشاقـًا تغلبوا عليها بإيمانهم وصبرهم وفي (قندهار) و (كابل) استقبل الشيخ أحمد بحفاوة بالغة ، وتكلم مع أمراء الأفغان وكان هدفه توحيد الصف الإسلامي لمقاومة الإنكليز ثم توجه الشيخ إلى بشاور ثم إلى (نوشهرة) حيث استقر هناك وأسس أول معسكر للمجاهدين عام 1242هـ 1826م ومن هذا المعسكر أرسل الرسائل لزعماء القبائل يدعوهم فيها إلى الالتزام بأحكام الشرع والمساعدة على إقامة فريضة الجهاد وأرسل إلى حاكم بنجاب السيخي (رنجيت سنغ) يدعوهم للإسلام ولكنه قابل هذه الدعوة بسخرية ، وظن أنه شيخ له أطماع دنيوية .استجاب لدعوة الشيخ أحمد كثير من الناس والأمراء وجاءه المتطوعون في الهند وفيهم كبار العلماء ، وفي يوم الخميس 12 جمادي الآخرة سنة 1242 هـ اجتمع العلماء والأمراء ورؤساء القبائل وبايعوا الشيخ أحمد بن عرفان على السمع والطاعة في المعروف واختاروه أميرًا لهم وذاق الناس حلاوة الحكم الإسلامي، فانتشر الأمن وعم الرخاء وساد الإخاء ، فقد نُصب في كل قرية قاضي ومفتي وصاحب حسبة ، وجباة يجمعون الزكاة ، وأزيلت المنكرات والعادات الجاهلية ، وأرسل الأمير السرايا والجيوش للأماكن القريبة ، وانتصر على السيخ في معركة (أكورة) بالقرب من بشاور ، وبث الدعاة للوعظ والإرشاد والدعوة للجهاد .لقد أهم بريطانيا وأقلقها حركة المجاهد الشهير السيد الإمام أحمد بن عرفان الشهيد ، وكيف استطاع إلهاب شعلة الجهاد والفداء ، وبث روح النخوة الإسلامية والحماسة الدينية فى صدور المسلمين ، وكيف التف حوله وحول دعوته آلاف من المسلمين عانت منهم الحكومة الإنجليزية فى الهند مصاعب عظيمة ، وكانوا موضع اهتمامها . حاول الإنكليز وقف هذه الحركة القوية التي أقضت مضاجعهم ، فاستغلوا الحكام التابعين لهم الذين لا هم لهم إلا البقاء في الحكم وذلك لإيقاف هذه الحركة عن طريق الإغراءات بالمال أو الولايات ، وحاول حاكم بنجاب ملاينة الشيخ أحمد فأرسل الهدايا وأطمعه بإمارة مستقلة ولكن هيهات والشيخ إنما يريد إعلاء كلمة الله ، وكانت العقبة الكبرى التي واجهها الشيخ هي أمراء بشاور الذين لا يهمهم إلا بقاؤهم في الحكم وبقاء صلتهم الودية مع ملك البنجاب ، ومع أن معسكر الجهاد انتصر عليهم وفُتحت بشاور، واستبشر الناس خيرًا ، بإقامة شرع الله ، إلا أن زعماء القبائل لا يروق لهم التنازل عن عاداتهم الجاهلية وإقامة العدالة الإسلامية ، وحكام بشاور من أمراء الأفغان يريدون استمرار ظلمهم وعدوانهم ، فدبروا مؤامرة لقتل القضاة والعلماء والدعاة الذين كلفوا بمهماتهم من قبل الشيخ أحمد بن عرفان كما استطاع الإنكليز التلاعب بعقول بعض المشايخ الذين كتبوا بمحاربة السيد أحمد بن عرفان لأنه (وهابي) بزعمهم، وكان جرح عميق قطع كل أمل في هذه المنطقة ، وقرر أمير الجهاد ترك هذه البلاد واتجه بجيشه وإخوانه إلى كشمير، ولم ينس الشيخ في طريقه تذكير وتعليم أهل القرى التي مَرَّ بها . ومن أهم المعارك التي قام بها المعركة التي كانت بين المجاهدين وبين السيخ وكانت في قرية جبلية اسمها (بلاكوت) وكانت معركة فاصلة مع دولة لاهور التي آذت المسلمين كثيرًا ، وكان الشيخ على أتم استعداد لمواجهة السيخ فنظم جيشه ووزع فرق الجهاد واستعد للمعركة، ولم يكن استعداد الشيخ للجهاد ولهذه المعركة يعتمد على السلاح والقوة بقدر ما كان يعتمد على الله لقد سلك طريق النبي في جهاده فبعد أن جهز الجيش ودربه وفي المعركة كما كان يفعل النبي دعا دعاء طويلاً ، وعمل بوصية سيدنا عمر بن الخطاب والتي كان يدعو الناس فيها إلى ترك الذنوب والمعاصي ، فقد طلب الشيخ أحمد من الناس التوبة و الاستغفار ثم لبس ملابس الحرب وفي صباح يوم 24 ذي القعدة 1246هـ صلى السيد أحمد بالناس ثم نزل إلى الميدان ومعه إخوانه يحيطون به والقنابل تنهمر عليهم، وكانت المعركة في بادئ الأمر لصالح المسلمين ، إلا أن الخيانة كانت لها دور كبير في هزيمة الجيش الإسلامي واستشهاد البطل أحمد عرفان فقد جاء رجل ممن كانوا يحرسون الطريق إلى قائد جيش العدو. وأفضى إليه سرّ الطريق بغاية من التفصيل ... وذلك ما دفع في " شير سنغ " ورجاله روحا جديدة وعزما جديدا على شنّ الحرب على المسلمين ... فاعدوا العدة و العتاد .. وهاجموا حراس الطريق واستولوا على الممر وانتشر جيشه في خبايا الجبل وطرقه كالجراد . ورأى المجاهدون المفاجأة المؤلمة واطلع السيد أحمد على " السرّ " فاستعدوا للقتال و الجهاد ... وهم يرون الموت عيانا والشهادة قريبة .استشهد عدد كبير منهم واستشهد السيد أحمد بن عرفان واستشهد الشيخ إسماعيل الدهلوي . وفي (بلاكوت) انطوت صفحة عظيمة من الجهد والجهاد والدعوة إلى السنة وتطبيق الإسلام ، كانت محاولة صادقة جادةلم تكتمل ، رحم الله تلك النفوس الكبيرة التي دفنت في (بلاكوت) لقد مات الشهيدان العبدان ولكن الأثر الذي خلفه الإمامان لم يمت ، كانت دعوة لإحياء الدين والعودة إلى عزة الإيمان وكانت هذه المعركة هي النهاية ليست نهاية الجهاد وإنما كانت نهاية المجاهد العظيم أحمد عرفان الذي أحيا الإسلام في القلوب .



    قالوا عنه : قال عنه العلامة صديق حسن خان (1307هـ) . " كان السيد أحمد الشهيد آية في آيات الله في هداية الخلق ، وقد طهرت مواعظ خلفائه وخطبهم أرض الهند من الشرك والبدع ... "قالوا عن أثر حركته : كان تأثير حركة الإمام أحمد بن عرفان الشهيد عاماً وشاملاً، ظهر في مكافحة الغزو الاستعماري ، ومواجهة الفتن ، ومعالجة التحديات الفكرية ، وتربية الجيل الناشئ .



    من كلماته : علم المستعمر البريطاني في الهند أن للحج آثاراً كبيرة في نفوس المسلمين فعمل على إضعاف هذه الروح لكن الإمام المجاهد أحمد بن محمد عرفان فطن لهذا المكر الخبيث فقام برد عملي وهو دعوة الناس إلى الحج وقد تكفل بنفقات من لا يملك نفقة الحج وقام فيهم خطيباً قائلاً : " إخواني إنكم هجرتم أوطانكم ومنازلكم لتسعدوا بالحج والعمرة ابتغاء رضوان الله فيلزمكم : أن تكونوا إخوة متحابين كأنكم أشقاء ، أبوكم واحد ، وأمكم واحدة ، ويحب أحدكم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه "… " وليشارك كل واحد صاحبه فيما يشتغل به ، ولا يستنكف عن خدمته بل يعتبر ذلك شرفًا وفخرًا " ….." فإذا رأى الناس فيكم هذه الأخلاق حرصوا على صحبتكم ومرافقتكم وقالوا : هؤلاء من طراز خاص ، ونوع فريد ، ففاز هؤلاء القوم وحسن أولئك رفيقًا " . و قال : " إنني لأرجو أن الله يهدي في هذه الرحلة مئات آلاف من الناس ، ويخرج آلاف من الذين غاصوا في مستنقع الشرك والبدع والجهالة إلى أذقانهم وجهلوا شعائر الإسلام جهلاً عميقًا فيعودون بإذن الله موحدين مؤمنين متقين . [1]



    وفاته : ارتقى الشهيد أحمد بن محمد عرفان إلى العلا شهيداً بعد حياة حافلة بالجهاد والنضال والدعوة والتربية في موقعة (بلاكوت) بين المسلمين وبين السيخ وذلك يوم 24 من ذي القعدة 1246 للهجرة - 1831 للميلاد .



    المراجع : تراجم شهداء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث جـ1 عبد القادر عبار بتصرف .موقع المختار الإسلامي مقال بقلم بعنوان حركة أحمد بن عرفان الشهيد للأستاذ محمد عبده بتصرفموقع عماد الإسلام بتصرف .موقع إسلام أون لاين مقال بعنوان رحلة الحجّ العرفانية .. تجربة عملية في الرد على المستشرقين الشَّهيد الدكتور: ليث سعود القيسي الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا .موقع رابطة أدباء الشام مقال للأستاذ مصطفى محمد الطحان بعنوان الزيارة الرابعة للهند . -------------------------------------------------------------------------------- [1] موقع إسلام أون لاين رحلة الحجّ العرفانية .. تجربة عملية في الرد على المستشرقين الشَّهيد الدكتور: ليث سعود القيسي الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا .

    --

  4. #24
    عز الدين القسام - الشيخ المجاهد


    بعد عشرات السنين من استشهاد الشيخ المجاهد عز الدين القسام على أرض فلسطين المباركة نجد أنفسنا نكتشف أن الطرح الصحيح للقضية هو ما طرحه ومارسه عز الدين القسام (الإسلام والكفاح المسلح) ، بل نجد أن تجربة عز الدين القسام " وهو علم الدين - السوري المولد - المكافح ضد الاحتلال الفرنسي في سوريا - الراغب للجهاد ضد احتلال الطليان لليبيا - الرابط بين الكيان الصهيوني والاحتلال الإنجليزي - الذي يحرك الجماهير من خلال الإسلام - المنظم لخلايا الكفاح المسلح ".. نجد أن تلك التجربة تكشف عن فهم كل العوامل الأصيلة والمعاني الصحيحة في القضية الفلسطينية . تري كيف امتلك عز الدين القسام هذه الرؤية الصحيحة ؟ وأين تعلمها ؟ وكيف صاغها فكرًا وممارسة ؟ إنها عبقرية رجل الدين المجاهد ، إنها عبقرية عز الدين القسام .




    عز الدين القسام .. مولده و حياته :
    ولد عز الدين القسام في قرية الأدهمية التابعة لمدينة اللاذقية بسوريا سنة 1882م ، ووالده هو عبد القادر مصطفى القسام من علماء الأزهر الشريف ، ووالدته هي حليمة قصاب من بيت نور الدين حملة العلم الكرام ، تعلم عز الدين القسام في زاوية الإمام الغزالي بالقرية وحفظ القرآن الكريم والقراءة والكتابة ، ثم الفقه ، وسافر سنة 1896م إلى مصر ليدرس بالأزهر الشريف حيث قضى بالأزهر دارسًا لمختلف العلوم الشرعية حوالي عشر سنوات ، ثم عاد إلى سوريا سنة 1906م بعد أن حصل على شهادة الأهلية ، وبعد عودته إلى مسقط رأسه في سوريا اشتغل بالتدريس ، وتولى الخطابة في مسجد المنصوري بالقرية .وعندما اندلعت الحرب في ليبيا سنة 1911م وحاول الإيطاليون احتلالها هبَّ الشيخ المجاهد عز الدين القسام للدعوة للجهاد في ليبيا ؛ إدراكًا منه أن الدفاع عن أي بلد إسلامي واجب شرعي على كل مسلم ، وبالأخص على علماء الدين ، واستجاب له الكثيرون في سوريا فاختار منهم 250 متطوعًا وأعدهم للسفر إلى ليبيا عن طريق الإسكندرية للمشاركة في الجهاد ضد الطليان ، ولكن السلطات في سوريا في ذلك الوقت منعته ومن معه من السفر .وعندما اندلعت الثورة السورية الأولى ضد الاحتلال الفرنسي سنة 1919م ، كان عز الدين القسام في طليعة دعاتها وقادتها والمجاهدين بأنفسهم فيها . وعندما ظهرت الملامح الأولى للغزوة الصهيونية على فلسطين أدرك عز الدين القسام أن تلك الغزوة أخطر وأشد حلقات التآمر الصليبي اليهودي على العالم الإسلامي ، وأن للجهاد في فلسطين الأولوية الأولى على كل القضايا رغم أهميتها جميعًا ، وعبر بذلك عن البادرة الأولى في وعي الأمة بأن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة الإسلامية ، فتوجه سنة 1920م إلى فلسطين مصطحبًا معه مجموعة من الشباب السوري المجاهد ، واتخذ من مدينة حيفا مقرًّا له وبدأ عز الدين القسام من حيفا في العمل على نشر الوعي الجهادي بين جماهير فلسطين ، والتنبيه المبكر على خطورة الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، وقام الرجل بإلقاء الخطب في المساجد أو في المناسبات الاجتماعية كالأفراح أو الاجتماعات أو غيرها . كما أسس المدارس وفصول محو الأمية وتعليم الصغار ، وأسس جمعية الشبان المسلمين في فلسطين ؛ لتكون أداة في المواجهة على مستوي الوعي والتعليم والجهاد ، ثم شكل الشيخ عز الدين القسام تنظيمًا مسلحًا اختار عناصره من الفلاحين والباعة الجائلين والصناع ، وقام هذا التنظيم بالعديد من العمليات الفدائية ضد المستوطنات الصهيونية ، وضد الاحتلال الإنجليزي إلى أن استشهد الرجل في إحدى العمليات ضد القوات الإنجليزية مع اثنين من المجاهدين هما الشيخ يوسف الزيباوي وعطيفة المصري يوم 20 نوفمبر سنة 1935م ، وكان لاستشهاده وكفاحه ودوره في نشر الوعي والثورة أثرٌ مهم في اندلاع الثورة الكبرى في فلسطين سنة 1936م ، واستمر التنظيم الذي شكله القسام يقوم بالعديد من العمليات الفدائية ضد اليهود والإنجليز بعد استشهاد الشيخ عز الدين القسام .



    فلسطين هي القضية المركزية لأمة الإسلام :
    لماذا ترك عز الدين القسام ساحة الجهاد في سوريا ضد الاحتلال الفرنسى ، وقد كان أحد قادة ثورة 1919م وهي الثورة السورية الأولى ، لماذا ترك موقعه الجهادي هنا إلى موقع آخر في فلسطين ؟ ! أليس هذا إدراكًا مبكرًا بأن جوهر الجهاد وأهم مواقعه هو بالتحديد على الساحة الفلسطينية باعتبار أن أخطر وأهم فصول التآمر الصليبي اليهودي هو بالتحديد على أرض فلسطين ، وأن على أرض فلسطين يتحدد مصير الصراع الطويل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ؟ أليس هذا وعيًا مبكرًا بأن القضية الفلسطينية هي القضية الأولى والأهم ، وهي القضية المركزية للأمة الإسلامية ؟ ولذلك فضل الرجل أن يواجه التحدي الصليبي الغربي والتحالف مع اليهود في المكان الصحيح ، وفي الموقع الجوهري للصراع ، وبذلك يكون عز الدين القسام السوري المولد والنشأة قد طرح وحفر بجهاده على أرض فلسطين أهم حقائق هذا العصر ، وهو جوهرية الصراع في فلسطين ، وكون القضية الفلسطينية هي قضية العرب والمسلمين الأولى ، وفضلاً عن هذا المعني المهم فإن جهاد عز الدين القسام على أرض فلسطين يؤكد أهمية الجهاد في كل موقع يتعرض لخطر العدوان ، ولعل هذا درسٌ بليغ لكل المجاهدين الذين تركوا القضية الجوهرية (فلسطين) ، وراحوا يجاهدون في قضايا أقل أهمية .



    الجهاد الإسلامي .. الطريق الصحيح :
    تعلم الجميع - ولكن بعد وقت طويل ضائع - أن عز الدين القسام قد وصل إلى لبِّ المنهج الصحيح للمواجهة ، فالذين تحركوا تحت شعارات مختلفة من وطنية وقومية وماركسية وغيرها قد فشلوا جميعًا في تحريك الجماهير، ووصلوا بالقضية إلى أسوأ حالاتها أو سقطوا جميعًا - إلا من رحم ربك- في مستنقع التفاوض الآسن ، ومنذ اللحظة الأولى وضع عز الدين القسام يده على الطريق الصحيح لتحريك الجماهير (الأيدلوجية الإسلامية) ، وهي الوحيدة القادرة على المواجهة والحشد ؛ لأنها عقيدة الجماهير وبسبب طبيعة التحدي باعتباره صراعًا حضاريًّا بين الإسلام والغرب المتحالف مع اليهود ، صراعًا يمتد في الزمان والمكان في الجغرافيا والتاريخ .. ولقد وعى الشيخ عز الدين القسام ذلك الارتباط بين اليهود الصهاينة باعتبارهم طليعة استعمارية عنصرية تستهدف أمة الإسلام وليس فلسطين وحدها ، وبين الاستعمار الإنجليزي - الوجه الآخر للتآمر الصليبى ، وبالتالي فهم أنه لا طريق لمواجهة هذا التحدي الحضاري إلا بالإسلام وبالكفاح المسلح ؛ لأنه ليست هناك أرضية للالتقاء ، وبالتالي فلا مجال للمفاوضات والحلول الوسط ، ووصل الرجل إلى الأسلوب الصحيح للمواجهة ، أما هؤلاء الذين فقدوا خيار الإسلام أو خيار البندقية ، فما زالت سقطاتهم تتوالى ، وما زالت الكوارث على فلسطين وعلى الأمة تتوالى بسببهم . كان عز الدين القسام يدرك أيضًا أن الجماهير الكادحة هي القادرة على الجهاد والمواجهة ، فتوجَّه الرجل بخطابه إليهم وعاش بينهم وشكل تنظيمه المسلح منهم ، أما الأسر الإقطاعية فقد كان يدرك عدم جدواها وعدم قدرتها على الكفاح المسلح، وهكذا طرح عز الدين القسام الشعار الخطير وهو (المسلمون الكادحون على طريق الكفاح المسلح) . ولم يغفل الشيخ عز الدين القسام الجوانب الأخرى في حركته ، فمارس النضال السياسي كجناح آخر من أجنحة الحركة ، ومارس التعليم ومحو الأمية وألّف لجانًا للدعوة والدعاية ، فبحلول عام 1935م كان عز الدين القسام قد نجح في تشكيل خمس لجان داخل تنظيمه هي (الدعوة والدعاية - التدريب العسكري - التموين - الاستخبارات - العلاقات الخارجية) .هل كان عز الدين القسام يحلم بالانتصار ووقف الهجمة ودحرها ؟ ! بالطبع لا ، ولكنه كان يدرك أن ظروف الأمة وظروف الهجمة لا تسمح إلا بحفر رافد للمنهج الصحيح من خلال الدم ، رافد للوعي والثورة ، رافد للإسلام والجهاد ، يمكنه أن يكون أساسًا للبناء حتى لا تتوه معالم الطريق الصحيح ، فتضيع القضية برمتها .صحيح أن الشيخ عز الدين القسام طلب من مفتي فلسطين في ذلك الوقت أن يعلن الثورة المسلحة في الجنوب في نفس الوقت الذي يعلنها فيه الشيخ عز الدين القسام في الشمال ، ولكن المفتي رفض ، ومع ذلك - أي برغم الرفض الذي يعني بداهة أن إعلان الثورة في الشمال سيفشل حتمًا - استمر الشيخ عز الدين القسام وأعلن الثورة في الشمال رغم إدراكه بفشلها الحتمي ، ولكنه أراد أن يخطَّ ويحفر بدمه رافدًا عميقًا للتوجُّه الصحيح ، ونبعًا أصيلاً ونبراسًا للمستقبل ، واستشهد الرجل مع رفاقه الذين قتلوا أو أسروا ، ولكنه كان بالفعل قد وضع الطريق الصحيح ، وقطع الطريق الخطأ الذي يمكن أن يضيع القضية برمتها وإلى الأبد ، وبعد ستين عامًا نجد أن كتائب عز الدين القسام هي نفسها التي تحمل عبء المواجهة ، وطريق عز الدين القسام هو الطريق الذي اختاره أبناء فلسطين " الإسلام والثورة والكفاح المسلح " في زمن سقط فيه الكثيرون في مستنقع التعايش مع اليهود .كان عز الدين القسام يدرك حقيقة تفاؤل المستقبل رغم يأس المرحلة ، وكان يعرف أن الاستشهاد هو مفجر الوعي ، وأن الحسابات لا ترتبط باللحظة الآنية بل تنظر بعين المستقبل ، كان عز الدين القسام قد انتصر في الحقيقة حين استشهد ، ونجح حين توقفت انتفاضته سنة 1935م .





    المصدر: موقع وكالة الأخبار الإسلامية نبأ .

  5. #25

    علي عزت بيجوفيتش



    النسب و المولد :


    ولد علي عزت بيجوفيتش عام 1344هـ = 1925م في مدينة بوساناكروبا شمال غربي البوسنة في أسرة عريقة في إسلامها . والمعروف أن الإسلام دخل إلى منطقة البلقان على يد العثمانيين بعد معركة " كوسوفا " الشهيرة سنة 792هـ = 1389م بعدما انتصروا على الصرب . ثم دخل الإسلام البوسنة سنة 868هـ = 1463م ، واعتنق البوسنويون الإسلام ، وعُرف مسلموها بالبوشناق ، وظلوا خاضعين للدولة العثمانية حوالي 415 عاما ، وبعد زوال الحكم العثماني تعرض المسلمون فيها لاضطهاد ديني وعرقي متكرر؛ أدى إلى نزوح عدد كبير من السكان إلى تركيا ، ولم يُسمح للمسلمين لعقود طويلة بممارسة حقهم في إدارة شئونهم ، فضلا عن المذابح والانتهاكات الرهيبة التي تعرضوا لها في فترات متعاقبة لمحو إسلامهم وهويتهم .




    النشأة و التربية :
    نشأ علي عزت بيجوفيتش في أسرة عريقة في إسلامها ، وتعّلم في مدارس مدينة سراييفو التي أمضى حياته فيها ، وفيها أكمل تعليمه الثانوي عام 1943 والتحق بجامعتها ، وحصل على الشهادة العليا في القانون عام 1950، ثم نال شهادة الدكتوراه عام 1962، وعلى شهادة عليا في الاقتصاد عام 1964، ويقرأ ويتحدث ويكتب باللغات الأجنبية: الألمانية ، والفرنسية ، والإنكليزية ، مع إلمام جيد بالعربية .وفي عام 1940م كان عمر بيجوفيتش 16 عامًا ، وبالرغم من حداثة سنه ، فقد كان من المشاركين في تأسيس جمعية " الشبان المسلمين " ؛ وهي جماعة دينية وسياسية أسست على غرار جماعة " الإخوان المسلمين " بمصر . وبعد ست سنوات ، قامت الحكومة الشيوعية باعتقاله هو وصديقه نجيب شاكر بيه بسبب مساعدتهما في إصدار جريدة " المجاهد " . و بعد خروجهما من المعتقل ، شَنَّ الشيوعيون حملة أخرى من حملاتهم الضارية ضد " الشبان المسلمين " . ففي عام 1949م ، قدموا أربعة أعضاء من الجماعة إلى المحاكمة التي قضت في النهاية بإعدامهم. هذا بالإضافة إلى اعتقال عدد – غير قليل – من " الشبان المسلمين " بسبب نشاطهم الإسلامي الملحوظ . وفي عام 1983م تَمَّ اعتقال عزت بيجوفيتش مرة أخرى بسبب نشره " دعاية إسلامية "، ثم أطلق سراحه أخيرًا في عام 1988م .




    كفاحه السياسي :
    لم يكن الدكتور علي عزت رئيساً عادياً كسائر رؤساء الجمهوريات الذين تسلموا هذا المنصب في العالم الإسلامي ، بل كان : سياسياً داهية ، ومناضلاً عنيداً ، ومفكراً عميقاً ، وذا نظرة إسلامية بعيدة جعلته يتجاوز حدود البلقان ، إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي ، ليحمل هموم المسلمين حيث كانوا ، ويعمل مع العاملين لنهوض المسلمين ، بعد تخليصهم من أوضار التخلف الذي أطمع الغرب والشرق بهم . كان الفتى علي عزت ذا شخصية متميزة بالجدّ والاجتهاد ، والتأمل في أحوال المسلمين في بلاد البلقان ، وهي أحوال متردية مادياً ومعنوياً ، فالحكم الشيوعي الذي جاء بعد انهيار الحكم الملكي، كان إلحادياً ، شديد الوطأة على الإسلام والمسلمين ، كما كان الحكم الملكي من قبل ، بل كان أشدّ وأقسى وأمرّ ، وقد سمعنا من الشيخ علي يعقوب الذي أنجاه الله من مذابح الملكيين والشيوعيين وهو طفل صغير ، سمعنا منه في استانبول عن بعض المذابح والأهوال التي كان يلقاها مسلمو البلقان على أيدي أولئك المجرمين من الملكيين المتعصبين لنصرانيتهم ، الحاملين أحقادهم التاريخية على الإسلام والمسلمين ، فهؤلاء كانوا يتفقون مع الشيوعيين على حرب المسلمين .فكّر الفتى علي عزت فيما يمكن أن يقوم به من أجل المسلمين ، فهداه تفكيره إلى إنشاء جمعية أسماها (جمعية الشبان المسلمين) ودعا إليها نفراً من زملائه الطلبة ، وكان في السادسة عشرة من عمره ، وكانت الجمعية أشبه بنادٍ مدرسيّ يعمل لجمع الطلبة المسلمين ، وتوعيتهم ، وتثقيفهم ويتحاور فيه الطلبة ، ثم انتقل بالطلبة من الكلام إلى العمل، فقامت بأعمال خيرية ، وثقافية ، وأنشأت قسماً للفتيات المسلمات ، وقدمت خدمات ومساعدات للمحتاجين إبّان الحرب الكونية الثانية ، وسعت إلى بناء الشخصية المسلمة السوية الواعظة التي تفهم زمانها ، وتستقيم طريقة تعايشها مع الوسط الذي تتعامل معه .قرأ علي عزت ما وصل إليه من كتب الإخوان ، وتأثر بأفكارهم ، وتجاربهم ، كما اطلع على تجارب الحركات الإسلامية الأخرى في الهند ، وباكستان ، وإندونيسيا ، وقرأ بعض كتب المودودي و الندوي ، و رئيس وزراء إندونيسيا الأسبق الدكتور محمد ناصر، وتفاعل معها ، وهو ما يزال طالباً يدرس القانون في جامعة سراييفو ، وكان يتحرك في أوساط الطلبة البوشناق في الجامعة ، ويحاورهم ، ويقنعنهم بما اقتنع به من تلك الأفكار التي ألهمته الكثير، ودلّته على الطريق اللاحب الذي يجب أن يسير فيه ، من أجل النهوض بشعبه البوشناق ، وبسائر مسلمي البلقان ، لتخليصهم من أتون الشيوعية الملحدة التي تريد أن تطمس هويتهم ، وتقضي على دينهم الإسلامي الحنيف ، وتجعلهم قطيعاً يعيش على هامش الحياة ، كما تسير سائر القطعان الأخرى التي رزحت تحت وطأة الحكم الشيوعي الدموي .






    في مواجهة النازيين
    اجتاح هتلر بجيشه النازي يوغسلافيا واحتلها في نيسان (أبريل) 1941 وسارع بعض أبناء البلقان المتأثرين بالفكر النازي إلى تأسيس حزب (الأشتاشا) النازي ، وحاول الشبان النازيون التأثير في الطلاب المسلمين ، فتصدّى لهم الطالب علي عزت وزملاؤه في جمعية الشبان المسلمين وأفهموا الطلاب المسلمين أن الفكر النازي معادٍ للإسلام ، وأن الحركة النازية ضدّ المسلمين ، ويحرم على المسلم أن ينتسب إلى الحركة النازية تحت أي ذريعة .واستطاع علي عزت وزملاؤه في الجمعية التأثير في الطلبة، فاستاء النازيون الألمان من الجمعية ، وحاربوها ، ولم يسمحوا لها بالترخيص والعمل الحر . و عندما تحررت يوغسلافيا ، ورحلت عنها الجيوش الألمانية ، واتخذت الشيوعية مذهباً وديناً أواخر عام 1945تصدّى الطالب الشاب علي عزت للشيوعية ، كما كان يتصدّى للنازية ، فاعتقله الشيوعيون مراراً ، وهو طالب في الجامعة .لقد كان الشيوعيون أقسى على المسلمين من النازيين والملكيين ، فقد أغلقوا المساجد ، و مدارس المسلمين وحوّلوها إلى ملاهٍ و متاحف و بارات و حانات و مراقص ، و منعوا اقتناء المصاحف ، و فعلوا الأفاعيل بعلماء المسلمين و بالمتدينين ، قتلاً ، وسجناً ، و تعذيباً ، و مطاردة ..لم يفتّ هذا في عزيمة الشاب ، بل زاده صلابة وتصميماً على الكفاح ، والعمل بأساليب شتى، فاعتقله الشيوعيون أكثر من مرة فما يزيده الاعتقال والتعذيب إلا إيماناً بصحة الطريق الذي يسير فيه ، وتمسكاً به .وكان عهد ( تيتو) صديق عبد الناصر الأثير، من أشدّ العهود قسوة على المحامي علي عزت، حتى هلاكه سنة 1980، فقد كان هذا الديكتاتور الدموي يكره علي عزت ، وعندما زاره عبد الناصر ، سأله عن علي عزت ، فأجابه تيتو : إنه رجل خطير .. أخطر من تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، فهو يطالب ويرى أن تتولى الحركة الإسلامية السلطة في كل بلد تكون لها الأكثرية فيه .و قد حكم عليه بالسجن مدة خمس سنوات مع الأشغال الشاقة عام 1949 وكانت تهمته ، أن له علاقة بجمعية الشبان المسلمين ، مع أن هذه الجمعية ما كانت تتعاطى مع العمل السياسي ، وكانت اهتماماتها مقتصرة على تعليم العلوم الشرعية ، وعلى أعمال الخير . وفي آب/ أغسطس 1983 حكموا عليه في محكمة سراييفو ، مع أحد عشر شاباً من زملائه- بينهم شاعرة مسلمة - حكموا عليهم بالسجن أربعة عشر عاماً ، بتهمة الانحراف نحو الأصولية ، وكان من الواضح أن الحكام الشيوعيين هناك ، رأوا أن فلسفة علي عزت ، وما يدعو إليه ، خطر عظيم على فكرتهم الماركسية الموغلة في الهمجية والتوحش .





    الكفاح الدامي بعد تصدّع الأنظمة الشيوعية في أوربا الشرقية ، وفي الاتحاد السوفيتي عام 1410هـ - 1990م وعدم قدرة تلك الأنظمة المنخورة الفاسدة على كبح جماح الشعوب التي بدأ تململها يظهر على السطوح ، بعد عشرات السنين من القمع والاستبداد ، اضطر الحزب الشيوعي اليوغسلافي إلى السماح بالتعددية السياسية ، فاهتبل الدكتور علي عزت هذه الفرصة ، وبادر إلى تأسيس حزب العمل الديمقراطي ، وشارك في الانتخابات الرئاسية ، وفاز فيها ، وصار رئيساً لجمهورية البوسنة والهرسك ، في جمادى الأولى 1411هـ الموافق لتشرين الثاني/ نوفمبر 1990. وأجرى استفتاء شعبياً على الاستقلال عن الاتحاد اليوغسلافي ، كما استقلت كرواتيا وسلوفينيا ، وصوّت الشعب المسلم على الاستقلال بأكثرية 63% ولكن الغرب الصليبي لم يرض بهذه النتيجة ، فشنّ حملة إعلامية ظالمة ضد مسلمي البوسنة ، الأمر الذي جعل الصرب الهمج ينقضون على البوسنة ، في حرب عرقية دينية دموية ، وحرب إبادة شاملة ، وتطوع آلاف من نصارى أوربا للقتال في صفوف الصرب ، ووقعت الدولة البوسنية الوليدة بين فكي كماشة ، فالصرب من جهة ، والكروات من جهة ثانية ، استطاعوا تمزيقها ، وكادوا يجهزون على شعبها الأعزل الآمن ، بآلة الحرب اليوغسلافية الرهيبة التي كانت في أيدي الصرب المتوحشين .. جرى هذا على مرأى ومسمع من الأوربيين والأمريكان ، وعلى مرأى ومسمع من الأمم المتحدة التي كانت اعترفت بجمهورية البوسنة والهرسك ، بحيث غدت هذه الجمهورية عضواً في هيئة الأمم المتحدة .. لم يتحرك المجتمع الدولي الذي سبق له أن اعترف بهذه الدولة ، ولا تحركت أمريكا ، وتركوا الصرب والكروات ، وعصابات (الشِّتْنك) الصربية الإرهابية ، ومن انضمّ إليها من نصارى أوربا ، يفتكون بالمسلمين ، ويرتكبون المجازر الجماعية التي لم تُكتشف كل مقابرها الجماعية بعد ، ويغتصبون حوالي مئة ألف امرأة وفتاة مسلمة ، وهم (يتفرجون) عليهم ، والمسلمون كالأغنام في الليالي المطيرة ، لا حول لهم ولا طول ، وكان على شعب البوسنة والهرسك ، أن يختار بين الانضمام إلى الكروات أو الصرب ، الخصمين اللدودين اللذين لا يجتمعان إلا على حرب المسلمين ، وكان هذا الاختيار كالاختيار بين سرطان الدم، وسرطان الدماغ - كما قيل- والرئيس الداهية علي عزت - صاحب العين البصيرة ، والفكر العميق ، والنظرة البعيدة ، واليد القصيرة - كان يسعى ويفكر في الطريقة التي تجنّب شعبه ما يمكن من الخسائر ، فكان يتحرك هنا وهناك ، ويعرض مقترحاته وأفكاره ، ويضطر للتراجع أمام التواطؤ الغربي الأمريكي الذي لم يتحرك إلا عندما رأوا الصمود الأسطوري لذلك الشعب المسلم الذي بدت كفّته القتالية ترجح على الصرب الأوباش . من أجل إنقاذ شعبه ، تقدّم الرئيس علي عزت بحلّ وسط إلى قمة رؤساء الجمهورية في شعبان 1411هـ - شباط 1991 يتمثل في إقامة (فيدرالية متناسقة) . كان هذا المشروع كفيلاً بإنقاذ يوغسلافيا من التمزق والانهيار، ومن الحرب الأهلية بين الجمهوريات والأعراق ، لذلك حظي هذا المشروع بدعم الجماعة الأوربية ، ولكن الصرب والكروات وسلوفينيا عارضوا المشروع ، وكانت المحنة الرهيبة التي لن ينساها المسلمون لأولئك الحاقدين على مدى الزمان .. لن ينسوا ثلاث مئة وخمسين ألف شهيد ، وحوالي مئة ألف عرض منتهك .. لن ينسوا المنازل التي هدموها على رؤوس أصحابها ، ولا المساجد التي دمّروها ، ولا الجرائم الكثيرة التي لا تخطر إلا على بال الأبالسة وعتاة المجرمين ، ولن يقبلوا اعتذاراًَ من أوربا وأمريكا .




    قالوا عنه : قال عنه (وود وورث كارلسن) : " إن تحليله للأوضاع الإنسانية مذهل ، وقدرته التحليلية الكاسحة تعطي شعوراً متعاظماً بجمال الإسلام وعالميته " .قال عنه بعض طلبة البوسنة إن الدكتور علي عزت مثقف إسلامي كبير، يصفه العلماء والمفكرون بأنه سيد قطب أوروبا . كان الديكتاتور الدموي تيتو الصديق الأثير لعبد الناصر يكره علي عزت ، وعندما زاره عبد الناصر، سأله عن علي عزت ، فأجابه تيتو: إنه رجل خطير.. أخطر من تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، فهو يطالب ويرى أن تتولى الحركة الإسلامية السلطة في كل بلد تكون لها الأكثرية فيه .






    من أقواله : يقول علي عزت بيجوفيتش : القرآن الكريم يحتاج من المسلمين أن يقرءوه بعناية ، وكل إنسان يجد في القرآن من المعاني بقدر منزلته وإيمانه ، ونحن إذا أخذنا القرآن كاملاً سوف يعطينا الحق كاملاً .


    علي عزت مفكراً ومؤلفاً : الرئيس علي عزت مفكر عميق ، يغوص في الأعماق ، ويأبى أن يعوم فوق السطح ، ومثقف أخذ نفسه وأحاطها بألوان الثقافة العصرية ، كما ثقف العلوم الشرعية ، وقرأ الكتب الفكرية الإسلامية المعاصرة ، وجمع بين أصناف تلك العلوم التي حصلها من مصادرها الأمينة الموثوقة ، غربية وإسلامية ، فكان لنا منه مفكر عميق ، ودارس واع للتيارات الفكرية المعاصرة ، وثقفٌ لقفٌ قرأ فوعى ، وكتب فأوعى ، ولكنه لم يتفرغ للكتابة ، لأن هموم الأمة الإسلامية عامة ، وهموم مسلمي البلقان خاصة ، والمحن والابتلاءات التي مرّوا بها ، والمآسي والكوارث التي نزلت بهم . كان كل هذا يشغل الحيّز الكبير من حياته وحركته وتفكيره ، فقد كان يكافح على عدة محاور، ولو تفرغ للقراءة والكتابة لكان لنا منه مؤلف كبير ، ولزوّدنا بثقافة ثرّة ، ولأغنى المكتبة الإسلامية بمؤلفات قيمة ، ولكن الخير فيما يختاره الله ، ولقد سدّ الرجل ثغرات في المسيرة السياسية والكفاحية لمسلمي البوسنة والهرسك ، ما كان غيره ليقوى على سدّها ، والله أعلم .ومع ذلك ، ألّف الرجل عدّة كتب ، وكتب العديد من الأبحاث ، وقدّم الكثير من المحاضرات ، في ميادين فكرية وسياسية ودعوية . ومن هذه الكتب التي ألفها : 1- هروبي إلى الحرية . كتبه في السجن ، عندما اعتقله الشيوعيون عام 1949 بسبب نشاطه السياسي ، ولانتمائه إلى جمعية الشبان المسلمين ، وحكموا عليه بالسجن مدة خمس سنوات .2- عوائق النهضة الإسلامية .3- الأقليات الإسلامية في الدول الشيوعية .4- البيان الإسلامي . وهو مجموعة مقالات كان نشرها في مجلة (تاكفين) باسم مستعار . و هذه المجلة كانت تصدرها جمعية العلماء في البوسنة ، وكان يقرؤها خمسون ألف مسلم ، وقد جمعها ابنه الأستاذ بكر ، وأصدرها في كتاب بعنوان (البيان الإسلامي) وهو شرح لأساسيات النظام الإسلامي ، وقد أثار نشر هذا الكتاب ضجة كبيرة .5 - الإسلام بين الشرق والغرب . وهذا الكتاب الكبير هو أشبه بموسوعة علمية ، هزّ به أركان العالم الغربي ، فقد خاطب به قادة الفكر هناك ، وكان فيه عالما وفيلسوفا وأديباً وفناناً مسلماً تمثّل كلّ ما أنجزته الحضارة الغربية ، ثم ارتقى بتلك العلوم عندما ربطها بهدي السماء الذي جاء به الإسلام .و قد اتسق منهجه التحليلي في الكتاب في تقصي الحقائق ، مع هدفه الذي عبّر عنه بقوله : " لكي نفهم العالم فهماً صحيحاً ، لا بدّ أن نعرف المصادر الحقيقية للأفكار التي تحكم هذا العالم ، وأن نعرف معانيها " .نال الرئيس المفكر الداعية علي عزت العديد من الجوائز ، ولم يكن يتطلع إليها ، ولا يسعى لنوالها ، بل كانت هي التي تأتيه طوعاً ، فقد عرفه البوسنيون ، والعرب ، والمسلمون ، والمثقفون ، والسياسيون من سائر الأجناس ، وكان عارفو فضله ومقامه في ميادين السياسة ، والفكر، والدعوة هم الذين يرشحونه ، وهم الذين يمنحونه الجائزة تلو الجائزة ، ومن هذه الجوائز : 1- جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1993م . 2- جائزة (مفكر العام) من مؤسسة علي وعثمان حافظ عام 1996. 3- جائزة مولانا جلال الدين الرومي الدولية لخدمة الإسلام في تركيا . 4- جائزة الدفاع عن الديموقراطية الدولية ، من المركز الأمريكي للدفاع عن الديموقراطيات والحريات . 5- جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم (رمضان 1422هـ) ، تقديراً لجهوده في خدمة الإسلام والمسلمين .



    وفاته : لقد لقي ربَّه راضياً مرضياً يوم الأحد، التاسع عشر من تشرين الأول المنصرم ، عن عمر ناهز الثامنة والسبعين . وقد أعلن راديو البوسنة وفاته ، ولم يتمكن مسلمو البوسنة من إعلان الحداد الرسمي عليه ، فقد اعترض على ذلك ممثل الصرب في الرئاسة الجماعية ، لأن الصرب الحاقدين يعدون الرئيس علي عزت عدوّهم اللدود الذي وقف بدهاء وجرأة وذكاء في وجه أطماعهم في ابتلاع البوسنة والهرسك ، من أجل إقامة إمبراطورية صربية طالما حلموا بها .
    --

  6. #26

    الإمام محمد بن عبد الوهاب



    د. راغب السرجاني



    في ظلِّ الجهل المطبق والانغماس في الملذات والملاهي ، والاستعانة بما لا يضرُّ ولا ينفع ، في ظلِّ هذه البيئة الملبَّدة بكل ما هو بعيد عن الدين وُلِدَ محمد بن عبد الوهاب آل مشرف التميمي ؛ ليكون خطًّا فاصلاً وعلامة فارقة بين الجهل والعلم ، والشرك والإيمان .


    الإمام محمد بن عبد الوهاب الميلاد و النشأة :
    محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد[1] ، الذي يعود نسبه إلى آل مشرِّف [2] من قبيلة تميم عريقة النسب والشرف ؛ حيث ينحدرون من مُضَرَ فمن نزار فمن عدنان [3] ، كان جدُّه سليمان بن علي بن مشرف من أشهر العلماء في عصره ومصره ؛ حيث كان من أكابر العلماء في الجزيرة ، وكذلك كان والده عالمًا فقيهًا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وكان من علماء نجد المشهورين ، وقضاتها المعروفين ، فقد تولَّى القضاء في عدَّة جهات ؛ مثل : العيينة و حريملاء [4] ، وكان عمُّه الشيخ إبراهيم بن سليمان من مشاهير العلماء في تلك البلاد [5] . في هذه الأسرة العريقة وُلِدَ محمد في بلدة العيينة شمالي الرياض، في عام (1115هـ =1703م) ، وقد تعلَّم القرآن الكريم وحفظه قبل بلوغه عشر سنين ، وكان يتمتَّع بالذكاء وسرعة الحفظ منذ صغره ؛ فكان رغم حداثة سنِّه كثير المطالعة في كتب التفسير والحديث وكلام العلماء في أصل الإسلام ، فشرح الله صدره لمعرفة التوحيد وتحقيقه ، و معرفة نواقضه المضلَّة ؛ حتى إنَّ أباه كان يتعجَّب من فَهْمِه ويقول : " لقد استفدْتُ من ولدي محمد فوائد من الأحكام " [6] . ولم يكن محمدًا في طفولته كأقرانه ممَّن يُحبُّون اللعب والمرح ، بل كان يقضي معظم وقته في الاطلاع على الكتب وخاصَّة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، ومن قبلهما مؤلَّفات الإمام أحمد بن حنبل ؛ التي كان لها الأثر الكبير في تكوين شخصيَّته العلميَّة الصحيحة [7] .


    رحلة الإمام محمد عبد الوهاب في طلب العلم :
    ارتحل الشيخ محمد بن عبد الوهاب قاصدًا حجَّ بيت الله الحرام ، وبعد أدائه الفريضة اتجه إلى المدينة المنورة ، وفيها وجد ضالَّته ؛ إذ كانت آنذاك مليئة بالعلماء ؛ أمثال الشيخ عبد الله بن إبراهيم آل سيف مصنف كتاب (العذب الفائض في علم الفرائض) ، فأخذ عنه الكثير من العلم ، وأحَبَّه الشيخ عبد الله، وبذل جهدًا كبيرًا في تثقيفه وتعليمه ، فتوثَّقت روابط المحبَّة بينهما، وممَّا يذكره الإمام عن شيخه عبد الله آل سيف قوله : " كنت عنده يومًا ، فقال لي : أتريد أن أريك سلاحًا أعددته للمجمعة [8] . قلتُ : نعم . فأدخلني منزلاً فيه (كتب كثيرة) ، فقال : هذا الذي أعددناه لها " [9] . و لعلَّ هذا الموقف هو ما جعل الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - يتحمَّس لطلب العلم من مناطق أخرى ، فلم يتوانَ في هذا الأمر طيلة حياته . ومن علماء المدينة الذين كان لهم فضل كبير في تعليم الإمام الشيخُ محمد حياة السِّندي؛ فلقد أدرك الرجل ما عليه تلميذه من عقيدة صافية ، وبما تجيش به نفسه من مَقْتِ الأعمال الشائعة في كل مكان مِنَ البِدَع والشرك الأكبر والأصغر، وأنه إنما خرج من نجد للرحلة والاستزادة من العلم الشرعي ؛ الذي يُعِينُه على القيام بالدعوة والجهاد في سبيل الله .ومن المواقف الجليلة التي أثَّرت في محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله - تأثيرًا كبيرًا ، وكانت سببًا مباشرًا لمقاومته لكلِّ مظاهر الشرك والبدع في الجزيرة ، ذلك الموقف المحزن الذي شاهده عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ففي أحد الأيام كان الشيخ واقفًا عند الحجرة النبويَّة فإذا به يرى أناسًا يدعون ويستغيثون بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، حينذاك رآه الشيخ السِّندي فأقبل عليه ، وسأله قائلاً : ما تقول في هؤلاء ؟ قال له الطالب النجيب : {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 139] [10] .فأيقن عندها الشيخ السندي أن تلميذه قد بلغ مرحلة علميَّة متقدِّمة . أراد ابن عبد الوهاب – رحمه الله - أن يستزيد من العلوم ، وأن يتعرَّف على جديدها ، وعلى العلماء الراسخين في العلم في بقية البلدان الإسلامية الأخرى ؛ فقرَّر أن يترك المدينة المنورة ليتَّجه إلى الدراسة في البصرة ، وبالفعل ارتحل إليها ، وحينما حطَّ رحاله فيها قرَّر أن يدرس على أكابر علمائها الراسخين ؛ كالشيخ العلامة محمد المجموعي ، الذي أثَّر في حياته تأثيرًا كبيرًا؛ حيث قرأ الإمام على يديه الكثير من كتب النحو واللغة والحديث . وفي البصرة بدأت مرحلة جديدة في حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله ، إنها مرحلة الجهر بما يؤمن ويعتقد ؛ فلقد رأى في البصرة أمورًا أطمَّ وأعظم مما رآه سابقًا في المدينة المنورة ، فقرَّر من توِّه أن يُحَدِّث الناس عن خطورة البدع والخرافات؛ كإنزال التضرُّع والحاجات بسكان القبور، مستشهدًا بكتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح ، لكن ذلك لم يُجْدِ مع أقوام تربَّوْا وأُشْرِبُوا في قلوبهم البدع والضلالات ؛ ومن ثَمَّ قُوبِلَ الإمام بالتكذيب والوعيد ، ولم يتوقَّف الأمر عند هذا الحدِّ ؛ بل تعرَّض الشيخ للضرب والسبِّ ، حتى أُخْرِجَ من البصرة قسرًا بعدما أمضى بها أربع سنوات كاملة ، ولم يكتفِ أهل البصرة بما فعلوه بالإمام، بل أنزلوا بشيخه المجموعي البلاء والضيم ! فأراد ابن عبد الوهاب أن يستكمل مسيرته العلمية والعملية ، فقصد بلد الزبير[11] ، وقد واجهته الكثير من الصعاب في طريقه إليها ، وبعد عناء الوصول استطاع أن يأخذ منها حاجته ؛ وقد فكَّر جدِّيًّا في التوجُّه ناحية الشام لاستكمال رحلته في طلب العلم ، غير أن نفقته قد أوشكت على النفاد فاضطرَّ إلى الرجوع إلى بلده ، وفي طريق عودته أتى الأحساء ، فنزل بها عند الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الشافعي ، وقرأ عنده بعض الكتب الشرعيَّة ، ثم توجَّه إلى حُريملاء وكان ذلك في عام 1143هـ وكان والده – رحمه الله - قد انتقل إليها منذ عام (1139هـ) ، فلازم أباه ، واشتغل في علم التفسير والحديث ، ثم عكف على كتب الشيخين : شيخ الإسلام ابن تيمية ، والعلامة ابن القيم رحمهما الله ، فزادته تلك الكتب القيِّمة ، علمًا ونورًا وبصيرة ، وكانت المنطلق الذي استمدَّ منها مبادئ دعوته [12] .


    دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في حريملاء :

    بدأت أولى إرهاصات الدعوة في حريملاء ؛ ليتمثَّل محمد بن عبد الوهاب – رحمه الل ه- خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد بدأ أوَّلاً بدعوة عشيرته الأقربين ، ثم دعوة قومه ، فأجلى لهم حقيقة التوحيد الخالص لله عز وجل ؛ إذ لا يُدعى إلاَّ الله وحده لا شريك له ، ولا يُذبح ولا يُنذر إلاَّ له، وأن عقيدتهم في تلك القبور والأحجار والأشجار - من الاستغاثة بها ، وصرف النذور إليها ، واعتقاد النفع والضرِّ منها - ضلالٌ وبهتان .واستمرَّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - يُدافع عن دعوته ، فينشرها بين الناس بالحكمة والموعظة ، متخذًا كتاب الله سبحانه وتعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم منهاجًا ودليلاً ؛ حتى أصبح الأمر مثار نقاش وجدال بينه وبين والده وأخيه سليمان ، الذي اقتنع بحقيقة دعوة أخيه في أواخر حياة الشيخ كما سيأتي بيانه .وكان أهل حريملاء قبيلتين ، أصلهما قبيلة واحدة ، كلٌّ منهما يدعي لنفسه القوة والغلبة والكلمة العليا، ولم يكن لهم رئيس واحد يجمعهم تحت كلمته ، وقد كان في البلد عبيد لإحدى القبيلتين ، كثُر تعدِّيهم وفسقهم، فأراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله - أن يمنعهم من الفساد ، وينفِّذ ما أنزله الله عز وجل في كتابه ، فهمَّ العبيد أن يفتكوا بالشيخ ، ويقتلوه سرًّا بالليل ، فلما تسوَّروا الجدار علم بهم الناس فصاحوا بهم فهربوا [13] . مكث الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في حريملاء تلك السنين يدعو الناس في ثبات وصبر، وقد أنتج فيها كتابه الشهير (التوحيد)[14] ، ثم قرَّر ابن عبد الوهاب – رحمه الله - أن ينتقل إلى العيينة حينما أيقن أن بقاءه في حريملاء لم يَعُدْ يُجدي نفعًا ، وكان ذلك في بدايات عام (1157هـ) [15] .








    محمد بن عبد الوهاب في العيينة :
    انتقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - إلى مسقط رأسه العيينة ؛ حيث كان حاكمها وقتئذٍ عثمان بن حمد بن معمر، وقد تلقَّى ابن معمر الإمام بكل إجلال وإكرام ، ثم ما لبث الشيخ أن شرح له حقيقة دعوته القائمة على دعائم الكتاب والسُّنَّة المطهَّرة ، وأن غايته من هذه الدعوة تعليم الناس أصول دينهم على دعائم التوحيد ، ونبذ الشرك والقضاء على مظاهره، وبشَّرَه بالسداد والتوفيق وزعامة نجد إن نصر كلمة التوحيد وأعلاها . قَبِلَ عثمان بن معمر أن يكون أحد رجالات الدعوة ، وقد تسنَّى للشيخ أن يدعو إلى إفراد العبادة لله دون قيد أو شرط، وضرورة التمسُّك بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، وفي تلك الأثناء تزوج الشيخ الجوهرة بنت عبد الله بن معمر .




    بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابن معمر :
    كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله - يرى أن أحد الأسباب القوية لنجاح الدعوة يكمن في توحُّد بلاد نجد تحت قيادة واحدة ، وكان يعرف جيدًا أنه ليس من السهل نشر الدعوة في البلاد القاصية والدانية في مدة قصيرة إلا بحماية أمير ذي قوة ونفوذ ، فلا يخفى على ذوي العقول والألباب أن القوة المادية لها أهمية عظيمة في نشر الدعوات والأفكار مع القوة المعنوية والحجج والبراهين ؛ لأن أي دعوة إذا لم تكن لديها من القوة ما يحميها ويذود عنها ، سرعان ما تتكالب عليها قوى الشرِّ والطغيان حتى تستأصل خضراءها ؛ ومن ثَمَّ استعان الشيخ بابن معمر الذي أعانه في هذا الجانب .


    هدم قبة زيد بن الخطاب :
    وبدأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله - في أخذ مجموعة من الإجراءات العملية المهمة في سبيل نشر الدعوة ؛ إذ قطع الأشجار التي عظَّمَها الناس ، وما لبث الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - أن هدم قبة زيد بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد كانت مقصدًا للعامة يستشفعون بها، ويلجئون إليها، وقد ذكر ابن بشر قصة الهدم في كتابه (عنوان المجد) فقال : " قال الشيخ لعثمان : دعنا نهدم هذه القبة التي وُضعت على الباطل ، وضلَّ بها الناس عن الهدى .فقال : دونكها فاهدمها .فقال الشيخ : أخاف من أهل الجبيلة أن يوقعوا بنا ، ولا أستطيع أن أهدمها إلا وأنت معي .فساعده عثمان بنحو ستمائة رجل ؛ فلما قربوا منها ظهر عليهم أهل الجبيلة يريدون أن يمنعوهم، فلما رآهم عثمان علم ما همُّوا به فتأهَّب لحربهم، وأمر جموعه أن تتعزل للحرب ؛ فلما رأوا ذلك كفُّوا عن الحرب وخلوا بينهم وبينها. ذُكر لي أن عثمان لما أتاها قال للشيخ : نحن لا نتعرَّضها . فقال : أعطوني الفأس . فهدمها الشيخ بيده حتى ساواها، ثم رجعوا فانتظر تلك الليلة جُهَّال البدو وسفهاؤهم ما يحدث بسبب هدمها ، فأصبح (الشيخ) في أحسن حال " [16] .


    قطع الأشجار وإقامة الحدود :
    كما قطع الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - شجرة قريوة وأبو دجانة و الذيب وذلك بمساعدة عثمان بن معمر، وأقام الحدَّ على امرأة اعترفت بالزنا وَفْقًا لشرع الله تعالى [17] .


    إحياء الصلوات مع الجماعة :
    و أمر ابن عبد الوهاب – رحمه الله - عثمان بن معمر بإحياء الصلوات مع الجماعة وعُيِّنت عقوبات للمتخلِّفين ، وكان الأمراء يأخذون أنواعًا من الضرائب والرسوم فرفعها الشيخ ونفَّذ الزكاة فقط، وفي العيينة بدأ الشيخ يؤلِّف رسائل الدعوة المتسلسلة التي استمرَّت إلى وفاته ، وصار له بعض الأنصار في الدرعية فكان يُرشدهم ويُوَجِّههم من العيينة [18] . تزامن ذلك مع انتشار خبر قطع الأشجار المعظَّمَة ، وهَدْم قبة زيد بن الخطاب رضي الله عنه ، ورجم المرأة الزانية بسرعة كبيرة بين أهالي نجد ، وظنَّ الكثير من أهلها - نتيجة ضعف إيمانهم وسوء عقيدتهم - أن الإمام ومَنْ عاونه في عملية الهدم والقطع لا بُدَّ أن يُصابوا بمكروه جرَّاء فعلتهم هذه ! وانتظر العامة - لجهلهم - ليروا مصير الإمام ، عسى أن يُصيبه مكروه نتيجة هدمه للقباب والأشجار المقدسة ! لكنَّ الله بدَّد أوهامهم ؛ فتسارعوا يُقْبِلُون على الدعوة جماعات وأفرادًا ، وكانوا عونًا للشيخ على نشرها بكل حبٍّ وإخلاص . و قد حرص – رحمه الله - أن يُزيل كل ما كان في البلاد الخاضعة لابن معمر من المشاهد والأوثان والقباب ، وقطع ما كان فيها من الأشجار المقدَّسة .


    مؤامرة لقتل الإمام محمد بن عبد الوهاب :

    ترتَّب على هذه الأحداث المتتابعة أن تنادى رؤساء القبائل والبلدان الكبرى في نجد للوقوف ضدَّ مخاطر الدعوة ، أو بالأحرى مخاطر إقامة شرع الله وحدوده ؛ فهذه الحركة الإصلاحية أخذت – في زعمهم - تهدِّد نفوذهم في مقرِّ دورهم ؛ لأن انتصارها معناه أفول سلطانهم الخاسر، وإفلات زمام الأمور من أيديهم ؛ خاصَّة وأن الدعوة بدأت تؤتي ثمارها في نجد [19] . وكان على رأس الناقمين سليمان بن محمد بن عريعر الحميدي - حاكم الأحساء وبني خالد - الذي أيَّده فريق كبير من الجهلاء وأصحاب المصالح وذوي النفوذ ؛ هؤلاء الذين تحجَّرت عقولهم بعد أن امتلأت بالخرافات والبدع ، فانطلقوا يُقَاومون الدعوة وصاحبها، ويوغرون صدور مشايخ القبائل حقدًا وحسدًا . وما لبث سليمان الحميدي أن بعث إلى عثمان بن معمر كتابًا على عجل جاء فيه : " ... إن المطوِّع الذي عندك ، قد فعل ما فعل ، وقال ما قال ، فإذا وصلك كتابي فاقتله، فإن لم تقتله ، قطعنا خَرَاجَك الذي عندنا في الإحساء " . وقد كان على عثمان بن معمر أن يختار بين دعوة محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - وما تعاهدا عليه، وبين الخراج الذي يُقَدَّر بألف ومائتين دينار ذهبية ، ولم يفكر ابن معمر مليًّا فقد اختار الخراج ومتاع الدنيا مُضَحِّيًا بالدعوة وقائدها ، بل وأرسل إلى الإمام يخبره بكتاب سليمان ، قائلاً : " لا طاقة لنا بحرب سليمان " . وحاول الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - جاهدًا أن يُثني ابن معمر عن قراره هذا قائلاً له : " إن هذا الذي أنا قمتُ به ودعوتُ إليه كلمة لا إله إلا الله ، وأركان الإسلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أنت تمسَّكت به ونصرته فإن الله سبحانه وتعالى يُظهرك على أعدائك ، فلا يزعجك سليمان ولا يفزعك " [20] . فأعرض عنه عثمان ، وأرسل إليه مرَّة ثانية يخبره بأن : " سليمان قد أمرنا بقتلك ، ولا نستطيع مخالفته ، ولا طاقة لنا بحربه ، وليس من الشيم والمروءة أن نقتلك في بلدنا ، فشأنك ونفسك، وخَلِّ بلادنا " [21] . لقد وقع عثمان في فتنة الدنيا ، هذه الفتنة التي حذَّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة ؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم : " وَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ " [22] .بل إن النبي صلى الله عليه و سلم يَخصُّ هذه الأمة بفتنة المال ، فيقول صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ " [23] .من أجل ذاك أُخرج الإمام من العُيينة قسرًا ، فلم يزده هذا الأذى إلا صبرًا وعزيمة ومُضيًّا، وهو يُرَدِّد قوله تعالى : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق : 2- 3] ، فكان يمشي على رجليه مُوَكَّلاً به فارس يمشي من خلفه ؛ لقتله والغدر به، ولم يكن مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - إلاَّ مروحة من خوص في حرِّ الصحراء الملهب ، فهمَّ الفارس بقتل الإمام ، وكان بإيعاز من ابن معمر ، فارتعدتْ يده وكفى الله شرَّه [24] .

    ....

  7. #27
    سلسلة المجاهدون





    عز الدين قلج أرسلان بن مسعود





    النسب و القبيلة





    هو عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق بن دقاق التركماني .





    النشأة و التربية

    نشأ عز الدين قلج أرسلان في دولة السلاجقة ، وكان يعرف بين أقرانه بشدة ذكائه ، وكان يحتل مكانة متميزة بين أمراء دولة السلاجقة ، وقد رباه والده على حسن إدارة البلاد فقد ولاه حاكماً على البلاد المفتوحة في الجنوب الشرقي لآسيا الصغرى ، وذلك ليعرف كيف يسوس البلاد حتى لا تضعف دولته وتنهار إزاء التحديات التي تواجه دولته من الخارج أو الداخل ، وكان والده حريصاً على أن يوليه حاكماً على كل البلاد في حياته ، ونظرا لهذه التنشئة فقد عمل قلج أرسلان الثاني على النهضة ببلاده ثقافياً واقتصادياً لما يعلم أن في ذلك نهضة الأمم .





    جهاده وأهم المعارك ودوره فيها

    لم يذكر المؤرخون شيئاً عن حروب قلج أرسلان إلا أنهم قالوا أنه كان كثير الغزو في بلاد الروم ، أما الدكتور محمد سهيل طقوش فأورد في كتابه - سلاجقة الروم في آسيا الصغرى - حروباً لقلج أرسلان الثاني مع الروم معتمداً على المصادر الأجنبية .
    ورث قلج أرسلان الثاني الدولة عن أبيه وهي محاطة بالأخطار من الداخل والخارج، فقام بإجراء معاهدت للصلح بينه وبين ياغس سيان وشاهنشاه ، ومع بلدوين ملك بيت المقدس ، ومع الأرمن ، وكانت هذه المعاهدات حتى لا يطعن من الخلف أثناء قتاله للبيزنطيين ، إلا أن هذه المفاوضات لم تنجح إلا مع الأرمن لكسب ود عز الدين قلج أرسلان ، ورأى مانويل البيزنطي أن هذا التحالف موجه ضده ، وتحققت مخاوفه من هذا الخطر، خاصة بعد توحد الجبهة الداخلية بين الدانشمنديون والسلاجقة الذين تناسوا الخلافات في هذه المرحلة ، وتوحدوا لمواجهة الخطر البيزنطي ، وكانت بدايات الحرب أن هاجم السلاجقة البيزنطيون وتمكنوا من فتح (سلوقية ، ولارندة) الواقعتين في الجزء الجنوبي الشرقي من آسيا الصغرى ، وتوسع الدانشمنديون في الأقليم الشمالي الشرقي فاستولوا على مدينتي (يونة وبافرا) الواقعتين في إقليم البنطس .

    كانت هذه أولى المعارك بين قلج أرسلان وبين مانويل البيزنطيني، طلب الأخير الصلح لأن مصلحته كانت تقتضي محاربة الأرمن ، وفي ذات الوقت أراد بلدوين الثالث في بيت المقدسمن يسانده في حربه ضد نور الدين محمود فلم يكن أمامه إلا بني جلدته ومن على دينه مانويل فراسله ووافق مانويل واتجه إلى الشام ، واستطاع نور الدين محمود أن يعقد معاهدة مع مانويل البيزنطي ، وكان هذا الصلح رغم قوةنور الدين محمود حتى لا تقع بلاده تحت عدوين هما (بلدوين ، ومانويل) .
    بعد هذا الصلح اتجه مانويل من أنطاكية إلى أرمينية الصغرى ، ورغم سهولة السير في الطريق إلا أنه كان محفوفاً بالمخاطر لأنه يمر عبر الأراضي السلجوقية، ولعل سلوكه في هذا الطريق اعتماداً على الصلح الذي عقده مع قلج أرسلان ، أو اغتر بما حققه من نصر في أرمينية الصغرى، وفي بلاد الشام ، وفي الطريق وعند اقتراب الجيش البيزنطي من مدينة قونية أصاب أهلها الرعب فقد ظنوا أنمانويل يريد حصارهم إلا أنه لم يتعرض لهم متابعاً سيره إلى فيلوميليوم ، وعندما وصل إلى كوتاهية هاجمته جماعات من التركمان ، وفتكت بمؤخرة جيشه، فوصل الجيش إلى القسطنطينة وهو منهك من جراء هذا التصرف ، وجرحت هذه المضايقات كبرياء مانويل فعزم على قتال السلاجقة فجهز حملته عابراً إلى آسيا الصغرى بعد ثلاثة أشهر من عودته وذلك في عام554هـ ، لينتقم من السلاجقة فتوجه أولاً إلى إقليم بيثينيا حيث تقيم القبائل التركمانية التي اعترضت طريق أثناء عودته من الشام ، واجتاز بعد ذلك بحر سيستوس ، واستولى على بعض المدن ، وهاجم الفرق السلجوقية المسلحة في وادية نهر تمبريس ، تحرك قلج أرسلان الثاني بسرعة حتى أصاب من الجيش البيزنطي وكان تحركه سريعاً حتى أن كشافة الجيش البيزنطي عجزت عن تحديد مكانه ، لقد دافع السلاجقة عن بلادهم ووقفوا إزاء الخطر البيزنطي الذي هدد بلادهم ، واضطر مانويل بالانسحاب قافلاً إلى عاصمته خاصة بعد دخول فصل الشتاء ومرض زوجته التي ما لبثت أن توفيت .
    اراد قلج أرسلان إقامة معاهدة بينه وبين مانويل إلا أن الأخير رفض ذلك وبدأ في تجهيز جيش لمحاربة السلاجقة وفي نفس الوقت طمع ياغي سيان في السلاجقة فبدأ بمحاربته واجتاح ملطية ووجد مانويل الفرصة سانحة لغزو السلاجقة بعد اجتياح ياغي سيان ، وأيضاً بدأ نور الدين محمود بمهاجمة السلاجقة ، ونجح الأخير في السيطرة على (بهنسا، ورعبان ، وكيسوم، و مرعش ، وهاجم بعض المدن الأخرى .
    أضحى قلج أرسلان مهدداً من ثلاث جبهات ، وكان مدركاً أنه لا يستطيع المحاربة في الجبهات الثلاث ، فعمل على الصلح مع ياغي سيان ونجح في ذلك ، بعد تنازله للأخير عن البستان والمناطق المحيطة بها في جبال اللكام .
    وتوصل أيضاً إلى صلح مع نور الدين محمود وبذلك استطاع توحيد الجبهة الداخلية ، ليتمكن من جيش مانويل الذي جمع فيه المرتزقة وحشد جيشاً غايته القضاء على السلاجقة ، تحرك مانويل على رأس جيش ضخم فاجتاح وادي المياندر، وتحرك يوجنا كونتوستيفانوس ، في الوقت نفسه ، من قليلقية باتجاه الأناضول فاجتاز الدروب القليلقية ، مما جعل قلج أرسلان يقسم جيشه إلى قسمين لمواجهة الجيوش البيزنطية مما كان له أثراً كبيراً على إضعاف جبهة قلج أرسلان القتالية .
    فاجأ مانويل السلاجقة حين أغار على أراضيهم انطلاقاً من فيلادفيا ، لأن الأخبار التي وصلت إلي إلى قلج أرسلان كانت غير ذلك، فاستطاع أن يمتص غضبه وأعاد تنظيم قواته مما أذهل البيزنطيين ، ودخل في المعركة واتسمت أعماله بالكر والفر، وأجرى مانويل مفاوضات مع الأمراء المسلمين في المنطقة ليحاصر قلج أرسلان ويمنعه من حرية التحرك إلا أنه فشل في ذلك وأحبطت مساعيه بعد أن تفاهم معهم قلج أرسلان ، لقد عانى الجيش الصليبي من هجمات السلاجقة ومن وعورة المسالك الجبلية ، وأصابه التعب ولم يسترد قوته إلى بعد أن وصل إلى منطقة السهول واصطدم بالجيش السلجوقي وهزمه ، وتلقى السلاجقة ضربة ثانية من يوجنا كونتوستيفانوس ، مما جعل قلج أرسلان يطلب الصلح مع مانويل ، وبدأ الصلح بالشروط التي وضعها مانويل ، وأثناء الصلح تعرض يوجنا كونتوستيفانوس لكمين نصبته له قوات السلطان قلج أرسلان ، مما جعل مانويل يشدد في شروطه .
    وكانت هذه المعاهدة لقلج أرسلان حتى يستطيع استرداد قوته من جديد ، وكان من شروط المعاهدة أن يزوره قلج أرسلان مرة في السنة فاستغلها السلطان ليتجسس على الدولة البيزنطية ويعرف مواطن الضعف والقوة ، ولا شك أن هذا الأمر يدل على حنكة سياسية .


    لقد ظن مانويل أنه أخضع السلاجقة لسلطانه إلا أنه كان خضوعاً مؤقتاً ، استغله قلج أرسلان في صراعه مع الدانشمندين .
    لم يرق لنور الدين محمود توسع قلج أرسلان في بلاد الأناضول فتحالف مع الدانشمند ، ومع أمراء الموصل وماردين وحصن زياد وحليفه الأرميني مليح حاكم قليقية ، وتماطل نور الدين محمود في الحرب حتى أراد الحلفاء مهاجمة السلاجقة دون نور الدين محمود،وكان هدف الأخير هو إتمام الوحدة الإسلامية ، ولم يشأ إضعاف دولة السلاجقة ، ودعاه إلى التحالف معه ضد الصليبيين إلا إن قلج أرسلان رفض التحالف مع نور الدين بسبب معاهدته مع البيزنطيين ، إزاء هذا الرفض لم يجد نور الدين مخرجاً من حربه مع قلج أرسلان ، فعسكر الفريقان على نهر بيراموس كل على ضفة واستمر هذا لأمر ستة أشهر دون قتال فبادر قلج أرسلان بمراسلة نور الدين للصلح ، فأجابه إلى الصلح ، وقال له اريد منك أموراً وقواعد مهما تركت فلا أترك منها ثلاثة : أحدها : أن تجدد إسلامك على يد رسولي حتى يحل لي إقرارك على بلاد الإسلام ، فإني لا أعتقد أنك مؤمن - وكان قلج أرسلان يتهم باعتقاد الفلاسفة ؛ والثاني : إذا طلبت عسرك للغزاة تسيره ، فإنك قد ملكت طرفاً كبيراً من بلاد الإسلام وتركت الروم وجهادهم وهادنتهم ، فإما أن تكون تنجدني بعسكرك لأقاتل الفرنج ، وإما أن تجاهد من يجاورك من الروم ونتبذل الجهد في جهادهم .
    والثالث : أن تزوج ابنتك لسيف الدين غازي ولد أخي ، وذكر أموراً غيرها . فلما سمع قلج أرسلان الرسالة قال: ما قصد نور الدين إلا الشناعة علي بالزندقة ، وقد أجبته إلى ما طلب ، وأنا أجدد إسلامي على يد رسوله .

    أراد مانويل بعد فراغه من مشاكله في أروبا أن يتوجه إلى آسيا الصغرى لإخضاعها ومن الواضح أن قلج أرسلان لم ينفذ بنود المعاهدة بينه وبين مانويل ، إلا أن قلج أرسلان قد استفاد من هذه المدة فقد نجح في كسب وقته في تجهيز الجيش وإقامة بعض التحصينات ، الدفاعية في وادي نهر المياندر ونهر هرس لتربط بين مدن المنطقة .
    توترت العلاقة بين السلاجقة و البيزنطين خاصة بعد الصلح بين نور الدين والسلاجقة، وأتيحت فرصة الحرب بين السلاجقة وبين البيزنطين بعد أن لاحت في الأفق بعض العوامل التي تساعد على نشوب الحرب ومن هذه العوامل التجاء كل من شاهنشاه وذا النون إلى القسطنطينة و ترححيب الإمبراطور بهما ، مما أثار مخاوف قلج أرسلان ، وعلى الصعيد الأخر راسل إمبراطور ألمانيا فريدرك بربوسا قلج أرسلان ليحثه على قتال البيزنطيين ، و كان هدفه أن يتحول مانويل عن الاهتمام بمسائل أروبا .
    اندلعت شرارة الحرب عندما طلب مانويل من قلج أرسلان إعادة بلاد شاهنشاة وذا النون إليهما بالإضافة إلى المدن التي كان قد وعد بتسليمها له، وهنا تظهر حنكة هذا الرجل السياسي فعمد إلى خطة ذكية وهو عازم على عدم تنفيذ مطالب الامبراطور، وحتى يُظهر حسن نواياه طلب من مانويل إرسال من يتسلم هذه المدن ، وراسل هو أهلها بأن لا يسلموها لرسول مانويل مما اعتبره مانويل خدعة ومكر من قلج أرسلان ، ففكر جدياً في الحرب واستخدام القوة ، وأراد شاهنشاه أن يستغل الحملة البيزنطية ليسترد أملاكه آتي ضمها قلج أرسلان إلى ملكه ، فحرض الإمبراطور على مهاجمة أماسية، إلا أن مانويل لم يكن لديه استعداد لخوض حرب جانبية فأرسل غابراس إلى المدينة وانضم إليه شاهنشاه مع قواته ، وسار الجيشان بشكل منفصل مما يسر على قلج أرسلان مهمته فقد هاجم جيش شاهنشاه من الخلف واستطاع أن يلحق به الهزائم واضطره إلى الرجوع ، إلا أن غابراس نجح في الوصول إلى أماسية ورحب به أهلها لو لم يدخل المدينة خوفاً من أن يحاصره قلج أرسلان فقرر الانسحاب واستولى قلج أرسلان على المدينة مرة أخرى ، بعد أن فشل في إخضاع قلج أرسلان عمد مانويل إلى تحصين مركز الحدود لإغلاق المداخل إليها إلا أن عمله هذا جاء متأخرأ وبعد أن استولى قلج أرسلان على كل آسيا الصغرى ، أراد قلج أرسلان أن يستفسر عن هذه الأعمال فقد أعدها سوء نية من الامبراطوار، فـلاسل إليه مانويل أنه هو الباديء بالعدوان ، وأنه كان السبب في فشل غابراس في مهمته، ولم يشأ السلطان في قطع العلاقات فأرسل سقيراً يعرض عليه الصلح مرة أخرى إلا أن مانويل يقابل هذا السفير بالرفض لأن السلطان لا يحترم تعهداته، وبات أمر الحرب واضحاً لا يخفى على أحد، فأخذ كل منهما أهبته للحرب القادمة وأراد مانويل أن يضفى على حملته طابع الصليبية ليتعاطف معه النصار ويكبهم في صفه ، وراسل البابا لإرسال نجدات إليه خاصة وأنه استطاع أن يؤلف جيشاً من جنسيات متعددة وسر البابا لهذه الحملة الجديدة على بلاد الإسلام، ولم يكن يعرف البابا أن هذه الحملة ستلقى أشد العذاب بأيدي المؤمنين .
    تقدم مانويل إلا بلاد السلاجقة ولم يكن يعرف هذا المسكين أن الهزيمة تلاحقة ، فقسم جيشه إلى قسمين تولى أحدهما ابن عمه فاتازس ومعهذا النون حاكم سيواس ، وكانت مهمته إعادة بلاد ذا النون إليه ، وضرب هذا الجيش حصاراً مركزاً على إقليم بافلاجونيا ، ولما رأى قائد الحامية أنه لا طاقة له بهذا الجيش عمد إلى خدعة فقد ألقى أصحاب الإقليم تجاه البيزنطيين ما يشككهم في الدانشمندين ، وبخدعتهم بعد أن يأخذوا بلادهم فصدق قائد الفرس هذه الشائعة مما كان له أثراً كبيراً في نفوس الجيش البيزنطي خاصة بعد الشائعة الثانية والتي انطلقت بموت مانويل ، فاضطر فاتازاس لفك الحصار وانصرفوا في غير نظام فتتبعهم أهل المدينة فكبدوهم خسائر فادحة كان من بينها القائد فاتازاس الذي حملت رأسه إلى قلج أرسلان .
    تلقى مانويل هذه الهزيمة بانزعاج شديد وظن أن العاصمة السلجوقية خالية من حامية تحميها وأن الجيش السلجوقي لا زال في الشمال ، فانطلق نحو العاصمة السلجوقية واتخذ ممر تبزيبرتز الضيق ، والذي يقع في نهاية حصن ميريوكيفالون ليكون في مواجهة قونية مباشرة .
    تابع قلج أرسلان تحركاتن هذا الجيش حتى وصل لاإلى الممر الضيق وحشر فيه وحاولوا الخروج منه بسرعة مما أوقعهم في زحام شديد ، وكانت القوات السلجوقية فوق التلال تنتظر هذه اللحظة إلا أن بلدوين هاجمهم واستطاعوا القضاء عليه وعلى جنوده وقتله ثم نزلوا إلى الممر حيث جيش مانويل الذي يقوده بنفسه وهو القسم الثاني من جيشه الذي اقتسمه ودارت الحرب من طرف واحد فلم يعد بمقدور البيزنطيين حمل السيف ، وعملت فيهم سيوف المؤمنين تحصد أرواحهم ، حتى وصلوا إلى موكب مانويل وجده قد هرب بعد تشتيت جيشه ، وكانت حالة الجيش البيزنطي في حالة يرثى لها فقد كان من بين قتيل أو أسير أو جريح، أو مشرد هائم على وجه في الشعاب ، لم يجد مانويل في هذا الوقت إلا الصلح مع قلج أرسلان .
    تعد معركة ميريوكيفالون من المعارك المهمة في التاريخ الإسلامي ، لقد أوهم مانويل الغرب بأن هذه المعركة كانت أقل خسارة من معركة مانزكريت التي حدثت قبل مائة عام ، فقد استطاع أن ينجو بنفسه بينما وقع سلفه في الأسر .
    لقد تحطمت القوة العسكرية البيزنطية والتي استغرق بناؤها أعوام عديدة والواقع أنه لم يتم بناؤها مطلقاً ، وكشفت هذه المعركة عن ضعف القوة البيزنطية من الناحية العسكرية فضاعت هيبتها كحامية للإمارات الصليبية .
    استثمر السلطان هذه المعركة ليدلل على صدق إيمانه بالله عز وجل بعد اتهامه باعتناق مذاهب الفلاسفة والتقاعس عن الجهاد ، وأرسل جزءاً من الغنائم إلى خليفة المسلمين ، ومدحه الشعراء على أنه بطل الإسلام .






    قالوا عنه

    أثنى عليه العلماء ووصفوه بأنه بطل الإسلام فقال عنه الذهبي : كان فيه عدل وحسن سياسة ، وسداد رأي .
    و قال عنه صاحب الوافي بالوفيات : كان ذا سياسة وعدل وهيبة عظيمة وغزوات كثيرة في الروم .





    وفاته

    قسم قلج أرسلان بلاده بين أبنائه حتى يجنبهم الخلافات بعد مماته إلا أن بعض أبنائه قام بالحجر عليه ، وقوي عليه أولاده حتى لم يبق له معهم إلا مجرد الاسم لكونه شاخ ، فأقام عند ولده غياث الدين كيخسرو حتى توفي بقونية سنة 588هـ .

  8. #28
    سلسلة المجاهدون





    السلطان يعقوب بن عبد الحق





    النسب والقبيلة




    هو السلطان المجاهد يعقوب بن عبد الحق أبو يوسف المريني سلطان بلاد المغرب ، وقبيلة مرينة من بين قبائل العرب بالمغرب ويقال لها (حمامة) ، وكان مقامهم بالريف القبلي من إقليم تازة .





    النشأة و المولد

    ولد السلطان يعقوب بن عبد الحق في عام 609هـ، ونشأ ببلاد المغرب في قبيلة مرينة ، من الواضح أنه نشأ على الإسلام ، وكانت نشأته صحيحة وقويمة ، فكما يقول عنه " لسان الخطيب " في الإحاطة أنه كان سليم الصدر، مخفوض الجناح ، وكان ملكًا صالحًا ، فهذه الصفات لا تتأتى إلا من كانت نشأته إسلامية خالصة ، خاصة وقد رفع لواء الجهاد ضد النصارى المتربصين بالإسلام لأخذ الأندلس وتملكها من يد المسلمين ، ولن يتجاوب مع المسلمين في رفع راية الجهاد إلا من تربى ، ونشأ عليه .






    جهاده وأهم المعارك ودوره فيها

    استولى " الفنش " على جميع ما افتتحه المسلمون من معاقل الأندلس و ارتجعها ثم هلك " الفنش " وتولى ابنه ، وفي عهده ارتجع (قرطبة) و(إشبيلية) من أيدي (بني هود) وعلى عهده زحف ملك (أرغون) ، فارتجع شرق (الأندلس) كله (شاطبة) و(دانية) و(بلنسية) و(سرقسطة) ، وسائر الثغور والقواعد الشرقية .
    ولما رأى المسلمون ما حل بهم ملكوا عليهم " محمد الفقيه بن الأحمر"، واستغاث بـ" يعقوب بن عبد الحق " سلطان بـني مرين لنجدته ضد النصارى ، فأجاب صريخه وأجاز عساكر المسلمين من بني مرين وغيرهم إلى الجهاد مع ابنه ، ثم جاء على أثرهم وأمكنه ابن هشام من الجزيرة الخضراء وكان ثائرًا بها ، فتسلمها منه ونزل بها وجعلها ركابًا لجهاده ، وأنزل بها جيش الغزو ، ولقي الجموع النصرانية بوادلك وعليهم " ذنبة " من أقماط " بني أدفونش " وزعمائهم ، فهزمهم " يعقوب بن عبد الحق " وبقيت فتن متصلة، ولم يلقه " يعقوب " وإنما كان يغزو بلادهم، ويكثر فيها العبث إلى أن ألقوه بالسلم ، وخالف على هراندة ملك قشتالة هذا ابنه سانجة ، فوفد هراندة على يعقوب بن عبد الحق صريخًا وقبّل يده ، فقَبِل وفادته وأمده بالمال والجيش ورهن في المال التاج المعروف من ذخائر سلفهم .
    وكان أول ما افتتحه وخلصه من أيدي النصارى مدينة (سلا) ، وفتك في بعض غزواته بملك من النصارى يقال له ذوننه ، ويقال : إنه قتل من جيشه أربعين ألفًا ، وهزمهم أشد هزيمة ، ثم تتابعت غزواته بالأندلس وجوازه للجهاد ، وكان له من بلاد الأندلس رندة والجزيرة الخضراء وطريف وجبل طارق وغير ذلك ، وأعز الله تعالى به الدين بعد تمرد الفرنج المعتدين .





    وفاته

    توفي السلطان " يعقوب بن عبد الحق" في الجزيرة الخضراء من الأندلس، وهو بعسكره للجهاد عند الزوال يوم الثلاثاء الثاني والعشرين لمحرم سنة 685هـ ، وله خمس وسبعون سنة .





    قالوا عنه

    أثنى عليه لسان الخطيب فقال : كان ملكًا صالحًا، سليم الصدر، مخفوض الجناح، شارعًا أبواب الدالة عليه منهم ، أشبه بالشيوخ منه بالملوك ، في إخمال اللفظ، والإغضاء عن الجفوة ، والنداء بالكنية [1] .



    المصادر :

    [1]: البداية والنهاية - المختصر في أخبار البشر
    - الإحاطة في أخبار غرناطة - تاريخ ابن خلدون
    - النفحة النسرينية و اللمحة المرينية .

  9. #29
    سلسلة المجاهدون


    السمح بن مالك الخولاني


    نشأته


    نشأ السمح بن مالك الخولاني بين ثلة من السلف الصالح ، فنهل من أخلاقهم وتربى على أيديهم ، حتى صار علمًا من الأعلام ، وكان من عادة بني أمية إذا أتاهم الخراج لا يضعوه في بيت المال حتى يشهد عليه عشرة من المسلمين أنه ليس غلول ، وأن الجند أخذوا حقهم. ولما وصل خراج ولاية إفريقية واستحلفوا الشهود ، فأقسم ثمانية ولم يشهد اثنان هما إسماعيل بن عبيد الله والسمح بن مالك الخولاني ، فأعجب عمر بن عبد العزيز بنزاهتهما وكان حاضرًا في مجلس سليمان بن عبد الملك، فلما تولى أمر المسلمين استعان بهما في ولاية الأمصار ، فأرسل السمح بن مالك إلى الأندلس .



    جهاده وأهم المعارك ودوره فيها

    لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة استعمل على الأندلس السمح بن مالك الخولاني ، وأمره أن يميز أرضها ويخرج منها ما كان عنوةً ويأخذ منه الخمس، ويكتب إليه بصفة الأندلس ، وكان رأيه إقفال أهلها منها لانقطاعهم عن المسلمين . فقدمها السمح سنة مائة في رمضان ، وفعل ما أمره عمر[1] .
    وما إن استقرت الأوضاع في الأندلس حتى عزم السمح بن مالك على الجهاد فعبأ الجيوش للغزو ونشر دين الله طالبًا الشهادة ، مشتاقًا إلى جنة الرحمن، فاخترقت جيوش السمح جبال ألبرت من الشرق ، وسيطر على عدد من القواعد هناك، واستولى على "سبتمانيا " في جنوبي فرنسا، وأقام بها حكومة إسلامية ، ووزع الأراضي بين الفاتحين والسكان ، وفرض الجزية على النصارى ، وترك لهم حرية الاحتكام إلى شرائعهم ، ثم زحف نحو الغرب ليغزو " أكوتين ".
    وكانت مملكة الفرنج حينما عبر المسلمون إلى غاليا (فرنسا) تفتك بها الخلافات والحروب بين أمرائها ، غير أن الأمير " أدو" دوق أكوتين كان أقوى أمراء الفرنج في غاليا ، وأشدهم بأسًا ، نجح في غمرة الاضطراب الذي ساد المملكة أن يستقل بأكوتين ، ويبسط نفوذه وسلطانه على جميع أنحائها في الجنوب من اللوار إلى البرنية .
    فلما زحف السمح بن مالك إلى الغرب ليغزو أكوتين قاومه البشكنس -سكان هذه المناطق - أشد مقاومة، لكنه نجح في تمزيق صفوفهم ، وقصد إلى تولوشة أو تولوز . وفي أثناء سيره جاءت الأخبار بأن الدوق "أدو" أمير أكوتين جمع جيشًا كبيرًا لرد المسلمين ، وإخراجهم من فرنسا، فآثر السمح بن مالك ملاقاة عدوه - على كثرة عددهم - عن مهاجمة تولوشة ، والتقى الفريقان بالقرب منها ، ونشبت بينهما معركة هائلة في (9 من ذي الحجة 102هـ/ 9 من يونيو 721م) ، سالت فيها الدماء غزيرة ، وكثر القتل بين الفريقين، وأبدى المسلمون - رغم قلتهم - شجاعة خارقة وبسالة وصبرًا .

    وتأرجح النصر بين الفريقين دون أن يحسم لصالح أحد من الفريقين ، حتى سقط "السمح" شهيدًا من على جواده ، فاختلت صفوف المسلمين ، ووقع الاضطراب في الجيش كله ، وعجز قادة الجيش أن يعيدوا النظام إلى الصفوف ، وارتد المسلمون إلى " سبتمانيا "، بعد أن فقدوا زهرة جندهم، وسقط عدد من كبار قادتهم .



    وفاته

    أخذ السمح الخولاني في استكمال الفتوح في جنوب غرب فرنسا ، وفي ذات الوقت أرسل يعلِّم الناس الإسلام ، سواء في فرنسا أو في الأندلس ، إلى أن لقي ربه شهيدًا في معركة تولوز بطرسونة يوم عرفة سنة 102هـ/ 9 من يونية 721م [2] .


    قالوا عنه

    وصفه الحميدي بحسن السيرة والعدل في قسمة الغنائم [3] .


    المراجع :

    [1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3/14.
    [2] المقري التلمساني : نفح الطيب 3/15، ابن عذاري : البيان المغرب 2/26. وذكر الحميدي في جذوة المقتبس أنه استشهد في يوم عرفة سنة 103هـ . 6/ 236، 237.
    [3] المقري التلمساني : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 3/16.

صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123

المواضيع المتشابهه

  1. مكانة المجاهدين فى المسلمين
    بواسطة رضا البطاوى في المنتدى فرسان الإسلام العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-18-2014, 07:49 PM
  2. شيخ المجاهدين : عمر المختار
    بواسطة سامي العبيدي في المنتدى فرسان الأبحاث التاريخية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 03-16-2011, 08:29 PM
  3. حصاد المجاهدين 2007
    بواسطة بنان دركل في المنتدى فرسان المآثر والمنجزات.
    مشاركات: 42
    آخر مشاركة: 09-24-2007, 06:38 AM
  4. جهاد الليزر .. متى يصل إلى المجاهدين؟
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان المآثر والمنجزات.
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 04-14-2007, 05:18 AM
  5. ملف خاص بسجل المجاهدين
    بواسطة بنان دركل في المنتدى فرسان العائلات العربية والتراث.
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 02-01-2007, 07:19 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •