(13)
حال علوان، كحال رئيس جمهورية مغمورة تم استقباله في المطار، واصطف أمامه كبار مسئولي الدولة، وسار بجانبه مرافقه من الدولة المضيفة، فبعد أن يصافح أحداً يتمتم المرافق باسمه ووظيفته، وما أن يترك كفه التي صافحه بها حتى ينسى اسمه، أو اسم وظيفته أو الاثنين معاً. فأسماء الشوارع والمساجد والساحات والمحلات لن تعني له شيئاً على المدى القريب.
عند دخولهما لباب بيت متوسط الحجم والنوعية، به خمس غرفٍ وصالون، استأجره الطلاب العرب، في حيٍ من الأحياء القريب من الجامعة، والتي بُنيت معظم بيوته لهذا الغرض، لاحظ علوان، ما أثر مستقبلاُ على نمط تفكيره.
كان (سيف) أحد المستأجرين لهذا البيت، فقام بالتعريف بالقادم الجديد، وعرَّف علوان بأسماء الموجودين، كانوا أكثر من عدد غرف البيت.
مكث علوان في بيت مُضيفيه نحو أسبوع، ريثما وجد غرفة يسكن فيها وليستفيد أيضاً من معاونة سيف والآخرين في إجراءات القبول.
(14)
لم ترقه صحبة سكان البيت ولا زائريه، فكان كل شيء لا يتوافق مع طباعه، فمنهم من كان يجلس بلباسه الداخلي ومنهم من كان لا يتحرج من إخراج الغازات من جوفه. وكان رمضان على الأبواب، وقد اعتاد أن يصوم بعض أيام من شهر شعبان، وهي عادة اكتسبها من أهله، ومن خلال دخوله لحزب (الخلاص) الإسلامي، والذي تركه بعد قضاء ثلاثة أعوام في تنظيماته لمبالغته في التنظير وشكوكه الهائلة في من حوله.
كان البيت متاحاً لأن يتجول في غرفه التي لم تُغلق أمام أحد، وكونه المقيم الوحيد الذي قد يبقى في البيت ساعات أطول، فقد استطاع أن يعزز شعور عدم الارتياح من ساكنيه، فكان يصادف بعض القناني الفارغة من مشروبات كحولية، وبعض قطعٍ من ملابس أكثر ظنه أنها كانت لنساء، إضافة الى عدم ترتيب المكان والتي تنافت مع طبعه، فقد تعثر في طريقه للحمام بشيء ظنه نتوء في بلاط الأرضية، لكنه وبعد التمعن فيه، وجد أن إبريقاً من الشاي قد انسكب قبل مدة غير معروفة، فقام أحدهم بتمرير ممسحة فوقه لمرة واحدة فتراكمت فوقه ذرات الغبار حتى أصبح له ارتفاع شبه ملحوظ.
اجتهد وأزال ذلك النتوء، ورتب أسرة الساكنين، وراودته نفسه أن يغسل كل ملابسهم، لكنه استنكف عن تلك الفكرة، واكتفى بجلي أدوات ما يسمى بالمطبخ وحضر لهم غداءً من الرز واللحم وبعض اللبن اليابس الذي أحضره معه.
كان في البيت مجموعات متناثرة من الكتب والكراريس، بعضها يتكلم عن الوحدة العربية، وفلسطين طريق الوحدة، والوحدة طريق فلسطين، ولينين والعمال، وكفاحي لهتلر، وبعض روايات نجيب محفوظ ومكسيم جوركي وتولستوي ومقدمة ابن خلدون، وكولن ولسون وهنري ميلر.
(15)
تساءل علوان: متى يدرس هؤلاء الطلبة؟ وكيف يقضون أوقاتهم؟
فبعد الرابعة مساء وحتى الفجر تقريباً يعج البيت بالموجودين، وتنفتح عناوين غير مترابطة لأحاديث من كل نوع، عن الماركسية والقومية والصوفية، وأفلام كوميدية، وعن الطبخ والأفاعي، وكل شيء، وهناك من يفترش الأرض ويلعب الشطرنج، أو الورق، والشاي لا يفارق الجلسات.
كانت أعمارهم متفاوتة، فمنهم (هشام ) مثلاً، عمره يساوي ضعف عمر علوان، فقد درس في الجزائر وأُبعد منها حسب زعمه، ودرس في كندا وأُبعد منها، لتأييده انفصال إقليم (كويبك)! كان مثقفاً جيداً، أو هكذا بدا، فكان يفرض بطريقة كلامه أن يصغي الجميع له، وكان يُتقن الانتهاء من وصلة ثقافية ساقها ببراعة لينتقل لأخرى لا تمت لها بصلة.
وكان أبو جريس وهو من الطلاب القادمين من يوغسلافيا، لا يذكر أسباب تركه ليوغسلافيا، هل لأسباب سياسية أم تتعلق بكلف الدراسة هناك، أم أنه تم استدعائه من هناك ليقوم بالإشراف على تنظيم الطلبة العرب، كانت النقطة الأخيرة، هي ما تدفع أبا جريس ليجعل الآخرين أن يستنتجوها.
كانت تلك المجموعة من الطلبة تقوم بتجنيس (أي صهر عادات الطلبة الوافدين لتتشابه في النهاية) هم لم يعلنوا ذلك، لكنه بعد الوقت تم لعلوان أن يكتشف أن عاداتهم وطرائق سلوكهم يتبناها كل الطلبة الذين يعرفونهم.
لم يُعلن أحدٌ منهم أنه مع الإلحاد، لكنهم كانوا يرددون بنشوة، ما يشاهدون في السينما، أو ما يتم مناقشته من كتب الشيوعيين. قَدَّر علوان ذلك السلوك بأنه نمط من البحث عن فقه يجيز لهم أن لا يكونوا فيه ورعين، فبالتأكيد هم لا يصلون أي فرض، ومن المرجح أنهم لا يصومون رمضان.
فَكر علوان أن يقوم بمهاراتٍ تعلمها من حزب الخلاص الإسلامي مثل كيف تناقش الشيوعي وكيف تناقش البعثي وكيف تناقش الملحد. فالملحد الفطري يتساوى عنده الإيمان مع الكفر، فإن تم إقناعه بعدم صدفة الخلق، وإن تم إقناعه بعجز البشر وعدم قدرتهم على مطاولة الخالق، فإنه بعد ذلك ستمهد الطريق أمام زعزعة إلحاده. لكن هؤلاء ليسوا ملحدين بالفطرة، فكلهم أتوا من بيئات محافظة، ولكنهم يستمرءون التعايش مع الإلحاد لفلسفة يحتاجونها في تبرير عبثية بعض سلوكهم. أقلع عن فكرة مجادلتهم.