أسئلة الأستاذة ريمة الخاني
تعددت مناهج التجديد الدعوي ومناهج التجديد الاجتهادي، بصرف النظر عن الأفكار التي لم تحمل منهجية منها.. إلخ. ألا ترى معي أستاذنا الكريم, أن بعضها يأخذ الأمر من زوايا هامة لو جمعت معا لشكلت تجديدا شاملا هاما جدا. وهناك مناهج متضادة لو جاز الأمر.. ولو فكرنا بالتطبيق العملي لها حتى لا تكون فكرا على ورق كما يقال، لوجدنا معوقات حقيقية هنا. كيف يمكننا التأليف بينها؟ ونحن نحتاج لتآلفها فعلا لافتقادنا لوحدة المنهج ولكي نقطف ثمرة ناضجة. كيف ترى التجديد من هذه الزاوية، ونحن لم نحقق وحدة الكوادر المرجعية سابقا لنحققها الآن؟ أليست الأولوية لإيجاد قواسم مشتركة تجمعها معا؟ حبذا لو تحدثناعن هذا الأمر بدقة لو أمكن.
الإجابة
الفكرة التي لا تستند إلى منهج يؤصلها ويمنحها مشروعيتَها، ليست اجتهادا ولا تنطبق عليها معاني التجديد، بل هي شطحةٌ أقربُ إلى الهرطقة الذهنية والتجديف العقلي، منها إلى مفهوم "الاجتهاد" أو حاضِنِهِ "التجديد". وهي في المحصلة عاجزة عن أن تقدم في مجال تجديد حياتنا ودعم نهضتنا ورفد قضايانا بعوامل التعامل البناءة معها، أو أن تُأخِّر. من هنا فهي لا تعنينا ولا تهمنا في هذا السياق.
والتجديد من حيث هو مصطلح نعني به "إعادة تأصيل قراءتنا للمرجعيات المعرفية التي قام عليها تاريخنا، في ضوء ما يتطلبه واقعنا ومستقبلنا"، لا يفرق بين تجديد "دعوي" وآخر "غير دعوي" – أو اجتهادي كما أطلقتِ عليه في سؤالك - لأن الاجتهاد باعتباره مصطلحا نعني به "بذل الجهد في تحري الحقيقة، بالاستناد إلى نمطٍ محدَّدٍ في قراءة المرجعيات المعرفية"، هو مصطلح ومفهوم أضيق من مصطلح ومفهوم "التجديد"، ويأتي لاحقا له، مادام الأول – وهو الاجتهاد - يتم في حاضِنَةِ الأخير، وهو "التجديد".
فالاجتهاد - وهو الأداة المباشرة التي يستخدمها المُجتهد في استنباط الأفكار والرؤى والأحكام والحلول، من المرجعيات المعتمدة لديه – ليس واحدا في كل "مناهج التأصيل". فلكل إطار تأصيلي تصوُّرُه الخاص لما يجب أن يكون عليه الاجتهاد.
فليس الاجتهاد في المنهج المستند إلى مرجعيات "التشيُّع" هو ذاتُه، وسائلَ وأدواتٍ وصلاحياتٍ وأهدافا، في المنهج المستند إلى مرجعيات "الاعتزال"، ولا هو فيهما ذاتُه في المنهج المستند إلى مرجعيات "الأشاعرة".. إلخ. وبالتالي فالمنهج التجديدي المستند إلى مرجعيات مختلفة عن كل ذلك، سوف يُنتج اجتهادا له ركائز وأدوات وأهدافا، تختلف عن كل أنماط الاجتهاد التي أنتجتها مرجعياتٌ أخرى.
ومعنى هذا، أن التجديد بمعناه السالف يتوسع ليطالَ الاجتهاد، كما يطال الدعوة، ويتمدد ليطال كل مكونات الحياة الفردية، كما يطال كل مكونات الحياة المجتمعية. وبالتالي فكل ما سيطاله التجديد سيخضع لمنهجه. فليس منسجما مع طبائع الأمور، ولا مع مسلمات العقل، أن يكون مجال التجديد أوسع من مجال الاجتهاد، ومع ذلك نجدد الأصولَ لكي نبقى محكومين اجتهاديا وفق أصول مختلفة، قمنا بالتجديد أصلا بسبب اختلافنا مع مُنتجاتها المعرفية، وعلى رأسها "الاجتهاد" المرتكز إليها ذاته.
فإذا كان التجديد كما مر معنا هو "إعادة تأصيل قراءتنا للمرجعيات المعرفية التي قام عليها تاريخنا، في ضوء ما يتطلبه واقعنا ومستقبلنا"، وإذا كان الاجتهاد هو "الأداة المباشرة التي يستخدمها المجتهد في استنباط الأفكار والرؤى والأحكام والحلول، من المرجعيات المعتمدة لديه"، بعد أن يكون التجديد قد أعاد إنتاجها وفق أصول قراءته الجديدة للمرجعيات، فمن الطبيعي أن يكون أول حقل من حقول المعرفة يطالها "التجديد" بعد استتباب الأمن المعرفي لأصوله وقراءاته، هو "الاجتهاد" وسائلَ وأدواتٍ وصلاحياتٍ وأهدافا، لتبدأ بالتدفق بعد ذلك "الرؤى والاستنباطات والأحكام" في باقي الحقول المعرفية.
وفي ضوء التوضيحات السابقة، يجدر بنا التأكيد على أن من "يأخذ الأمر من زوايا هامة" – كما أشرتِ – ليقدم رؤاه الجديدة بخصوص هذه الزوايا مستثنيا باقي الزوايا من أن تطالها تلك الرؤى، هو في الواقع ليس مجددا ولا يطرح منهجا للتجديد – بالمعنى الذي أشرنا إليه للتجديد – وإنما هو مجتهدٌ وفق رؤية أصولية قائمة، لجأ إليها معتبرا إياها مرجعيته الأساس. وسيجد نفسه مختلفا ومتعارضا حتى مع آخرين يرتكزون إلى مرجعيته الأصولية نفسها، ناهيك عن المجددين الذين يقيمون صرحَ تجديدهم على قراءات مختلفة في كل شيء، للمرجعيات التي قام عليها التاريخ كله.
لأسباب سياسية تاريخية تم تأصيلها معتقديا، ويمكننا الحديث عنها في محاور أخرى للنقاش، لم يتعود المسلمون – وربما أن هذا هو واقع مختلف التجمعات البشرية القديمة – على اعتبار أن اختلاف المناهج في سياقها المعتقدي والأصولي، أمرٌ مشروع ومقبول ولا ضير فيه. ولا هم تصوروا أنه ليس مطلوبا أن يكون الالتقاء وأن تكون القواسم المشتركة، قائمة في البناء المعتقدي والأصولي للأشخاص والتجمعات. وهو ما جعلهم يتساءلون – عندما يتساءلون عن نبذ الخلاف وتخفيف حدة النزاعات – عن الوحدة والتقارب والحوار والقواسم المشتركة، بحثا عن محدداتها ومكوناتها في المرجعيات والأصول والعقائد، وليس في مكونات السياسة، وفي محددات الحياة المدنية، وفي مؤطرات التعايش الاجتماعي بين مختلف الفئات والفرق والمكونات المجتمعية.
من المستحيل أن يتفق البشر – والمسلمون منهم وعلى رأسهم – لا في مناهجهم الأصولية، ولا في فلسفاتهم المفسرة للوجود، ولا في معتقداتهم الناظمة لعلاقاتهم مع الله، ولا في تصوراتهم للحياة وصيرورتها وطرائق تمريرها، حتى وهم يقرأون بتلك المناهج، ويفسرون بتلك الفلسفات، المرجعياتِ المعرفية نفسها، ولا حتى وهم ينطلقون منها في تنظيم تلك العلاقات مع الله. ومع ذلك فعليهم أن يتعايشوا، وإلا فإنهم سيقتتلون ويتناحرون.
وفي ظل هذه الحقيقة التي حكمت التاريخ البشري والتي ستبقى تحكمه، دون أن يشذَّ عنها تجمع بشري، ودون أن تُستثنى منها جغرافية مكانية أو زمانية أيا كانت، فإن البحث عن القواسم المشتركة للتعايش في تلك المناهج والفلسفات والمعتقدات، للاعتراف للمتفقين فيها وحدهم بحق التعايش والالتقاء، وإقصاء الآخرين واستثنائهم من أن يكون منتجين وفاعلين في المجتمع وفي الحياة، وفق رؤاهم ومنطلقاتهم الأصولية والفلسفية، هو بحث في سراب، ولن يؤدي إلا إلى خلق كل أنواع الاحتراب والاقتتال والإقصاء والتكفير.. إلخ. وهذا تاريخ البشرية – ومنه وعلى رأسه التاريخ الإسلامي – فلنقرأه ولنتفحصه، لنتأكد من صحة ما نقوله.
لا بل ربما إن التاريخ الإسلامي قد عاني من هذه المسألة معاناة خاصة أكثر من أي تاريخ آخر، لا بسبب ثغرة مستحكمة ومتأصلة في الإسلام عندما يصار إلى تطبيقه على أرض الواقع - فهذا أبعد ما يكون عنه - بل بسبب أن هذا الدين هو – من حيث المبدأ – أكثر الأديان إنسانية وإشراقا واعترافا بالآخر وإقرارا بالتنوع ومطالبة بتعايش المختلفين، مهما توسعت دوائر اختلافهم، ومهما تعارضت وتناقضت أنماط قراءاتهم الأصولية. وبالتالي فهو يتيح لمعتنقيه فضاءات من التباين المعرفي الأصولي، حتى في قراءة مرجعياته الأساس "القرآن والسنة"، أكثر مما يتيحه أي دين أو نظام آخر في قراءة المرجعيات. وهو الأمر الذي جعل التنوع والتباين والاختلاف، حتى في الأصول والمرجعيات وفي طرائق قراءتها والتعامل معها، واسعا وشاسعا في هذه الأمة وعلى امتداد تاريخها، في ضوء فضاءات التنوع التي يتيحها هذا الدين.
ومن هنا فعندما يصار إلى البحث عن القواسم المشتركة الموجبة للتعايش بين مُكَونات مجتمع شديد التنوع والتباين الطبيعي فيه - بسبب طبيعته هو في الأساس - في مبررات ذلك التنوع والتباين نفسها، وليس في إطار معرفي آـخر يترك هذا التباين وشأنه دون مساس به، فإن المسألة تغدو معقدة، لأن هذه المكونات ستضيق – خلال البحث عن القواسم المشتركة - إلى أبعد الحدود. وعندما يحدث ذلك يصبح التنوع كفرا ومروقا، وخروجا على التعايش، فيحمى وطيس معركة تجميع ما لا يمكنه أن يجتمع على أسس التجميع المتبعة!!
ولعل هذا ما حدث في تاريخنا الإسلامي وبقوة السلطة، عندما كانت تتعارض مصالح السلطان مع قدر كبير من التنوع أتاحه الإسلام ذاته، وكان يعطي للمتنوعين أفقا واسعا من السلطة الموازية للسلطة القائمة، تمكنها من تحجيم دورها ومنعها من التغول والتسلط والاستبداد. وقصص نبذ العلماء والمفكرين، وإرهاب الفلاسفة أو تحجيمهم وسط العامة على الأقل، فضلا عن مواجهة المخالفين فكريا ومعتقديا بل وفقهيا أحيانا.. إلخ، معروفة للجميع. وهي جميعها كانت تحدث في إطار "مرجعية أصولية" تريد أن تدعم سلطانَها في مواجهة قوة الأمة التي يتيحها التنوع، عبر إضعافها وإضعاف أدائها، بهذا الاختزال المقيت لمعنى التعايش، ليصبح تعايشا معتقديا وأصوليا، بدل أن يكون تعايشا مصلحيا وسياسيا ومدنيا، وذلك بالقفز على روح الإسلام الموجبة لإتاحة الفرصة للتنوع والاختلاف بأوسع مدى من مدياته.
وبناء على ما سبق نستطيع القول أن أي محاولة لجعل التقارب بين الناس في مجتمع معين، قائما على أساس تقاربهم في مناهج أصول فهم المرجعيات الدينية، ولاختزال مبررات تعايشهم السلمي الآمن، من فضائها المدني الواسع، القادر على ضم أكبر لوحة من لوحات فسيفساء التنوع، إلى فضاء معتقدي ضيق يعتبر من يخرج عنه خارجا عن استحقاق صفة الانتماء إلى خريطة التنوع المعترف بها، هي أولا وقبل أيِّ شيء نوع من أنواع تأصيل الإقصاء، وشرعنة القتل ونصب أعواد المشانق وتجهيز المقاصل لسحل المخالفين، بحجة أنهم خرجوا عن الأصول والمعتقدات التي يفترض أنها هي القواسم المشتركة. ونحن إذ نؤكد على ذلك، فلأننا نعتبر التحييد والتغييب والإقصاء بكل أشكاله، لا يقل انتهاكا لحق الإنسان عن الاعتداء على حياته ذاتها.
فلنبحث عن التقارب والتعايش بين "المناهج" و"الفلسفات" و"المعتقدات" المتبانة والمتعارضة، عبر إيجاد قواسم مشتركة يقوم عليها هذا التعايش وذاك التقارب، وتكون مدنية الطابع، سياسية المضمون، اجتماعية المردود، تضمن للجميع حقوقهم المعتقدية والأصولية بعيدا عن ادعاء امتلاك الحقيقة واحتكار اليقين. ولنتخلى عن إصرارنا على البحث عن قواسم مشتركة في إطار معتقدي وأصولي، فهذا غير ممكن، فضلا عن أنه غير مُنتج لحياة فعالة ومُنتجة لعناصر النهضة والقوة والمنعة، ولنعتبر بالتاريخ – وأوله تاريخنا – وبتجارب الآخرين، وأولها كل تجارب الإقصاء التي شهدها العالم وعلى رأسها تجاربنا نحن في هذا الوطن العربي المكلوم بمحتكريه وبإقصائييه من كل صنف.
الاختلاف لا يخيف ولا يرعب مهما كانت آفاقه وفضاءاته، إذا قام في مجتمع هيأ له كل دواعي التعايش السلمي المدني الآمن. ولنتذكر دائما قول الله سبحانه وتعالى: "ولا يزالون مختلفين، ولذلك خلقهم". فكل من يحاول أن يقفز على جوهرية الاختلاف بأوسع مدياته في الحياة، ويقضي عليه ويختزله ويحجمه، فهو إنما يناجز إرادة الله ويتحداها ويعلن عدم رضاه عنها وعدم رغبته فيها. والأفضل له أن يضيع جهده ووقته في البحث عن أدوات تعايش مدني تكفل إنتاج الحياة بكل تنوعها وتباين صورها، من قلب الاختلاف بكل فضاءاته وآفاقه ومدياته.
مع خالص الشكر
أسامة عكنان