الإمام محمد بن عبد الوهاب



د. راغب السرجاني



في ظلِّ الجهل المطبق والانغماس في الملذات والملاهي ، والاستعانة بما لا يضرُّ ولا ينفع ، في ظلِّ هذه البيئة الملبَّدة بكل ما هو بعيد عن الدين وُلِدَ محمد بن عبد الوهاب آل مشرف التميمي ؛ ليكون خطًّا فاصلاً وعلامة فارقة بين الجهل والعلم ، والشرك والإيمان .


الإمام محمد بن عبد الوهاب الميلاد و النشأة :
محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد[1] ، الذي يعود نسبه إلى آل مشرِّف [2] من قبيلة تميم عريقة النسب والشرف ؛ حيث ينحدرون من مُضَرَ فمن نزار فمن عدنان [3] ، كان جدُّه سليمان بن علي بن مشرف من أشهر العلماء في عصره ومصره ؛ حيث كان من أكابر العلماء في الجزيرة ، وكذلك كان والده عالمًا فقيهًا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وكان من علماء نجد المشهورين ، وقضاتها المعروفين ، فقد تولَّى القضاء في عدَّة جهات ؛ مثل : العيينة و حريملاء [4] ، وكان عمُّه الشيخ إبراهيم بن سليمان من مشاهير العلماء في تلك البلاد [5] . في هذه الأسرة العريقة وُلِدَ محمد في بلدة العيينة شمالي الرياض، في عام (1115هـ =1703م) ، وقد تعلَّم القرآن الكريم وحفظه قبل بلوغه عشر سنين ، وكان يتمتَّع بالذكاء وسرعة الحفظ منذ صغره ؛ فكان رغم حداثة سنِّه كثير المطالعة في كتب التفسير والحديث وكلام العلماء في أصل الإسلام ، فشرح الله صدره لمعرفة التوحيد وتحقيقه ، و معرفة نواقضه المضلَّة ؛ حتى إنَّ أباه كان يتعجَّب من فَهْمِه ويقول : " لقد استفدْتُ من ولدي محمد فوائد من الأحكام " [6] . ولم يكن محمدًا في طفولته كأقرانه ممَّن يُحبُّون اللعب والمرح ، بل كان يقضي معظم وقته في الاطلاع على الكتب وخاصَّة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، ومن قبلهما مؤلَّفات الإمام أحمد بن حنبل ؛ التي كان لها الأثر الكبير في تكوين شخصيَّته العلميَّة الصحيحة [7] .


رحلة الإمام محمد عبد الوهاب في طلب العلم :
ارتحل الشيخ محمد بن عبد الوهاب قاصدًا حجَّ بيت الله الحرام ، وبعد أدائه الفريضة اتجه إلى المدينة المنورة ، وفيها وجد ضالَّته ؛ إذ كانت آنذاك مليئة بالعلماء ؛ أمثال الشيخ عبد الله بن إبراهيم آل سيف مصنف كتاب (العذب الفائض في علم الفرائض) ، فأخذ عنه الكثير من العلم ، وأحَبَّه الشيخ عبد الله، وبذل جهدًا كبيرًا في تثقيفه وتعليمه ، فتوثَّقت روابط المحبَّة بينهما، وممَّا يذكره الإمام عن شيخه عبد الله آل سيف قوله : " كنت عنده يومًا ، فقال لي : أتريد أن أريك سلاحًا أعددته للمجمعة [8] . قلتُ : نعم . فأدخلني منزلاً فيه (كتب كثيرة) ، فقال : هذا الذي أعددناه لها " [9] . و لعلَّ هذا الموقف هو ما جعل الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - يتحمَّس لطلب العلم من مناطق أخرى ، فلم يتوانَ في هذا الأمر طيلة حياته . ومن علماء المدينة الذين كان لهم فضل كبير في تعليم الإمام الشيخُ محمد حياة السِّندي؛ فلقد أدرك الرجل ما عليه تلميذه من عقيدة صافية ، وبما تجيش به نفسه من مَقْتِ الأعمال الشائعة في كل مكان مِنَ البِدَع والشرك الأكبر والأصغر، وأنه إنما خرج من نجد للرحلة والاستزادة من العلم الشرعي ؛ الذي يُعِينُه على القيام بالدعوة والجهاد في سبيل الله .ومن المواقف الجليلة التي أثَّرت في محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله - تأثيرًا كبيرًا ، وكانت سببًا مباشرًا لمقاومته لكلِّ مظاهر الشرك والبدع في الجزيرة ، ذلك الموقف المحزن الذي شاهده عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ففي أحد الأيام كان الشيخ واقفًا عند الحجرة النبويَّة فإذا به يرى أناسًا يدعون ويستغيثون بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، حينذاك رآه الشيخ السِّندي فأقبل عليه ، وسأله قائلاً : ما تقول في هؤلاء ؟ قال له الطالب النجيب : {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 139] [10] .فأيقن عندها الشيخ السندي أن تلميذه قد بلغ مرحلة علميَّة متقدِّمة . أراد ابن عبد الوهاب – رحمه الله - أن يستزيد من العلوم ، وأن يتعرَّف على جديدها ، وعلى العلماء الراسخين في العلم في بقية البلدان الإسلامية الأخرى ؛ فقرَّر أن يترك المدينة المنورة ليتَّجه إلى الدراسة في البصرة ، وبالفعل ارتحل إليها ، وحينما حطَّ رحاله فيها قرَّر أن يدرس على أكابر علمائها الراسخين ؛ كالشيخ العلامة محمد المجموعي ، الذي أثَّر في حياته تأثيرًا كبيرًا؛ حيث قرأ الإمام على يديه الكثير من كتب النحو واللغة والحديث . وفي البصرة بدأت مرحلة جديدة في حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله ، إنها مرحلة الجهر بما يؤمن ويعتقد ؛ فلقد رأى في البصرة أمورًا أطمَّ وأعظم مما رآه سابقًا في المدينة المنورة ، فقرَّر من توِّه أن يُحَدِّث الناس عن خطورة البدع والخرافات؛ كإنزال التضرُّع والحاجات بسكان القبور، مستشهدًا بكتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح ، لكن ذلك لم يُجْدِ مع أقوام تربَّوْا وأُشْرِبُوا في قلوبهم البدع والضلالات ؛ ومن ثَمَّ قُوبِلَ الإمام بالتكذيب والوعيد ، ولم يتوقَّف الأمر عند هذا الحدِّ ؛ بل تعرَّض الشيخ للضرب والسبِّ ، حتى أُخْرِجَ من البصرة قسرًا بعدما أمضى بها أربع سنوات كاملة ، ولم يكتفِ أهل البصرة بما فعلوه بالإمام، بل أنزلوا بشيخه المجموعي البلاء والضيم ! فأراد ابن عبد الوهاب أن يستكمل مسيرته العلمية والعملية ، فقصد بلد الزبير[11] ، وقد واجهته الكثير من الصعاب في طريقه إليها ، وبعد عناء الوصول استطاع أن يأخذ منها حاجته ؛ وقد فكَّر جدِّيًّا في التوجُّه ناحية الشام لاستكمال رحلته في طلب العلم ، غير أن نفقته قد أوشكت على النفاد فاضطرَّ إلى الرجوع إلى بلده ، وفي طريق عودته أتى الأحساء ، فنزل بها عند الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الشافعي ، وقرأ عنده بعض الكتب الشرعيَّة ، ثم توجَّه إلى حُريملاء وكان ذلك في عام 1143هـ وكان والده – رحمه الله - قد انتقل إليها منذ عام (1139هـ) ، فلازم أباه ، واشتغل في علم التفسير والحديث ، ثم عكف على كتب الشيخين : شيخ الإسلام ابن تيمية ، والعلامة ابن القيم رحمهما الله ، فزادته تلك الكتب القيِّمة ، علمًا ونورًا وبصيرة ، وكانت المنطلق الذي استمدَّ منها مبادئ دعوته [12] .


دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في حريملاء :

بدأت أولى إرهاصات الدعوة في حريملاء ؛ ليتمثَّل محمد بن عبد الوهاب – رحمه الل ه- خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد بدأ أوَّلاً بدعوة عشيرته الأقربين ، ثم دعوة قومه ، فأجلى لهم حقيقة التوحيد الخالص لله عز وجل ؛ إذ لا يُدعى إلاَّ الله وحده لا شريك له ، ولا يُذبح ولا يُنذر إلاَّ له، وأن عقيدتهم في تلك القبور والأحجار والأشجار - من الاستغاثة بها ، وصرف النذور إليها ، واعتقاد النفع والضرِّ منها - ضلالٌ وبهتان .واستمرَّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - يُدافع عن دعوته ، فينشرها بين الناس بالحكمة والموعظة ، متخذًا كتاب الله سبحانه وتعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم منهاجًا ودليلاً ؛ حتى أصبح الأمر مثار نقاش وجدال بينه وبين والده وأخيه سليمان ، الذي اقتنع بحقيقة دعوة أخيه في أواخر حياة الشيخ كما سيأتي بيانه .وكان أهل حريملاء قبيلتين ، أصلهما قبيلة واحدة ، كلٌّ منهما يدعي لنفسه القوة والغلبة والكلمة العليا، ولم يكن لهم رئيس واحد يجمعهم تحت كلمته ، وقد كان في البلد عبيد لإحدى القبيلتين ، كثُر تعدِّيهم وفسقهم، فأراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله - أن يمنعهم من الفساد ، وينفِّذ ما أنزله الله عز وجل في كتابه ، فهمَّ العبيد أن يفتكوا بالشيخ ، ويقتلوه سرًّا بالليل ، فلما تسوَّروا الجدار علم بهم الناس فصاحوا بهم فهربوا [13] . مكث الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في حريملاء تلك السنين يدعو الناس في ثبات وصبر، وقد أنتج فيها كتابه الشهير (التوحيد)[14] ، ثم قرَّر ابن عبد الوهاب – رحمه الله - أن ينتقل إلى العيينة حينما أيقن أن بقاءه في حريملاء لم يَعُدْ يُجدي نفعًا ، وكان ذلك في بدايات عام (1157هـ) [15] .








محمد بن عبد الوهاب في العيينة :
انتقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - إلى مسقط رأسه العيينة ؛ حيث كان حاكمها وقتئذٍ عثمان بن حمد بن معمر، وقد تلقَّى ابن معمر الإمام بكل إجلال وإكرام ، ثم ما لبث الشيخ أن شرح له حقيقة دعوته القائمة على دعائم الكتاب والسُّنَّة المطهَّرة ، وأن غايته من هذه الدعوة تعليم الناس أصول دينهم على دعائم التوحيد ، ونبذ الشرك والقضاء على مظاهره، وبشَّرَه بالسداد والتوفيق وزعامة نجد إن نصر كلمة التوحيد وأعلاها . قَبِلَ عثمان بن معمر أن يكون أحد رجالات الدعوة ، وقد تسنَّى للشيخ أن يدعو إلى إفراد العبادة لله دون قيد أو شرط، وضرورة التمسُّك بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، وفي تلك الأثناء تزوج الشيخ الجوهرة بنت عبد الله بن معمر .




بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابن معمر :
كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله - يرى أن أحد الأسباب القوية لنجاح الدعوة يكمن في توحُّد بلاد نجد تحت قيادة واحدة ، وكان يعرف جيدًا أنه ليس من السهل نشر الدعوة في البلاد القاصية والدانية في مدة قصيرة إلا بحماية أمير ذي قوة ونفوذ ، فلا يخفى على ذوي العقول والألباب أن القوة المادية لها أهمية عظيمة في نشر الدعوات والأفكار مع القوة المعنوية والحجج والبراهين ؛ لأن أي دعوة إذا لم تكن لديها من القوة ما يحميها ويذود عنها ، سرعان ما تتكالب عليها قوى الشرِّ والطغيان حتى تستأصل خضراءها ؛ ومن ثَمَّ استعان الشيخ بابن معمر الذي أعانه في هذا الجانب .


هدم قبة زيد بن الخطاب :
وبدأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله - في أخذ مجموعة من الإجراءات العملية المهمة في سبيل نشر الدعوة ؛ إذ قطع الأشجار التي عظَّمَها الناس ، وما لبث الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - أن هدم قبة زيد بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد كانت مقصدًا للعامة يستشفعون بها، ويلجئون إليها، وقد ذكر ابن بشر قصة الهدم في كتابه (عنوان المجد) فقال : " قال الشيخ لعثمان : دعنا نهدم هذه القبة التي وُضعت على الباطل ، وضلَّ بها الناس عن الهدى .فقال : دونكها فاهدمها .فقال الشيخ : أخاف من أهل الجبيلة أن يوقعوا بنا ، ولا أستطيع أن أهدمها إلا وأنت معي .فساعده عثمان بنحو ستمائة رجل ؛ فلما قربوا منها ظهر عليهم أهل الجبيلة يريدون أن يمنعوهم، فلما رآهم عثمان علم ما همُّوا به فتأهَّب لحربهم، وأمر جموعه أن تتعزل للحرب ؛ فلما رأوا ذلك كفُّوا عن الحرب وخلوا بينهم وبينها. ذُكر لي أن عثمان لما أتاها قال للشيخ : نحن لا نتعرَّضها . فقال : أعطوني الفأس . فهدمها الشيخ بيده حتى ساواها، ثم رجعوا فانتظر تلك الليلة جُهَّال البدو وسفهاؤهم ما يحدث بسبب هدمها ، فأصبح (الشيخ) في أحسن حال " [16] .


قطع الأشجار وإقامة الحدود :
كما قطع الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - شجرة قريوة وأبو دجانة و الذيب وذلك بمساعدة عثمان بن معمر، وأقام الحدَّ على امرأة اعترفت بالزنا وَفْقًا لشرع الله تعالى [17] .


إحياء الصلوات مع الجماعة :
و أمر ابن عبد الوهاب – رحمه الله - عثمان بن معمر بإحياء الصلوات مع الجماعة وعُيِّنت عقوبات للمتخلِّفين ، وكان الأمراء يأخذون أنواعًا من الضرائب والرسوم فرفعها الشيخ ونفَّذ الزكاة فقط، وفي العيينة بدأ الشيخ يؤلِّف رسائل الدعوة المتسلسلة التي استمرَّت إلى وفاته ، وصار له بعض الأنصار في الدرعية فكان يُرشدهم ويُوَجِّههم من العيينة [18] . تزامن ذلك مع انتشار خبر قطع الأشجار المعظَّمَة ، وهَدْم قبة زيد بن الخطاب رضي الله عنه ، ورجم المرأة الزانية بسرعة كبيرة بين أهالي نجد ، وظنَّ الكثير من أهلها - نتيجة ضعف إيمانهم وسوء عقيدتهم - أن الإمام ومَنْ عاونه في عملية الهدم والقطع لا بُدَّ أن يُصابوا بمكروه جرَّاء فعلتهم هذه ! وانتظر العامة - لجهلهم - ليروا مصير الإمام ، عسى أن يُصيبه مكروه نتيجة هدمه للقباب والأشجار المقدسة ! لكنَّ الله بدَّد أوهامهم ؛ فتسارعوا يُقْبِلُون على الدعوة جماعات وأفرادًا ، وكانوا عونًا للشيخ على نشرها بكل حبٍّ وإخلاص . و قد حرص – رحمه الله - أن يُزيل كل ما كان في البلاد الخاضعة لابن معمر من المشاهد والأوثان والقباب ، وقطع ما كان فيها من الأشجار المقدَّسة .


مؤامرة لقتل الإمام محمد بن عبد الوهاب :

ترتَّب على هذه الأحداث المتتابعة أن تنادى رؤساء القبائل والبلدان الكبرى في نجد للوقوف ضدَّ مخاطر الدعوة ، أو بالأحرى مخاطر إقامة شرع الله وحدوده ؛ فهذه الحركة الإصلاحية أخذت – في زعمهم - تهدِّد نفوذهم في مقرِّ دورهم ؛ لأن انتصارها معناه أفول سلطانهم الخاسر، وإفلات زمام الأمور من أيديهم ؛ خاصَّة وأن الدعوة بدأت تؤتي ثمارها في نجد [19] . وكان على رأس الناقمين سليمان بن محمد بن عريعر الحميدي - حاكم الأحساء وبني خالد - الذي أيَّده فريق كبير من الجهلاء وأصحاب المصالح وذوي النفوذ ؛ هؤلاء الذين تحجَّرت عقولهم بعد أن امتلأت بالخرافات والبدع ، فانطلقوا يُقَاومون الدعوة وصاحبها، ويوغرون صدور مشايخ القبائل حقدًا وحسدًا . وما لبث سليمان الحميدي أن بعث إلى عثمان بن معمر كتابًا على عجل جاء فيه : " ... إن المطوِّع الذي عندك ، قد فعل ما فعل ، وقال ما قال ، فإذا وصلك كتابي فاقتله، فإن لم تقتله ، قطعنا خَرَاجَك الذي عندنا في الإحساء " . وقد كان على عثمان بن معمر أن يختار بين دعوة محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - وما تعاهدا عليه، وبين الخراج الذي يُقَدَّر بألف ومائتين دينار ذهبية ، ولم يفكر ابن معمر مليًّا فقد اختار الخراج ومتاع الدنيا مُضَحِّيًا بالدعوة وقائدها ، بل وأرسل إلى الإمام يخبره بكتاب سليمان ، قائلاً : " لا طاقة لنا بحرب سليمان " . وحاول الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - جاهدًا أن يُثني ابن معمر عن قراره هذا قائلاً له : " إن هذا الذي أنا قمتُ به ودعوتُ إليه كلمة لا إله إلا الله ، وأركان الإسلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أنت تمسَّكت به ونصرته فإن الله سبحانه وتعالى يُظهرك على أعدائك ، فلا يزعجك سليمان ولا يفزعك " [20] . فأعرض عنه عثمان ، وأرسل إليه مرَّة ثانية يخبره بأن : " سليمان قد أمرنا بقتلك ، ولا نستطيع مخالفته ، ولا طاقة لنا بحربه ، وليس من الشيم والمروءة أن نقتلك في بلدنا ، فشأنك ونفسك، وخَلِّ بلادنا " [21] . لقد وقع عثمان في فتنة الدنيا ، هذه الفتنة التي حذَّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة ؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم : " وَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ " [22] .بل إن النبي صلى الله عليه و سلم يَخصُّ هذه الأمة بفتنة المال ، فيقول صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ " [23] .من أجل ذاك أُخرج الإمام من العُيينة قسرًا ، فلم يزده هذا الأذى إلا صبرًا وعزيمة ومُضيًّا، وهو يُرَدِّد قوله تعالى : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق : 2- 3] ، فكان يمشي على رجليه مُوَكَّلاً به فارس يمشي من خلفه ؛ لقتله والغدر به، ولم يكن مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - إلاَّ مروحة من خوص في حرِّ الصحراء الملهب ، فهمَّ الفارس بقتل الإمام ، وكان بإيعاز من ابن معمر ، فارتعدتْ يده وكفى الله شرَّه [24] .

....