الباب الثاني- مفهوم الأمَّة السورية


أولاً- تمهيدٌ فيه بيان:
في خضمِّ الحديث عن إقامة الإصلاح واجتثاثِ الفساد وعن السِّياسة والاقتصاد وبناءِ دولة المؤسسات، تبدو التفاصيل بحراً واسعَ الأبعاد لا تكاد تقفُ على ساحلٍ له، وتتحوَّل التشعُّباتُ الكثيرة وشجونُ المسائل إلى متاهةٍ لا مخرجَ منها إلا عبر الإحاطة بالصورة الكليَّة، وإدراكِ المشهد في إجماله قبل الخوض في ثناياه.
نقول ذلك لأنَّا نرى أنَّ الحديثَ في المسائل السابقة المذكورة حديثٌ قديمٌ يتجدَّد اليوم، لكنَّ الفارق الأهمَّ بين أطروحات الأمسِ والساعةِ لا يكمُن في امتداد المساحة التي يغطيها الحديثُ فقط، ولا في نوع الكلام وما رافقه من معطيات وأحداث على أرض الواقع أيضاً، بل يكمن - في رؤيتنا - في تلك الروح الجديدة التي لم نرَ لها نظيراً منذ عهد الاستعمار، والتي انبثقت من تحت ركام اليأس والإحباط والخوف والانشغال بالحاجات القريبة باحثةً عن هويَّة لها، تلك الروح التي سرتْ في أوصال سوريَة، فتآلف على التطلعِ إليها والتعلُّقِ بها الإنسانُ البسيطُ في سوقه ودكَّانه وخلف ماكينته والمفكِّرُ والمثقَّف والسياسيُّ والصغيرُ والكبير والمرأة والرجل.
وتجلَّى هذا الائتلاف حديثاً مشتركاً عن قضايا مشتركة، ولكن بعد أن توقَّدت في سرِّ الجميع جذوةٌ واحدة أضاءت باسمٍ واحد نادى به كلُّنا هو سورية.
فكيف نستجيب لهذا الحدث الجديد ؟
إنَّ الاستجابة لا تنحصر برأينا في تلبية التطلُّعات الظاهرة والمعلنة... عبر قوانين ونُظم نشرِّعها، أو عبر إصلاحات ندعو إليها ونقوم بها، مهما بلغت حُزَمها منالسَّعة والشمول والإتقان، ولكنْ في فهم طبيعة الروح الجديدة التي ظلَّت تلجلجُ في قُمقمها لسنين طويلة خلتْ ([1])، ولكنها تعلن اليوم انكسارَه مطالبةً بالاعتراف بما لها من هويَّة، كما تكمن الاستجابة في تقديم الفضاء الصالح لنموِّ هذه الهويَّة بعد استقرارها، وإلا غدا تحقيقُ المطالب القريبة تأجيلاً للأزمة الكبرى أو تسكيناً للألم فحسب.

ثانياً- لماذا نتحدَّث اليوم عن الهوية ؟
إذا كانت الهويَّة ([2]) هي: مانكون به نحنُ نحنُ، بوصفنا وجوداً متميزاً عن غيرنا، وهو تميُّز نابعٌ من إدراكنا لما يجمعنا، أي للفكرة التي نؤمن بها ويتحدَّد بناءً عليها دورنا في الحياة أو رسالتنا.
فإنَّ إثارة النقاش اليوم حول الهوية ضرورة لازمةٌ، وليست فُضولاً من القول أو تفلسفاً في غير مكانه، لأنَّ تلك الروح التي توَقَّدُ اليوم بين جنَبات السوريين تحتاج إلى ما يستوعبها ويحفظ لها ألَقها ويذكِّيها، كما يحتاج ذلك الكمُّ الهائل من المطالب والأفكار إلى إطار يجمعها وينسِّقها ويوضِّحها، ولا نجد في هذا المقام خياراًي حقِّق هذه المصالح التي نتطلُّع إليها إلا إعلان الهوية التي:

1-يتعلَّق بها الناس عبر الحبِّ:
فتغذي فيه مالشوقَ إلى السموِّ أو النزوع نحو الأفضل، وتحميهم من أن يتحوَّل الأمل المتراقص بالفرح أمام عيونهم إلى يأسٍ أو إحباط وهمود. ولقد ظلَّ وجود هويَّة جامعة من أقوى العوامل في حركة الأمم عبر التاريخ، ولا يفوتنا هنا أنَّ نلاحظ كيف غدا لاسم سورية اليومَ وَقْعٌ آخر في النفوس وعلى الألسنة، لم نعهد له مثيلاً في الحبِّ ودفء العلاقة منذ أمدٍ غير قريب.

2- تجعل حركتَهم عملاً واعياً:
عندما تحدِّد لهم مرجعيَّة هذه الحركة، وتوضِّح منطلقاتها وغاياتها ووسائلها، فتصونهم من أن يصير سعيُهم هذا إلى تجربة فاشلة، أو يكون ردَّة فعلٍ غير واعيةٍ ([3])، ونحن نرى ما يحفل به المشهد السوريُّ اليومَ من تخبُّط عند معظم الأطراف، وضبابية في الرؤية عند كثيرين.

3- تجمع شتاتهم وتؤلِّف بين أطيافهم:
وتكوِّن منهم فريقاً متجانساً متماسكاً، وتحصِّنهم من أن يتحوَّل تعددهم واختلافهم مدعاةً إلى التفرُّق والتشرذم، بل تجعل من ألوانهم المتباينة لوحةً متناغمة، بيِّنة الملامح، ونسيجاً محكم الحبك، ومَن ذا الذي يشكك في حاجة السوريين جميعاً في هذه المرحلة خاصةً إلى مثل هذا التماسك والتجانس ؟!

ثالثاً- السوريون بين الشعب والأمَّة:

ألمحنا من قبل إلى أهميَّة إيجاد تحديد جديد للمفاهيم الأساسية، ومن بينها مفهوما الأمَّة والشعب اللذان نستعملهما على وجه التقابل ([4]) بناءً على أصل الدلالة اللغوية لكلٍّ منهما، حيث نجد أن كلمة "الشعب" تنتمي إلى ما يسمَّى في اللغة العربية "ألفاظ الأضداد"، التي تحمل المعنى ونقيضه معاً، فكلمة الشَّعب تحمل معنى الجمع ومعنى التفريق في آنٍ واحد، يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي: (من عجائب الكلام ووُسع العربية، أن الشَّعب يكون تفرُّقاً، ويكون اجتماعاً) ([5]).
أمَّا كلمة "الأمَّة" فتحمل معاني متعددة، لكنها متآلفة غير متضادَّة، فنجدها تدلُّ على معاني الاجتماع والأصل والمرجع والغاية ([6]).
وإذا كان القدماء قد أدركوا - بناءً على الدلالة اللغوية- أنَّ الأمَّة كلُّ جماعة يجمعهم أمرٌ ما، حتى إنَّ جماعة الحيوان من صنفٍ واحد قد تسمَّى أمَّةً بهذا الاعتبار، كما في القرآن الكريم: ﴿ومَا مِنْ دَابَّةٍ في الأرضِ ولاطائرٍ يَطيرُ بجناحَيْهِ إلَّا أُمَمٌ أمثالُكمْ﴾ الأنعام:38.
فإنَّهم قد تباينت آراؤهم في الأمر الجامع الذي تسمَّى بناءً عليه جماعةٌ من الناس أمَّة، فرأى المسعودي أنَّ المكان الواحد أو الإقليم يجعل من سكَّانه أمَّة واحدة، وقسم أهل الأرض بناءً على ذلك إلى سبع أمم، بينما ذهب ابن خلدون إلى أنَّ أهل الزمان الواحد يُسمَّون أمَّة ([7])، وذهب آخرون قديماً وحديثاً إلى أنَّ الأمر الجامع هو الدِّين الواحد، وزعم غيرهم أنَّه العِرق الواحد، بينما رأى فريق ثالث أنَّه اللغة الواحدة.
ولكنَّنا نجد في القرآن الكريم إشارةً إلى دور الفكرة -سواءٌ أكانت صحيحة أم لا - في جعل المؤمنين بها أمَّة واحدة، كما في قوله تعالى: ﴿بل قالوا إنَّا وجدنَا آباءَنا على أمَّة وإنَّا على آثارهم مُهتدون﴾ الزخرف:22.
وفي قوله تعالى: ﴿ولتكن منكم أمَّة يدعون إلى الخير﴾ آل عمران:104.

- تعريفنا لمفهومي الشعب والأمَّة:
وبناءً على المعنى اللغويِّ للشَّعب والأمَّة، ومع ملاحظة التطور الدلالي الذي أحدثه القرآن الكريم لكلا المفهومين، عرَّفناهما بما يلي:
الشَّعب: اجتماع عددٍ من الناس تحت نظامٍ واحدٍ يخضعون له، فإن ارتفع عنهم هذا النظام تفرَّقوا وعادوا شُعَباً، أي جماعات يشكِّل كلُّ واحد منها شُعبةً قائمةً بذاتها.
والأمَّة: اجتماع الإنسان مع الإنسان على فكرةٍ تتضمن منطلقاً ومرجعاً وغايةً، تحدِّد هذه الفكرة ما تمتاز به الأمَّة على بقية الأمم ودورها في الحياة، سواءٌ أكان سلبياً أم إيجابياً.
فالأصل في اجتماع الشعب - كما رأينا - النظامُ الموضوع عليه، والذي قد يكون قسريَّاً أو نابعاً من مصلحة، فإذا ارتفعت القوة الفارضة أو انتفت المصلحة عاد أفراد الشعب كلٌّ إلى أصله.
ونضرب لذلك مثلاً الشعب اليوغسلافي الذي تكوَّن تحت قوة حكم "تيتو" من قوميات متعددة على رأسها الصِّرب والكروات بالإضافة إلى البوسنيين المسلمين، فلما انهار الحكم الشيوعي تفرَّق هذا الاجتماع، وعادت كلُّ شعبة لتستقلَّ بنفسها. كما يصدق الأمر نفسه على شعب الاتحاد السوفييتي السابق، الذي تفرَّق مع انهيار الدولة المركزية الشمولية.
أمَّا الأمَّة فالأصل في وجودها الفكرةُ المعبِّرة عن تصوُّرها لدورها في الحياة:
يترافق وجود هذه الفكرة مع قيام نظام يحكمها، وهو الشكل الأرقى للأمَّة؛ كما نجد قديماً في حالة الأمَّة الإسلامية التي قامت على فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكما نجد حديثاً في حالة الأمَّة السويسرية التي تقوم على فكرة الحرية والعدالة.
وقد لا تتمتع الأمَّة بهذا النظام لطارئ يعرض لها، إلا أنها تبقى قادرة على إفراز النظام المتوافق مع فكرتها، بزوال الطارئ وارتفاعه، كما نجد تاريخياً في حالة انهيار نظام الخلافة العباسية على يد التتار، لكنَّ الأمَّة بقيت رغم الهزيمة العسكرية، واستطاعت أن تحوِّل الغزاة ليدخلوا في دينها خلال سنوات.

فإذا ما طرح أحدٌ علينا السؤالين التاليين:
1- هل يكوِّن السوريون أمَّة ؟
2- وما هي الفكرة التي تقوم عليها هذه الأمَّة ؟

(يتبع)



([1]) لعلَّها تمتد إلى عدَّة عقود فوق مئة سنة، وتعود إلى أواخر العهد العثماني، وهو مدى زمنيُّ ينبغي وعيُه عند محاولة الفهم المذكورة، فليس من العلميِّ في رأينا أن نتناول فترة حُكم البعث بالدرس والنقد وإحالة أصول المشكلات إليها، ونغفل عن كونها حلقة مرتبطة مع أخرى سبقتها، ونتيجةً منسجمة مع مقدمات تعود إلى زمن أقدم.
([2])الهويَّة عندنا - وفاقاً لتعريف أستاذنا العلامة محمود عكام - هي ما يُجيب به الإنسان الآخرين عندما يُسأل: ماأنت ؟ ونستعملها في مقابل الشخصيَّة، وهي التي يجيب بها الإنسان عندما يُسأل: من أنت؟
والفارق بينهما أنَّ الثانية (الشخصية) تحدِّدها عوامل هي في الغالب عوامل جبرية، لا اختيار للإنسان في أساسياتها، فإنْ سُئلتُ: من أنتَ ؟ قلتُ: أنا فلانٌ، المولود في زمنٍ هو كذا، في مدينةٍ هي كذا، من أبوين ينتميان إلى الجماعة الفلانية... إلى آخر ذلك من التحديدات التي لم يكن لي مساهمةٌ في اختيارها، وبالتالي لا مسؤولية عليَّ فيها.
وأمَّا (الهويَّة) فتحدِّدها عوامل اختيارية عموماً، فإن سُئل إنسانٌ: ما أنت ؟ قال: أنا المؤمن بكذا، الساعي إلى الأهداف التالية، المجتمعُ مع المتَّصفين بكذا في الرابطة الفلانية... وهكذا يتابع معدِّداً من العوامل تلك التي اصطفتْها إرادةُ الإنسان وقدرته، فهو مسؤولٌ عنها إذن.
فإذا انتقلنا إلى الحديث عن الهويَّة الجماعية أكَّدنا على ما قلناه عند الحديث عن الهويَّة الفردية، من حيث الاختيار القائم على الإرادة والقدرة، وأضفنا ما يعزِّز ذلك فقلنا: إنَّ الهوية هي ما نكون به نحن نحن... إلخ.
([3]) لعلَّ الوعي هو الفارق الأهمُّ ما بين الفعل الغريزي الحيوانيِّ والعمل الإنساني، وهو الفارق الذي يؤهل العمل الإنساني ليكون قابلاً للمراجعة والتحسين، لأنَّ الحيوان وإن كان يُحدث تغييراً في الطبيعة إلا أنه لا يَعي أبعادَ أفعاله ولا نتائجها، بخلاف الإنسان.
([4]) انظر مشروعنا (شركاء في الإصلاح)، ص15-16.
([5]) ابن فارس القزويني: معجم مقاييس اللغة، مادة شعب.
([6]) ابن فارس القزويني: المصدر السابق، مادة أمم.
([7]) محمد أحمد خلف الله: التكوين التاريخي لمفاهيم الأمَّة والقومية. في: القومية العربية والإسلام، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، ص21. والمسعودي: التنبيه والإشراف، 1/67، دارالصاوي، القاهرة.