ثالثا: الناشئ ناقدا:



1 - عن مكانته النقدية:



لعل أول إشارة للجانب النقدي عند الناشئ هي التي ذكرها أبو حيان التوحيدي في كتابه: (البصائر والذخائر حين قال:

« وما أصبتُ أحدا تكلم في نقد الشعر، وترصيفه أحسن مما أتى به الناشئ المتكلم، وان كلامه ليزيد على كلام قدامة وغيره...» (27).

وهو حكم من رجل تابع النشاط الفكري للقرن الرابع الهجري، حيث بلغ النقد العربي أوجه، فما وجد أحدا تكلم في نقد الشعر ما فعل الناشئ، بل وجد كلامه يزيد على كلام قدامة بن جعفر(337هـ) وغيره.


وقد ذكر له أبو حيان كتابا بعنوان (نقد الشعر) وأسماه ابن رشيق في العمدة (تفضيل الشعر)، ولا يعرف أهو كتاب واحد أم كتابان. ولم يبق من آثاره سوى نصوص قليلة نجدها مبثوثة في (البصائر والذخائر، وفي العمدة لابن رشيق، وفي زهر الآداب، وفي ما يجوز للشاعر في الضرورة). ومما تميز به الناشئ أنه عبر عن كثير من الحقائق النقدية في شعره، وقدم صورة لصناعة الشعر، وأغراضه، كما سنرى.

ولعل أهم من توقف عند الجانب النقدي عند الناشئ:

- د.إحسان عباس في كتابه (تاريخ النقد الأدبي عند العرب) - ط1،1971 - ص16،63 - 66.

- د.يوسف حسين بكار في مقالة بعنوان (الناشئ الأكبر ناقدا) : مجلة الأديب اللبنانية حزيران،1974 ص 22 - 26 .

- د.مصطفى الجوزو في كتابه (نظريات الشعر عند العرب) ، ص 176، (ط1، 1981).

- هلال ناجي في تقديمه للديوان:المورد عدد(2) المجلد 11 سنة 1982 ص 64-66.


يرى د.إحسان عباس « أن النقد الأدبي ولد في حضن الاعتزال (الجاحظ - بشر بن المعتمر- الناشئ الأكبر) والمتأثرين به»(28).

وبدا له أن الناشئ قد خص النقد الأدبي بالتأليف، فقد وجد من خلال النقول الواردة في كتاب ( البصائر والذخائر) أن الناشئ عرف الشعر ووصفه، وتناول موضوعات الشعر، وما يتصل منه بالغزل والنسيب، وذكر أن النصوص التي وصلتنا من الكتاب تدل على نزعة أدبية خاصة في الكلام على الشعر، وانتهى إلى القول:« ومهما تكون طبيعة هذه المحاولة، فان نسبتها إلى الناشئ الأكبر أمر هام؛ لأنها تؤكد أن الدوائر الاعتزالية كانت من أكثر المجالات اهتماما بالنقد سواء منه ما تناول الخطابة وما تناول الشعر» (29).


2 - مفهومه للشعر:

جاء في البصائر والذخائر:

« وقال الناشئ أبو العباس في "نقد الشعر": الشعر قيدُ الكلام، وعِقال الأدب، وسُور البلاغة، ومَحَلُ البراعة، ومَجَال الجَنان، ومَسْرح البيان، وذريعةُ المتوسِّل، ووسيلة المتوصَّل ، وذِمام الغريب، وحُرمة الأديب، وعِصمة الهارب، وعُذر الراهب، وفَرْحَة المتمثل، وحاكم الإعراب، وشاهد الصواب» (30).

فالشعر عنده مقيد بوزن، وهو مجال للإبداع، ووسيلة بيان وتواصل بل هو وسيلة لغايات كثيرة. ومن مهماته أن يكون شاهد إثبات على كثير من الحقائق الإنسانية واللغوية والنحوية.




3 - موضوعات الشعر ومجالات القول فيه:

« قال الناشئ أبو العباس الكبير: أول الشعر إنما يكون بكاءً على دمن، أو تأسفاً على زمن، أو نُزوعاً لفراق، أو تلوعا لاشتياق، أو تطلعا لتلاق، أو أعذارا إلى سفيه، أو تغمدا لهفوة، أو تَنُصُّلا من زلة، أو تحضيضا على أخذ بثأر، أو تحريضا على طلب أوتار، أو تعديدا للمكارم، أو تعظيما لشريف مُقاوم، أو عتابا على طوية قلب، أو إعتابا من مُقارفة ذنب، أو تعهُّدا لمعاهد أحباب، أو تحسُّرا على مشاهدة أطراب، أو ضربا لأمثال سائرة، أو قرعا لقوارع غائرة، أو نظما لحِكَم بالغة، أو تزهيدا في حقير عاجل، أو ترغيبا في جليل آجل، أو حفظا لقديم نّسّب، أو تدوينا لبارع أدب» (31).

تناول الناشئ في هذا النص ما يتعلق موضوعات الشعر، ومجالات القول؛ مما تقرر في أغراض الشعر. ويبدو أنه لم يُسبق إلى مثل هذا.


كما تناول موضوعات الشعر في القصيدة الآتية، وبين صنعة الشعر وحدد موقفه منها. ومناسبة هذه القصيدة أنه تكلم أناس في الشعر عند أبي الصقر إسماعيل بن بلبل [ تولى الوزارة للمعتمد العباسي، وقد مدحه البحتري وابن الرومي، وتوفي سنة 278هـ] من حيث لا يعلمون، فكتب إليه أبو العباس الناشئ هذه القصيدة من الخفيف (32):

لعن اللهُ صَنعةَ الشعر، مـــاذا ..... من صنوف الجُهال فيها لقينا؟

يُؤثرون الغريبَ منه على ما ..... كان سهلا للســامعين مبينا

ويرَوْنَ المُحالَ شيئا صحيحا ..... وخسيسَ المقال شيئا ثمينا

يجهلون الصواب منه ولا يَدْ ..... رون، للجـــهل، أنهم يَجهلونا

فهمُ عند مَن ســوانا يُلامــــو ..... نَ، وفي الحق عندنا يُعذرونا

إنما الشعرُ ما تناسبَ مع النظــــ ..... مِ، وإن كان في الصفات فنونا

فأتى بعضُه يُشــاكلُ بعضـــا ..... قد أقامـت له الصدور المتونا

كل معنى أتاك منه على مـــا ..... تتمــــنى لو لم يكن أن يكونا

فتناهى من البيان إلــــــى أن ..... كاد حسنا يبينُ للنــــاظرينا

فكأن الألـــــفاظَ منه وجـــــوهٌ ..... والمــعاني رُكِّبْنَ فيها عيونا

فائتاً في المَرام حسْبَ الأماني ..... فيُحلى بحسنه المُنشدينا

فإذا ما مدحتَ بالشعر حُـــــرّاً ..... رمتَ فيه مذاهب المُسهبينا

فجعلتَ النسيبَ سهـــــلا قريا ..... وجعلتَ المديحَ صدقا مُــــبينا

وتنكَّبْتَ ما يُهَجَّنُ في السمْـ ..... عِ، وإن كان لفظـــه مــــوزونا

وإذا ما قرضْـــتَه بهجــــــــاء ..... عِفْتَ فيه مذاهب المُرفثــينا

فجعلتَ التصــــريحَ منه دواءٌ ..... وجعلتَ التعـــريضَ داءً دفينا

وإذا ما بكيتَ فيه على الغا ..... دين يوما للبين والظاعـــنينا

حُلْتَ دون الأسى، وذلَّلتَ ما كا ..... نَ من الدمـع في العيون مَصونا

ثم إن كنتَ عاتبا شُْبْتَ في الوعْـ ..... دِ وعيدا، وبالصــــــــعوبة لينا

فتركتَ الذي عَتِبْــــــــتَه فيه ..... حَذِرا، آمـنا، عـزيزا، مهــــينا

وأصحُّ القريض ما فات في النظـم ..... وإن كان واضــــحا مستـبينا

فإذا قيل أطمــعَ الناسَ طُرا ..... وإذا ريم أعجـز المُعــــجزينا




وهو يرى أن الشعر ما تحقق فيه التناسب والمشاكلة في النظم، وجاء سهلا صحيحا يكشف عما في النفس، معانيه تأتيك كما تتمناها، وتتمثل شاخصة للبصر من شدة وضوحها، وحدد ما به يتميز كل غرض شعري. ورأى في نهاية القصيدة أن أصح القريض ما لا تناله القرائح؛ من سمعه يحس أن يستطيع أن ياتي بمثله، وحين يحاول يعجز عن إنجاز مثله.



وقال في القصيدة الثانية (33):



والشعر ما قوَّمْتَ زيْغً صـــدوره ..... وشدَدْتَ بالتهذيب أَسْرَ متونهِ

ورأبْتَ بالإطناب شعْبَ صدوره ..... وفتحتَ بالإيـــــجاز عُورَ عيونهِ

وجمـعتَ بين قريبه وبعيـــده ..... ووصلتَ بين مَجَمّــــِهِ ومَعينِهِ

فإذا بكيْتَ به الديارَ وأهـــلَها ..... أجـريتَ للمخـزون ماءَ شؤونه

وإذا مدحتَ به جواداً ماجداً ..... وقضيـــــْتَه بالشكر حقَّ ديونِهِ

أصفيْتَه بنفيـــسه ورصينه ..... وخصّصــْتَه بخــطيره وثمـــينِهِ

فيكونَ جزلا باتساق صنوفِهِ ..... ويكون سهلا في اتفاق فـــنونه

فإذا أردتَ كنايــــةً عن ريبِهِ ..... بايْنتَ بين ظــــهوره وبُطـــونِهِ

فجعلتَ سامعَه يشوبُ شكوكَهُ ..... ببيــــانه وظــــــنونه بيقــــينه

وإذا عتْــــتَ على أخٍ في زلة ..... أدمجْتَ شــِدَّتَه له في لينِهِ

فتركتَه مسأتنســــاً بدماثةٍ ..... مُستيئساً لوُعـــــوثِه وحُزونِهِ

وإذا نبَذْتَ إلى التي عُلِّقْتَها ..... إن صارمَتْكَ بفاتــنات شؤونه

تَيَّمْتَها بلطيـــــــفه ودقيقه ..... وشغَفْتَها بخبـيئهِ وكمــــينِه

وإذا اعتذرْتَ إلى أخ من زلةٍ ..... واشكْتَ بين مُحـــيله ومُبينه




وقد مهد ابن رشيق بهاتين القصيدتين للحديث في أغراض الشعر وصنوفه؛ ذلك أن الناشئ يقدم توجيهات لمن طلب الشعر في غرض من أغراضه؛ مُبينا حقيقة ذلك الغرض في نفسه ونفس متلقيه. ولا يشك أحدٌ في استفادة ابن رشيق من حديث الناشئ عن أغراض الشعر.

وفي ضوء ما ورد في القصيدتيْن لا حظ د. يوسف بكار أن الناشئ من الذين تحدثوا عن كيفية بناء الشعر ونسجه، وممن رأوْا التنقيحَ ضرورةً، وممن ربطوا بين اللفظ والمعنى ربطا مُحكماً، وأنه مهّد الطريق لمن بعده من النقاد في كيفية تناول كل فن من فنون الشعر.

يقول د. مصطفى الجوزو: يبدو أنه أول من عرف الشعر بالنظم؛ منكرا الغريب والمُحال فيه، وأنه من أنصار تثقيف الشعر(34).

ولعله بعد تناول الشعر جملة، وقف عند كل غرض غرض. ومما قاله في موضوع الغزل والنسيب هذا النص الذي ورد في ( البصائر والذخائر).




الهوامش

27 - البصائر والذخائر:2/109

28 - تاريخ النقد الأدبي عند العرب: د. إحسان عباس، ص16 – ط1 [ بيروت، مؤسسة الرسالة،1981].

29 – نفسه، ص63

30– البصائر والذخائر:5/218 – 219

31 – نفسه:5/209 – 210

32 – العمدة:2/748 – 749

33 –نفسه:2/751 – 752

34 – نظريات الشعر عند العرب: د. مصطفى الجوزو، ص196 – ط1 [ بيروت، دار الطليعة، 1981].


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي