يقول غسّان جملة قصيرة، محّشوة بألف سؤال.!
"إنه ثمن باهظ بلا شك أن يشتري الإنسان حياته اليومية، بموت يومي"
أية فلسفة سهلة تنساب بين هذه الكلمات المقتضبة التي أسالها غسّان مختصراً مسافات شاسعة من التنظيرات، ومعلناً سباقاً "بنصفه الذي بقي حيّاً" بدأ لتوه مع ذلك المجهول الذي غزا جوفه، وأعلنه طبيب في عيادة متواضعة، قال كلمة واحدة، رفعت جداراً عملاقاً انتصب في لحظة بينه وبين الحلم والأمل.. السكري..!
الموت من هنا يعلن زحفه.. يبدأ غازياً خفّياً للشرايين، ثم ينقّض في لحظة غائبة، يقضم ساقاً أو ينتزع عيناً أو لساناً.. هو هكذا.. كان في ذلك الوقت، وما زال..
هكذا تصبح الصورة.. يتبدل العالم من حوله إلى زجاجات وقوارير، وحقن يغرزها في لحمه تحمل إلى عروقه كل صباح ومساء شحنات [أنسولين].. أو قضمات من السّكر، تحقق التوازن إلى حين. وهو يعلم أنها تفعل ذلك إلى حين.!
لم يستسلم.. بل أعلن السباق.!
من هنا أخوض ومن هنا أشير تحديداً إلى مرحلة حياته الممتدة بين 31/5/1959 يوم اكتشفنا بحزن مرضه بالسكري، ويوم استشهاده في 8 تموز 1972..
مرحلة عمر امتدت ثلاثة عشر عاماً، عبأها قدر ما يستطيع من فيض عطائه، فامتلأت بإنتاج قل نظيره من أديب قضى ولمّا يتجاوز السادسة والثلاثين من عمره، تاركاً إنتاجاً ملوّناً فاض أضعاف ما تستوعبه تلك السنوات القليلة من عمر الزمن. حققّه عبر رسم صارم جرى تخطيطه بدراية وإصرار أيضاً. وبالتزام مطلق للمضي مستقيماً في ثلاث مسالك متوازية..
عمل على تكثيف إنتاجه الأدبي الغزير في مجالات القصة والرواية والمسرحية والمقالة والبحث والتعليق والخاطرة والنقد والنقد الساخر والرسم والتخطيط والنحت... الخ.
كّم مذهل تركه بيننا، شحنه بفيض إبداعاته لخدمة هدف واحد لم يحد عنه قيد شعرة.. يحمل عنواناً واحداً أثيراً.. "فلسطين"..
كل ذلك جرى ويجري تماماً إلى جانب تّحد من نوع عجيب وسباق مع الموت أو ما حسبه يأتيه بالموت..
أطبق بقدرة استثنائية على المسالك الثلاث التي نصّبها هدفاً لما تبّقى من مسيرته في الحياة..
ولعلني أستطيع أن أضيف أن غسان حلّق في كل المجالات، أجاد وأبدع، وأضاف إلى مفهوم ركيزة النجاح صفة غير مسبوقة تمثّلت بمجد لم يسع إليه، بل أتاه طيّعاً.. لأنني أعلم عن يقين أنه لم ينشد في أي يوم مجداً شخصياً بدليل أنه اختفى طويلاً وراء أسماء مستعارة متعددة، وحين يعلن اسمه، يهدي إنتاجه إلى آخرين أكثر استحقاقاً.. وهذا ما لن أستفيض بذكره بعد أن أفاض الكثيرون فيه تحليلاً ودراسةً واستنباطاً على قدر لم ينله أي مبدع عربي سواء بإنتاجه، أو بشخصه على ما أعرف..
كان جل ما ينشد.. الوطن، هذا المفرود على مساحة رؤياه في كل وقت.. الوطن هو الغاية وهو الطريق، مسخّراً السياسة والأدب ووسائل النضال والحركة اليومية وسيلة تأتي طيّعة بين يديه لتقريب العودة دون سواها إلى فلسطين كل فلسطين بتاريخها وجغرافيتها وتقاليدها وآثارها وقيمها ومعالمها.. بالمعنى والقيمة والمادّية..
واتفق مع الجماهير وأمانيها على الانتقال من صورة لاجئين قدرهم الاستجداء واستدرار العطف والشفقة، إلى مقاتلين وفدائيين وأصحاب قرار، ينصبون خيمة جديدة، تضع على ألسنة الناس ببساطة أن "خيمة عن خيمة تفرق"، وهذه نقلة نوعية واسعة كرّست على واقع الرؤيا والتجربة أن لا بديل عن الكفاح، وخلق الوسائل في كل وقت، لتحقيق ما هو مطلوب جماهيرياً، استحقاقاً وطنياً شعبياً فلسطينياً لصالح فلسطين، وبالتالي لصالح محيطها القومي، وعمقها الاستراتيجي التاريخي والعقلاني الضروري الأساسي والمؤسس، والمستهدف.
وكان الأدب بكل أطيافه وسيلته للتعبير والالتصاق وتفعيل الانتماء..
استخدم الفكرة الواضحة الجلّية والسهلة، مبتعداً عن الترميز المغرق الذي غالباً "في استخدامات الأدباء" ما يضع المتلّقي أمام تفسيرات واحتمالات متعددة تمّيع صلابة الاتجاه المقصود، مستخدماً الجملة السلسة والفكرة الجلّية الواضحة والصورة الوصفية الرائقة والبديعة والرمز السهل إذا تطّلب الأمر ذلك، بحيث يوصل المقولة ممتزجة بيسر مع رؤيا الآخرين المعنيين، مباشرة إليهم كقاعدة عريضة تستقطب الفاعلين الأهم على الساحة نضالاً والتزاماً وتوّجهاً ونقاءً، ولم يفارقهم، انتزع أبطاله من بينهم، وحركّهم في ميادينهم وحاراتهم وأزّقتهم، بل واختارهم بدّقة من آبائهم أو أبنائهم أو نسائهم فالتصق بهم وذاب وتذّوب في معاناتهم وتطلّعاتهم فاستحق حبهم، حملهم فحملوه، حلّق بهم فوضعوه في المكان الذي يستحق.
ومن منطلق مبدئي يقول، إن الإنسان في كل الأحوال هو موقف، كان غسّان كذلك أيضاً، وانسحب الصدق اللصيق الذي رافق سنوات حياته على كل ممارساته وعلاقاته، فقد كان نقيّاً متفّهماً وسهلاً.
في علاقته بأسرته، كان مثال الابن البار الذي يعيش هّم الجميع، مادّياً رغم إمكاناته المتواضعة. ومعنوياً في تحريض تشكيل معالم الشخوص حوله على طريق الالتزام المطلق بكل الصفات والمعايير. وأخلاقياً نبيلاً يتعّشق الوفاء والتضحية والإيثار والتواضع.
وضع نصب عينيه في وقت سابق جدّاً عامل الوراثة، "كان يعاني من الروماتيزم، وآلام المفاصل، إضافة إلى السكري" وهذا ما فرض عليه إلغاء رغبات إنسانية ملّحة، هي حق لكل نفس بشرية، آثر ألا يمارسها، رغم أن مرضه الأخير كما قررت مجموعات من الأطباء جاء بسبب الإرهاق لا الوراثة لكنّه خاف من الذيول، ولو لمجرد نسبة الاحتمال.
تقول السيدة "آني" زوجة غسّان:
(يوم التقيت غسان لأول مرة في بيروت، أخبرته أن مرادي زيارة المخيمات الفلسطينية، غضب وقال أنه لن يقبل ولن يفعل قبل أن أتّعرف أكثر على المسألة الفلسطينية برّمتها، كنت متحمّسة لزيارة المخيمات، لكنني بعد جوابه لم أحس بالإهانة.)
تتابع السيدة آني..
(بعد أسبوعين من لقائنا الأول دعاني للعشاء في مقهى الغلاييني، وقبل أن نغادر المكان قال: عليك أن تجيبي عن سؤالي.. هل تتزوجيني.؟ ثم أردف، عليك أن تعرفي أنني فقير، لا مال عندي، ولا هوية، أعمل في السياسة، لا أمان لي، وأنا مصاب بالسكري..
كنت أستمع إلى كل تلك النقاط السوداء، قلت أن علّي أن أفكر بالأمر.! كنا نصعد الدرج المفضي إلى فناء المقهى، قبل أن نصل الدرجة العليا الأخيرة قلت: نعم.. سأتزوجك..)
تزوجا في تشرين الثاني 1961 وأنجبا في العام التالي ولدهما الأول فايز [وقد أسماه على اسم أبيه]..
تقول السيدة آني، المرأة الرائعة التي واصلت حمل الرسالة بأمانة، ونذرت نفسها منذ لحظة استشهاد غسان وحتى الآن للإسهام والمساهمة بما تملك من جهد وقدرة في تعبيد الدرب الذي اختّطه غسّان، وقضى من أجله..
(يوم السبت 8 تمّوز 1972 جلسنا أطول من المعتاد، نحتسي فنجان قهوة على شرفة بيتنا في الحازمية، تحدث غسان في أمور كثيرة، كعادته، واستمعنا باهتمام أنا وشقيقته فايزة كعادتنا إلى حديث عن ذكريات طفولته في فلسطين، وقبل أن يغادرنا في الساعة الحادية عشر إلى مكتبه، أصلح القطار الكهربائي لعبة ابننا فايز المفضّلة، وكان على لميس ابنة أخته أن ترافقه لزيارة أقارب لنا في وسط بيروت، بعد دقيقتين دّوى صوت انفجار هائل، تحطّم زجاج النوافذ، واهتّز البيت بعنف، صرختُ دون وعي.. غسّان، ودون وعي نزلت الدرجات بسرعة لأجد سيارتنا الصغيرة أشلاء ممزّقة، رأيت لميس ملقاة على بعد أمتار من السيارة جثة متفحّمة هامدة، ورأيت وسط الركام ساق غسّان اليمنى مبتورة وملقاة بين الأنقاض، صرخت بفزع: غسّان... غسّان.. علمت فيما بعد أنهم وجدوا أشلاءه في الوادي وعلى أغصان الأشجار، نقلوها بعيداً عني، أيقنت أنني فقدت غسّان إلى الأبد).
ولست أنسى يوم حملت ابنها فوق قبر أبيه ساعة الدفن، وقالت له بصلابة: (أنظر جيداً.. هذا والدك.. إيّاك أن تنسى بأن اليهود قتلوه، إياك أن تنسى هذه الصورة.)
ويوم سألها أحد الصحفيين: هل ستحملين أولادك إلى الدنمرك "موطنها الأصلي" قالت دون تردد، لن أحمل أولادي إلى بلد أجنبي.!
كلمات بسيطة وحزينة أسدلت فيها آني الستارة عن رحلة عمرها القصيرة مع غسّان.
كان في سباق مع الموت، لكنّه لم يدرك أبداً أن الموت وهو يسخر من حقن الأنسولين اليومية، ومن الحمية المنهكة، والخوف المعّشش في اللحظات سيأتيه من ها هنا، ليكمل بفعله المأساوي حلقة أخرى متصّلة مع حلقات ما زالت تسطر فصول ملحمة، تكرّسه أثراً ومعلماً ومثالاً يحتذى..
رحم الله غسان الشهيد الشاهد..

ع.ك