قول على قول
(( يادعاة الفلسفة ... هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين))
دعوة لاجتثاث الفلسفة!!!!!
بقلم :- حميد الحريزي
في مقالة طويلة بعنوان ((يادعاة الفلسفة ... هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين))نشر احد كتاب جريدة ((الفارابي )) الغراء الصادرة عن مؤسسة الفارابي في النجف مقالة، شن فيها هجوما كبيرا على الفلسفة والفلاسفة وكأنه يذكرنا بمقولات (من تفلسف تزندق) هذه المقولات التي أطلقت من قبل القوى المهيمنة على السلطة وكراسي الحكم والخلافة لوكلاء الله في الأرض ووعاظ السلاطين ، هذه المقولة ،سيف يشهر بوجه كل معارض لأفكارهم وأسلوب حكمهم الفردي الوراثي الاستبدادي، إن عدائهم للفلسفة المراد به سد طريق التساؤل والتفكير والتفكر على كل من يشعر بالظلم وفقدان العدالة والحكم باسم الله ودينه القويم زورا وبهتانا، كأغلب حكام آل أمية وبني العباس وآل سلجوق وآل عثمان وما شاكلهم... ومن يحاول أن يكافح الخرافة والهرطقة والغلو ، وهي نتاج عصور القمع والتخلف... بمعنى هي محاولة لمصادرة نشاط وحراك وفعالية العقل لبشري وخصوصا عقل المسلم ليبقى مبرمجا ومسيرا وفق إرادة ورغبة ونهج القوى المتنفذة والحاكمة سواء في سدة الحكم أو خارجه من الأتباع والحواشي وهما طبعا وجهان لعملة واحدة هي عملة ألاستبداد والجور والقهر...
مثلا يذكر الكاتب (( إن تلاميذ الفلسفة اليونانية أحاطوا العلوم العربية والنقدية.. وظهرت ثمار ذلك في قتل الأدب العربي في عصور الانحطاط ))!!!
ليس خافيا على كل مطلع إن انتعاش الفلسفة دائما يرافق عهود التقدم والازدهاوالشعر. في كل بلدان العالم وفي مختلف مجالات الحياة ومنها الادب وظهر هذا جليا في الحضارة اليونانية وعصر التقدم والرقي العربي الإسلامي وفي عصر النهضة والتنوير في الغرب... وقد كان هذا التقدم واضحا في العصر العباسي الأول وهو عصر ازدهار الفلسفة ، ولا ادري من أين أتى الكاتب بمقولة فصل الأدب عن الدين وكأنه يريد أن يقول فصل السياسة عن الدين ويعيب على المأمون انحيازه لأهل العلم والمعرفة والتشجيع على ترجمة أمهات الكتب للحضارات الأخرى كالحضارة اليونانية والرومانية والفارسية والهندية ... لحاجة بلاد الإسلام إليها بعد ما اتسعت إمبراطوريتهم في الشرق والغرب وتعقدت وتعددت دواوينها ما استوجب الاستفادة من خبرات الحضارات الأخرى...((إن الإسلام واتساع الإمبراطورية وحاجة العرب إلى ما عند الأمم من العلوم كانت من أقوى البواعث على طلب الفلسفة ونقل كتب العلم إلى اللغة العربية)) تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون –عمر فروخ – دار العلم للملايين ط2 أيار .1979
كما هي حاجتنا الآن، لترجمة الأدب والفلسفة وعلوم الطب والكيمياء والفلسفة والشعر ...الخ من الدول والحضارات الأخرى.... يرى الكاتب في نظرة تعصب ديني وقوماني إن من ترجم هذه الكتب إلى العربية هم اليهود والنصارى... وكأنهم لم يترجموا كتب الرياضيات والطب والهندسة والفلك من حضارات إنسانية متطورة ،وهذا تبادل محمود للعلوم والأفكار بين حضارات العالم المختلفة ، فقد أخذ الغرب الكثير من العرب والمسلمين وهذا أمر معروف للقاصي والداني لا حاجة إلى التفصيل فيه.... وهل كان هؤلاء يريدون بشعوبهم ودولهم شرا ...يعيب الكاتب على المأمون إجزاله العطاء للكتاب ونقلة العلم والمعرفة بما فيها الفلسفية للغة العربية، وهذا ما ندعو إليه في عصرنا الحاضر ونعيب على حكامنا عدم رعايتهم الكافية لحركة الترجمة من اللغات الأخرى للغة العربية وبالعكس ، وهذا أمر محسوب للمأمون ولا يحسب عليه (( إن يقابل"المأمون" المخطوط المترجم(( من اليهود والنصارى بما يقابله من لذهب في الميزان))؟؟!!
يستشهد الكاتب ببعض الآيات القرآنية المختارة بصورة انتقائية وخارج سياقها الدلالي يريد لها إن تصب لصالح ما يريده متناسيا عشرات الآيات القرآنية التي تطالب العقل الإنساني وخصوصا المسلم بالتفكير والعلم والتساؤل عن أصل الكون وعظمة خلقه وبديع نظامه وهي الأساس والبرهان ألأول للدين الإسلامي في الدعوة للإيمان بعيدا عن المعجزات الحسية / كما يذكر في الأديان السابقة كاليهودية والمسيحية - كليم الله وعصا موسى ، وكلمهم في المهد وولادته من رحم أمه دون أن يمسسها بشر ، وإحياء الموتى - ..الخ) أي إن الإسلام دين عقل وبرهان عقلي، طالب الإنسان أن يحرك فكره وعقله ويتفكر الكون والكواكب والجبال والإبل ليتوصل إلى قدرة ووحدة خالقها العالي المتعالي الكريم... وهذا النهج يحسب لصالح الفلسفة فهي في احد تعار يفها تفكر أصل نشوء العالم ومن هو مدبره وخالقه نذكر بعضا من هذه الآيات الداعية إلى التفكر في الخلق (( ولله ملك السموات وارض والله على كل شيء قدير، إن في خلق السموات ولأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قيما وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا، ما خلقت هذا باطلان سبحانك فقنا عذاب النار)) آل عمران (3: 189- 191)
هذه الأفكار والنظم الفلسفية التي كانت خير داعم لدعاة المسلمين في تفسير سور القرآن وتوفير القناعة للناس بالمبادئ الإسلامية والإيمان بالله عبر صياغة وإتيان البرهان.
يواصل الكاتب اتهامه الفلسفة فيقول((وجعلت أفكار اليونان تأخذ مكان العقائد الإسلامية، وانعكست القضية حيث أصبح المسلمون في معزل عن الكتاب والسنة))وهنا يظهر الكاتب وللأسف الشديد كسلفي متشدد وهو ليس كذلك كما اعلم.... ثم يقول مستمرا في مغالطته هذه
((وهكذا أهملت الأمة شؤون العلم والعقل والثقافة واللغة العربية وتراكم ذلك من عصر إلى عصر من عصور الانحطاط حتى وصلت نسبة الأمية في اللغة العربية إلى ما يزيد عن 99% في نهاية العهد العثماني)).
انه لمنطق غريب حقا إن يعزى الجهل والتخلف والأمية للفلسفة والفلاسفة ، فهل كان الفيلسوف أميا؟؟؟ وهل يمكن أن يكون الفيلسوف أميا؟؟ وهنا يمكن أن تكون الإجابة بنعم عن هذا السؤال لو اعتمدنا مقولة الكاتب حين يقول ((لو قرأنا التاريخ لم نجد أحدا من الفلاسفة هدى شخصا ضالا أو كافرا إلى الإسلام بل نلاحظ كثير من العوام يشرحون الإسلام وعقائده أفضل من الفلاسفة))؟؟؟؟؟
وهنا الكاتب يبدو كمن اقفل فكره ،كما هو حال الحاكم المستبد ولنا في عهد صدام مثالا لازال نصب عيون كل المتعاطين بالثقافة والعلم والأدب ،كانت تصدر قوائم طويلة لا تنتهي بمنع الكتب من مختلف الاختصاصات وخصوصا ما يتعلق بالفكر والفلسفة حصرا، وقد دفع بعض الأدباء أو أصحاب دور النشر والطباعة وباعة الكتب حياتهم ثمنا نتيجة جلب أو طباعة أو بيع واستنساخ كتب بعينها؟؟؟!!!
إما ما يستشهد به الكاتب كون الأمية قد بلغت 99% في زمن العثمانيين / نقول هل ا ن آل عثمان فلاسفة أم كانوا غزاة ، وتميزوا بفرض سياسة التتريك على البلدان التي يغزونها، فما ذنب الفلسفة ؟؟؟
بالعكس للفلسفة التنويرية الفضل الكبير في انهيار هذه السلطنة الاستبدادية، فالفلسفة على مدى التأريخ هي مشعل نور يحرق عروش الاستبداد والقهر، في حين كان أعداؤها من وعاظ السلاطين ، والانحياز للظالم ضد المظلوم....
اما ما يقوله الكاتب إن الغزالي قد كفر الفلاسفة فللأمر تفسيرا يبدو مقنعا، وان لم يكن الغزالي مثال تقليد أو استشهاد ((الشيعة)) مذهب الكاتب، الذي يدعي:-
((تمكن الغزالي من تكفير أكابر الفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا بأيسر السبل))
فالغزالي الفيلسوف الإسلامي الشهير الذي قال بمبدأ الفصل والتمييز بين الفئات الاجتماعية من حيث درجة الوعي حين قال إن هناك من العلوم ما هو ((ممنوع لغير أهله)) أي محجوب عن العقل العامي الذي لا يمتلك خلفية معرفية وثقافية تؤهله لاستيعاب وإدراك مقولات الفلسفة واستيعاب الأدلة البرهانية ...
الغزالي لم يكفر هؤلاء الفلاسفة ومنهم ابن رشد لأنهم يتعاطون الفلسفة ولكن كان له نظر إن تحجب الفلسفة أو الأدلة البرهانية العقلية عن العامة ((الجاهلة )) كما يرى وقد أوضح ابن رشد هذا الأمر كالتالي(( الناس على ثلاثة أصناف :- صنف ليس له من أهل التأويل أصلا وهم الخطبيون الذين هم الجمهور الغالب، وذلك انه ليس يوجد احد سليم العقل يعري هذا النوع من التصديق. وصنف هو أهل التأويل الجدلي وهؤلاء هم الجدليون بالطبع فقط، أو بالطبع والعادة . وصنف من أهل التأويل اليقيني وهؤلاء هم البرهانين ، بالطبع والصناعة اعني صناعة الحكمة وهذا التأويل لا ينبغي إن يصرح به لأهل الجدل فضلا عن الجمهور، ومتى صرح بشيء من هذه التأويلات لمن هو من غير أهلها وبخاصة التأويلات البرهانية لبعدها عن المعارف المشتركة- أفضى ذلك بالمصَّرح له والمصرح إلى الكفر)) ابن رشد فلسفة بن رشد دار الأفاق الجديدة – بيروت ط1 1978 م .
لان المصرح له لا يعرف معنى التأويل ومغزاه فيكفر ، إما المصِّرح فيكفر لأنه أصبح سببا لكفر المصرح له الجاهل من الفئة الأولى والثانية كما ذكرنا أنفا... ويبدو إن الكاتب احد وضع نفسه في معاداة الفلسفة مع الفئة الأولى أو الثانية ، ففسر أقوال الغزالي بغير المراد منه..... وهو يدعو إلى اجتثاث الفلسفة من عقول المسلمين....
ومما يثير الاستغراب حقا إن الكاتب يكتب في جريدة اسمها ((الفارابي)) تصدر عن مؤسسة علمية اسمها ((الفارابي)) هذا الفيلسوف الإسلامي الكبير وهناك إجماع بأنه من أشهر فلاسفة العرب والإسلام كما يقول عمر فروخ... فمن الأجدر إذن إن يدعو إلى غلق هذه المؤسسة والجريدة المسماة باسم هذا الكافر الخطير....وان ولا يكون احد كتابها بصفة ((محرر)).
كما إن كل الشواهد تؤكد إن الشيعة هم أكثر المذاهب الإسلامية دفاعا عن الفلسفة ودراستها والحث على التسلح بها، فقد إلف مطهري أسس الفلسفة في جزأيـــــــــن.وكذلك محمد جواد مغنية له – علي والفلسفة ومعالم الفلسفة، ومؤلف فلسفتنا الشهير للشهيد الأول محمد باقر الصدر ، وموسوعة فلسفية للشهيد الثاني محمد صادق الصدر، كذلك تدرس الفلسفة لطلبة الحوزة الدينية، وان المذهب الشيعي هو المذهب الوحيد الذي ابقي باب الاجتهاد مفتوحا لإصدار الإحكام والفتاوى بما يتلاءم وروح العصر والفلسفة فيما لا يتعارض مع روح الفرائض الأساسية في الإسلام..... فالذي اعلمه إن الكاتب ينتمي للمذهب الجعفري والمذهب الجعفري لم يذهب لا أئمته الأطهار ولا علمائه الإبرار ولا مفكريه هذا المذهب ...
وفقط هم أتباع ابن تيمية يحرمون الفلسفة ويضعونها في خانة الزندقة.
بعض تعارفي الفلسفة:-
· ((النظر في حقيقة الأشياء..· فهم ظواهر الطبيعة بالرجوع إلى أسبابها.· وهي نظر في الطبيعة وظواهرها وتاريخ وأسباب ظهورها واختفائها ، واصل الوجود ومآله، وكذا المجتمع وتطوره وأسباب تطوره أو نكوصه.))أما مجال عمل الفلسفة ومناهجها فمحل تجريبها في الوسط الاجتماعي سواء بالقبول أو الرفض بالصحة أو الخطأ، وهي لا تدعي الكمال والجمود بل التغير والتطور((لا ثابت غير المتغير)) ، فهي ترسم الأفق للعلم وتتكئ عليه في الآن نفسه ، تجدد وتتجدد مع تطور علوم الإنسان وتجاربه وغالبا ما يكون لها السبق في تأشير أفق التطور.....
الفلسفة لا تقسم ((فلسفة ماركسية وفلسفة رأسمالية )) كما يذكر الكاتب وإنما يمكن تقسيمها إلى الفلسفة ا لواقعية ((المادية )) وهي التي ترى سبق المادة على الفكر((إنا موجود فانا أفكر)) ، والفلسفة المثالية والتي ترى إن الفكر سابقا المادة ((أنا أفكر فانا موجود))...
وهنا فليس من يعترض على من ينتقد احد هذه المناهج الفلسفية أو يتبناها، أو يدحض آراء احد الفلاسفة من أي مدرسة كانت أو يتبنى آراءه ومنهجه... لكن ا ن يأتي احدنا ليشطب الفلسفة بشكل شامل ويكفرها، فهذا أمر لا يقبله ذو بصر وبصيرة ، وما هو جدير بالذكر إن هذا النهج وهذا القول والموقف من الفلسفة والدعوة إلى إعدامها إنما هو موقف فلسفي يستند إلى رفض كل ماهو جديد وكل ماهو نابه ومتسائل، ليفرض فلسفته الخاصة ومنهجه الخاص وعقيدته الخاصة ونفي وتكفير ما عداها.... ولاشك أن تعدد المذاهب إلا سلامية إنما هو نابع من التزام وتبني موقف ونهج فلسفي بذاته أصبح أنصاره ومريديه والمقتنعين به مذهبا، ولو تتبع الكاتب تاريخ نشوء مذهبه سيجد انه كان رأيا ومنهجا مرفوض وقد أنكرته وكفرته السلطة الحاكمة بناءا إلى فلسفتها الخاصة ومنهجها في الحياة والتفسير والتأويل ...
* الجريدة العدد ((6)) أيلول 2011.