الإمام الطبري


اسمه ومولده


هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري رحمه الله تعالى ، يُكنى بـأبي جعفر، وعُرف بذلك ، واتفق المؤرخون على أنه لم يكن له ولد يسمى بـجعفر، بل إنه لم يتزوج أصلاً ، ولكنه تكنَّى التزامًا بآداب الشرع الحنيف ، فقد كان النبي يُطلِق الكُنَى على أصحابه [1] .وُلِد سنة 224هـ/ 839م[2] ، وكانت ولادته بآمُل عاصمة إقليم طبرستان[3] . قال الخطيب البغدادي : " استوطن الطبري بغداد ، وأقام بها إلى حين وفاته "[4] . طفولته و تربيته نشأ الطبري بآمل ، وتربى في أحضان والده وغمره برعايته ، وتفرس فيه النباهة والذكاء والرغبة في العلم فتولى العناية به ووجَّهه منذ الطفولة إلى حفظ القرآن الكريم ، كما هي عادة المسلمين في مناهج التربية الإسلامية ، وخاصةً أن والده رأى رؤيا تفاءل بها خيرًا عند تأويلها . فقد رأى أبوه رؤيا في منامه أن ابنه واقف بين يدي الرسول ومعه مخلاة مملوءة بالأحجار، وهو يرمي بين يدي رسول الله ، وقصَّ الأب على مُعَبِّرٍ رؤياه فقال له : " إن ابنك إن كبر نصح في دينه ، وذبَّ عن شريعة ربه ".ويظهر أن الوالد أخبر ولده بهذه الرؤيا وقصها عليه عدة مرات ؛ فكانت حافزًا له على طلب العلم والجد والاجتهاد فيه والاستزادة من معينه ، والانكباب على تحصيله ثم العمل به ، والتأليف فيه ؛ ليدافع عن الحق والدين [5] .وظهرت على الطبري في طفولته سمات النبوغ الفكري ، وبدت عليه مخايل التفتح الحاد والذكاء الخارق والعقل المتقد ، والملكات الممتازة ، وأدرك والده ذلك فعمل على تنميتها وحرص على الإفادة والاستفادة منها ؛ فوجَّهه إلى العلماء ومعاهد الدراسة ، وساعده على استغلال كل هذه الطاقات دون أن يشغله بشيء من شئون الحياة ومطالبها ، وخصص له المال للإنفاق على العلم والتعلم ، وسرعان ما حقق الطبري أحلام والده ، وزاد له في آماله وطموحه .وقد حرص والده على إعانته على طلب العلم منذ صباه ، ودفعه إلى تحصيله ، فما كاد الصبي الصغير يبلغ السن التي تؤهله للتعليم ، حتى قدمه والده إلى علماء آمل ، وشاهدته دروب المدينة ذاهبًا آيبًا يتأبط دواته وقرطاسه .وسرعان ما تفتح عقله ، وبدت عليه مخايل النبوغ والاجتهاد ، حتى قال عن نفسه : " حفظت القرآن ولي سبع سنين ، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين ، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة "[6].

ملامح شخصيته وأخلاقه تمتع الإمام الطبري رحمه الله بمواهب فطرية متميزة ، جبله الله عليها، وتفضل عليه بها ، كما حفلت حياته بمجموعة من الصفات الحميدة ، والأخلاق الفاضلة ، والسيرة المشرفة ؛ ومن هذه الصفات :



1- نبوغ الطبري و ذكاؤه : إن كثيرًا من صفات الإنسان تكون هبة من الله ، وعطاءً مباركًا من الخالق البارئ ، ولا دخل للإنسان فيها ، والله يختص برحمته من يشاء ، ويفضل بعض الناس على بعض ، ويرزق المواهب الخاصة لمن يشاء من عباده .وكان الطبري - رحمه الله - موهوب الغرائز، وقد حباه الله بذكاء خارق ، وعقل متقد ، وذهن حاد ، وحافظة نادرة ، وهذا ما لاحظه فيه والده ، فحرص على توجيهه إلى طلب العلم وهو صبي صغير، وخصص له موارد أرضه لينفقها على دراسته وسفره وتفرغه للعلم. و مما يدل على هذا الذكاء أنه رحمه الله حفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين ، وصلى بالناس وهو ابن ثماني سنين ، وكتب الحديث وهو ابن تسع سنين [7] .




2- حفظ الطبري : كان الطبري رحمه الله يتمتع بحافظة نادرة ، ويجمع عدة علوم ، ويحفظ موضوعاتها وأدلتها وشواهدها ، وإن كُتُبه التي وصلتنا لأكبر دليل على ذلك ، حتى قال عنه أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن المفلس : " والله إني لأظن أبا جعفر الطبري قد نسي مما حفظ إلى أن مات ما حفظه فلان طول عمره " [8] .


3- ورع الطبري وزهده : وهاتان الصفتان من فضائل الأخلاق ، ومن أشد الصفات التي يجب أن يتحلى بها العالم والداعية ، والمربِّي والإمام، وكان الطبري رحمه الله على جانبٍ كبير من الورع والزهد والحذر من الحرام ، والبُعد عن مواطن الشُّبَه ، و اجتناب محارم الله تعالى ، و الخوف منه ، و الاقتصار في المعيشة على ما يَرِدُهُ من ريع أرضه وبستانه الذي خلَّفه له والده [9] . قال عنه ابن كثير: " و كان من العبادة و الزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم ، ... و كان من كبار الصالحين "[10].وكان الطبري رحمه الله زاهدًا في الدنيا، غير مكترث بمتاعها و مفاتنها ، وكان يكتفي بقليل القليل أثناء طلبه للعلم، وبما يقوم به أوده ، ويمتنع عن قبول عطايا الملوك والحكام والأمراء[11] .




4- عفة الطبري وإباؤه : وكان الطبري رحمه الله عفيف اللسان ، يحفظه عن كل إيذاء؛ لأن فعل اللسان قد يتجاوز في بعض الأحيان السنان ، ولأن جرح السيف قد يُشفى ويبرأ ، ولكن هيهات أن يُشفى جرح اللسان . وكان الطبري متوقفًا عن الأخلاق التي لا تليق بأهل العلم ولا يؤثرها إلى أن مات، ولما كان يناظر مرة داود بن علي الظاهري في مسألة، فوقف الكلام على داود ، فشق ذلك على أصحابه ، فقام رجل منهم ، وتكلم بكلمة مَضَّة وموجعة لأبي جعفر ، فأعرض عنه ، ولم يرد عليه ، وترفَّع عن جوابه، وقام من المجلس، وصنَّف كتابًا في هذه المسألة والمناظرة[12] . و كان الطبري عفيف النفس أكثر من ذلك ، فهو مع زهده لا يسأل أحدًا ، مهما ضاقت به النوائب ، ويعفُّ عن أموال الناس ، ويترفع عن العطايا[13] .





5- تواضع الطبري وعفوه :


كان الطبري شديد التواضع لأصحابه و زواره و طلابه ، دون أن يتكبر بمكانته ، أو يتعالى بعلمه ، أو يتعاظم على غيره ، فكان يُدعى إلى الدعوة فيمضي إليها ، ويُسأل في الوليمة فيجيب إليها [14] .وكان رحمه الله لا يحمل الحقد والضغينة لأحد ، وله نفس راضية ، يتجاوز عمن أخطأ في حقه، ويعفو عمن أساء إليه [15] .وكان محمد بن داود الظاهري قد اتهم الطبري بالأباطيل ، وشنَّع عليه ، وأخذ بالرد عليه ؛ لأن الطبري ناظر والده ، و فنَّد حججه ، وردَّ آراءه ، فلما التقى الطبري مع محمد بن داود تجاوز عن كل ذلك ، وأثنى على علم أبيه ، حتى وقف الولد عن تجاوز الحد ، و إشاعة التهم على الطبري [16].ومع كل هذا التواضع ، وسماحة النفس ، والعفو والصفح ، كان الطبري لا يسكت على باطل ، ولا يمالئ في حق ، ولا يساوم في عقيدة أو مبدأ ؛ فكان يقول الحق ، ولا تأخذه في الله لومة لائم ، ثابت الجنان ، شجاع القلب ، جريئًا في إعلان الصواب مهما لحق به من أذى الجهال ، ومضايقة الحساد ، و تخرصات الحاقدين [17] .



شيوخه من أشهر شيوخ الطبري : محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، وإسحاق بن أبي إسرائيل ، وأحمد بن منيع البغوي ، ومحمد بن حميد الرازي ، وأبو همام الوليد بن شجاع ، وأبو كريب محمد بن العلاء ، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي ، وأبو سعيد الأشج ، وعمرو بن علي ، ومحمد بن بشار، ومحمد بن المثنى ، وخلق كثير نحوهم من أهل العراق والشام ومصر [18] .

تلاميذه من أشهر تلامذته : أحمد بن كامل القاضي ، ومحمد بن عبد الله الشافعي ، ومخلد بن جعفر[19] ، وأحمد بن عبد الله بن الحسين الجُبْني الكبائي [20] ، وأحمد بن موسى بن العباس التميمي [21] ، وعبد الله بن أحمد الفرغاني ، وعبد الواحد بن عمر بن محمد أبو طاهر البغدادي البزاز [22] ، ومحمد بن أحمد بن عمر أبو بكر الضرير الرملي [23] ، ومحمد بن محمد بن فيروز [24] ، وخلق كثير غيرهم .




مؤلفاته : ترك لنا الطبري ثروة علمية تدل على غزارة علمه ، وسعة ثقافته ،، ودقته في اختيار العلوم الشرعية والأحكام المتعلقة بها ، وكان له قلم سيَّال ، ونَفَس طويل ، وصبر في البحث والدرس ، فكان يعتكف على التصنيف ، وكتابة الموسوعات العلمية في صنوف العلوم ، مع ما منَّ الله عليه من ذكاء خارق ، وعقل راجح متفتح ، وجَلَد على تحمل المشاق ؛ ومن هذه المؤلفات : 1- جامع البيان في تأويل القرآن ، المعروف بتفسير الطبري .2- تاريخ الأمم والملوك ، المعروف بتاريخ الطبري .3- كتاب ذيل المذيل .4- اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام ، المعروف باختلاف الفقهاء وهو في علم الخلاف .5- لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام ، وهو كتاب فقه في المذهب الجريري .6- الخفيف في أحكام شرائع الإسلام ، وهو في تاريخ الفقه .7- بسط القول في أحكام شرائع الإسلام ، وهو في تاريخ الفقه الإسلامي و رجاله وأبوابه .8- تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار ، وسماه القفطي (شرح الآثار) وهو كتاب في الحديث ، بقيت منه بقايا طُبعت في أربع مجلدات .9- آداب القضاة ، وهو في الفقه عن أحكام القضاء وأخبار القضاة .10- أدب النفوس الجيدة والأخلاق الحميدة .11- كتاب المسند المجرد ، ذكر فيه الطبري حديثه عن الشيوخ ، بما قرأه على الناس .12- الرد على ذي الأسفار ، وهو ردٌّ على داود بن علي الأصبهاني مؤسِّس المذهب الظاهري .13- كتاب القراءات وتنزيل القرآن ، ويوجد منه نسخة خطية في الأزهر.14- صريح السنة ، وهي رسالة في عدة أوراق في أصول الدين .15- البصير في معالم الدين. وهو رسالة في أصول الدين ، كتبها لأهل طبرستان فيما وقع بينهم من الخلاف في الاسم والمسمى ، وذكر مذاهب أهل البدع ، والرد عليهم .16- فضائل علي بن أبي طالب ، وهو كتاب في الحديث والتراجم ، ولم يتمه الطبري رحمه الله .17- فضائل أبي بكر الصديق وعمر، ولم يتمه .18- فضائل العباس ، ولم يتمه .19- كتاب في عبارة الرؤيا في الحديث ، ولم يتمه .20- مختصر مناسك الحج .21- مختصر الفرائض .22- الرد على ابن عبد الحكم على مالك ، في علم الخلاف والفقه المقارن .23- الموجز في الأصول ، ابتدأه برسالة الأخلاق ، ولم يتمه .24- الرمي بالنشاب ، أو رمي القوس ، وهو كتاب صغير، ويُشك في نسبته إلى الطبري .25- الرسالة في أصول الفقه . ذكرها الطبري في ثنايا كتبه ، ولعلها على شاكلة الرسالة للإمام الشافعي في أصول الاجتهاد والاستنباط .26- العدد و التنزيل .27- مسند ابن عباس . ولعله الجزء الخاص من كتاب (تهذيب الآثار) ، وطبعت البقية الباقية منه في مجلدين .28- كتاب المسترشد .29- اختيار من أقاويل الفقهاء [25].


منهجه في التفسير لقد لخص لنا الأستاذ الفاضل محمد محمود الحلبي - في كلمة الناشر للطبعة الثالثة - منهجَ الطبري باختصار فقال: "وهو تفسير ذو منهج خاص، يذكر الآية أو الآيات من القرآن، ثم يعقبها بذكر أشهر الأقوال التي أُثرت عن الصحابة والتابعين من سلف الأمة في تفسيرها، ثم يورد بعد ذلك روايات أخرى متفاوتة الدرجة في الثقة والقوة في الآية كلها أو في بعض أجزائها بناءً على خلافٍ في القراءة أو اختلاف في التأويل، ثم يعقِّب على كل ذلك بالترجيح بين الروايات واختيار أولاها بالتقدمة، وأحقها بالإيثار، ثم ينتقل إلى آية أخرى فينهج نفس النهج: عارضًا ثم ناقدًا ثم مرجِّحًا"."وهو إذ ينقد أو يرجِّح يردُّ النقد أو الترجيح إلى مقاييس تاريخية من حال رجال السند في القوة والضعف، أو إلى مقاييس علمية وفنية: من الاحتكام إلى اللغة التي نزل بها الكتاب، نصوصها وأقوال شعرائها، ومن نقد القراءة وتوثيقها أو تضعيفها، ومن رجوع إلى ما تقرر بين العلماء من أصول العقائد، أو أصول الأحكام أو غيرهما من ضروب المعارف التي أحاط بها ابن جرير، وجمع فيها مادة لم تجتمع لكثير من غيره من كبار علماء عصره"[26].

مما يأتيني عن طريق القروب