(10)

عندما أنهى علوان دراسته الثانوية، تغيرت الأحوال فيما يخص الوساطة والمعاونة، فقد ظهرت أنماط جديدة من مد يد العون للطلبة الراغبين في الدراسة الجامعية، فكانت جمعيات الصداقة السوفييتية العربية واليوغسلافية العربية، وكانت مجموعة من الجامعات العربية تود محاكاة الجامعات الشيوعية لتؤسس ما يشبه خلايا التبشير بمعتقدات الحكم في بلادها. إضافة الى ما سُمي بالتبادل الثقافي بين الدول، فكانت وزارات التعليم تخصص مقاعد جامعية لأبناء دولٍ أخرى..


بعد أن وضع علوان مغلف الأوراق الخاصة بالقبول في الجامعات بيد ابن جيرانه (سيف أبو معجونة) الذي كان يكبره بسنتين فقط، لم يكن يثق وثوقاً كاملاً بأنه سيقبل في الجامعة، فابن جيرانه لا يتفوق عليه إلا بالعمر، وبيتهم أقل فخامة من بيت أهل علوان، وثقافة علوان تفوق ثقافة ابن جيرانه، كانت المحادثة بهذا الخصوص لم تأخذ إلا بضعة دقائق. لم تكن تلك الطقوس مشابهة لطقوس التوسط المعروفة، فلم يكن هناك رجاء ولا رشوة ولا تملق ولا جلوس طويل...

فكَّر علوان بتلك الواقعة... هل يمكن للصدف أن تغير مجرى حياة فرد، فماذا لو لم يكن ابن جيرانهم قد تقدم لتلك الجامعة وانتسب الى الحزب الحاكم في تلك البلاد؟

ابتسم قليلاً. من بين أكثر من مليون ونصف حيوان منوي، استطاع واحد أن يصل الى بويضة أم نابليون ليغزو مصر، ولو تأخر بضع مليمترات لكان ما حدث لم يحدث... ولو أن الشيوعيين وهتلر بقوا على اتفاق لما كانت نتائج الحرب العالمية الثانية كما كانت! ولو أن شلال عبد الفتاح لم يدخل أم الضباع بمخططات تطوير أمانة العاصمة لما أصبح فارع أبو الزغاليل ثرياً..

لم يقصد سيف أبو معجونة، أن يكون وسيطاً، بل هي مبادرة تم تدافعها بمحض الصدف، لكن ذلك لم يبقَ كذلك طويلاً، فقد تغيرت نبرة صوت سيف، وأخذ يخشن صوته، ويتلمس ياقة قميصه كلما تكلم، وذلك عندما جاء ليبلغ علوان بأنه تم قبوله في الجامعة، وأن عليه أن يستعد ليرافقه في سفره قريباً...

(11)

لم تتلقَ أسرة علوان نبأ قبوله بفرح. فقد كان القبول سهلاً، وبلا عناء، وهي عادة يكرهها أهل الريف وبالذات أهل علوان. فقد سمع أن جده عندما أراد أن يخطب لابنه، جاوبه من طلب يد ابنته: (أجتك: يعني جاءتك: أي تم القبول)، فكان جواب جد علوان: (يلعن هكذا جيزة: أي: لم يشكر من وافق على إعطاءه)، فاستغرب الرجل متسائلاً: ما بك يا رجل؟ ألا يرضيك أنني أزوج ابنتي لابنك؟.. فأجاب جد علوان: نعم يرضيني، لكن، كان من الواجب تعذيبي بعض الشيء حتى أحس بالفرح!

لم يستطع (قدري) عم علوان أن يثني والده عن إرسال ابنه الثاني للجامعة، رغم الحجج التي ساقها، فقد أخبره أن ارتفاع سعر الأراضي أكثر ضماناً من تعليم الأولاد، وضرب له أمثلة كثيرة، عن أناس باعوا أراضيهم، ليعلموا أولادهم، وكانت النتيجة أن أولادهم تخلوا عنهم، ورحلوا للعاصمة، فلا هم احتفظوا بأراضيهم ولا هم احتفظوا بقرب أولادهم منهم.

كان لقدري ولدان، لم يستطيعا تخطي الابتدائية، فكان كل منهما يمضي سنتين في الصف الواحد، وأبوهما كان الوحيد من بين أخوته الخمسة الذي لا يقرأ، ويستخدم في صلاته الفاتحة وسورة قصيرة واحدة في كل صلواته.

كان افتتان والد علوان بقريبه (سليمان بك) هو من يحركه لإتمام دراسة أولاده، لم يشأ أن يصبح مستقبلهم شبيهاً لما هو عليه من خشونة. ومع ذلك أراد أن يسمع ممن يقدم له النصح في ذلك، فأخذ علوان وسار به في زقاق قذر تستعجل أشعة الشمس للخروج منه لشدة قذارته، ويفضي مختصراً لدار رجل وجيه يجلس في ديوانه أصدقائه من علية القوم في البلدة.

تناوب الرجال في المجلس على الحديث مع والد علوان، بعد أن أبلغه الوجيه بقَدَر العلم وأهميته، فإن كان بالمقدور أن يرسله للجامعة فليتوكل على الله ويرسله. في حين اقترح أحدهم أن يبعثه لمصر للدراسة لمدة سنة واحدة، واقترح آخر أن يجعله يتقدم لوظيفة ويراسل إحدى الجامعات في بيروت، فالنتيجة هي أن يكون جامعياً.

(12)

لم تُسعف سنون دراسة (نجيب) الشقيق الأكبر لعلوان في الجامعة، خبرة أم علوان في تجهيز ما سيأخذ معه من ملابس، وأشياء، فوضعت في حقيبة سفره بعض (البرغل) و (الملوخية) الجافة و (البامية) وأقراص من لبن مجفف، و(المقدوس) وغيرها من الحاجيات التي لم تمتحن ضرورتها لنجيب سابقاً.

قبل أن يغادر علوان مع سيف الى البلد الذي قُبل به، تلقى سيلاً من النصائح الضرورية وغير الضرورية. أنت ترى حالنا وكم يكلفنا سفركم للخارج، فلا تصرف إلا ما يلزمك، ولا تحرم نفسك من شيء! ابتعد عن التدخين ومرافقة أصدقاء السوء، لا تدع أحداً يضحك عليك ويقترض من فلوسك، لا تلته بأفلام السينما والدوران بالشوارع، حذار من بنات الهوى، تغطى جيداً عند منامك، احتفظ بنقودك في مكان أمين الخ.

كان عليهما أن ينتقلا لمدينة أكبر للسفر منها على متن حافلة الى البلد الذي يقصدانه، فما أن حطا في موقف السيارات، تأمل المكان بشكلٍ غير مرتاح، فضجيج السيارات، وأصوات المسافرين، وتنافر ألوان الملابس والسيارات والسماء وأرضية الساحة لا تسمح للتأمل أن يتم بصورة كما لو كان على شاطئ أو حتى بالصحراء. السيارات والحافلات متقاربة، ومنها ما يئن محركه للانطلاق، وكأنه ثورٌ حُجِز بعارضة خشبية قبل انطلاقه لساحة قتالٍ. لا أحد يستطيع التنبؤ بالمكان الذي ستستقر به تلك السيارات بعد ساعات، وإن استطاع أحدهم ذلك، فلا يستطيع التنبؤ أين سيستقر من يركبون على متنها، هل سينامون في دائرة قطرها نفس قطر البلاد أم سيقلعون بطائرات الى بلاد أبعد.

كانت الحافلة التي استقلا فيها قد أعيد ترميمها أكثر من مرة، وكل مرة تفقد فيها جزءاً من خصائصها الأصلية، حتى بدت وكأن الذي صنعها هو نفس السائق الذي يقودها، فكان قد تجاوز الستين من عمره، لكنه في كامل قوته ولم يبلغ عن تقدمه في العمر سوى شعرات بيض تطل من تحت غطاء رأسه ومكان سنٍ قد سقط من وسط فكه العلوي.

صرخ قائلاً: إن لم تتعبوني فسنصل بعد أربعة عشر ساعة، فلا تثقلوا بطلباتكم لقضاء حاجاتكم والتذرع بالجوع والعطش.. المسافة ألف كيلومتر، والوقوف على الحدود يحتاج بعض الوقت، تعاونوا معي، دون تدخل في السرعة والقيادة، ودون تبرم من صوت المذياع.

انطلقت الحافلة، وأخذت تتجاوز دائرة معرفة علوان في جغرافيا بلده، فألصق خده على الشباك يراقب كل شيء، أو لا شيء، فهي صحراء تتناثر فوقها الحجارة البازلتية السوداء وتلتصق أحياناً في بعضها البعض، إنها بقايا سيول حمم بركانية منذ ملايين السنين. تذكر أنه في خرائط البلدان العربية، يتكرر هذا اللون، ولعل هذا هو عامل إضافي على تشابه البلدان العربية وتشابه أمزجة أبنائها!

بعد عبور الحدود، صعد فتى يافع الى الحافلة يحمل صينية خشبية وينادي (حَبْ جكاير، عِلج: أي بذور البطيخ المحمصة والسجائر والعلكة)، فكانت تلك أول إشارة لاختلاف اللهجات... ثم عبر نهراً ونهراً وأخذت الحافلة تدخل شوارع العاصمة، فيلفت انتباهه قِطَعاً مكتوب عليها (شربت زبيب ب 15 فلس)، فسأل سيف أبو معجونة: لماذا هذا الخبر؟ فسأله: أي خبر؟ ثم بين له أنها ليست شربتُ بل شَربَتْ: أي شراب الزبيب ب 15 فلساً.