الفصل الثالث: تُجَّار وصناعيو الشمال قبل الحرب
زفن بيكر*
ص 103
خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، انحلّت بشكلٍ دراماتيكي العُرى الوثيقة للمجتمع القوي الذي كان قد تشكل من نُخب الاقتصاد الشمالي في أمريكا. وظهرت انقسامات جديدة في صفوفه جعلت العمل السياسي أمراً صعباً أكثر فأكثر. وبرز هناك من يتحدى سلطة المجتمع القديمة، وقويت تلك التحديات بعد الثورة الصناعية وبالذات بعد عام 1830. وسنمر باختصار على تلك القوى:
المزارعون الجنوبيون:
بعد الهجرات المتتالية من أوروبا الى شمال الولايات المتحدة، وانخراط هؤلاء بتجارة أو صناعة على هامش الزراعة وبالذات القطن والسكر، فقد قويت العلاقة فيما بينهم وبين مزارعي الجنوب، فاستحسن هؤلاء الاسترقاق طالما أنها تصب في مصلحة زراعة الجنوب وبالتالي مصلحتهم (في التصدير وصناعة النسيج). من هنا اكتشف المزارعون بالجنوب أن لهم أنصاراً إستراتيجيون. فأخذ التمرد على نُخب الشمال المسيطر تاريخياً يأخذ شكلاً علنياً.
التجّار
كان التجار، الى حدٍ بعيد، الشريحة الأكثر أهمية في النُخب الاقتصادية الشمالية قبل الحرب الأهلية. وفي السنوات التي تلت الثورة، كان التجار الذين جمعوا ثرواتهم من خلال استفادتهم من تمويل بنوك أوروبا أولاً كونهم أتوا أصلاً في مهمات تجارية ممولة من رأسماليين أوروبيين لنقل محاصيل أمريكا الغنية لأوروبا والاتجار بها، ففضلوا البقاء في أمريكا وبالذات في شمال الولايات المتحدة. كما استفادوا من الحروب التي كانت تدور في أوروبا وفيما بعد في أمريكا، ليتفننوا في جمع المال والتحكم بأسعار السلع.
كان 69% من سكان (بوسطن) الأكثر غنى تجاراً ويدفعون 37% من ضرائب بوسطن عام 1848، كما كان 1% من سكان فيلادلفيا يملكون 50% من موجودات المدينة تجاراً. وحوالي 9 آلاف من سكان نيويورك (1.4%) تجاراً يملكون 71% من موجودات المدينة*1، ومن المفارق أن 84% من سكان نيويورك لا يملكون أي ثروة حقيقية هامة.
لم يكتفِ تجار الولايات المتحدة بنوعٍ واحد من المهن (التجارة)، بل كان سبعة من ثمانية من كل التجار لهم علاقة بالتصنيع (مساهمات مالية)، رغم احتقارهم لمهنة الصناعة. وكانت لهم أساطيل من السفن فمثلاً كان تاجر اسمه (جوزيف بيبودي) من سكان مرفأ (سالم) يملك أسطولاً من ثلاثٍ وثمانين سفينة. كانت سفن التجار تجوب العالم من سومطرة الى بيونس آيرس.
تزاوج أبناء كبار التجار فيما بينهم، لزيادة رأس المال للأسرة، وسكنوا في أحياء منفصلة، وكانوا يتباهون بأثاث بيوتهم وسجادها والتحف التي يحصلون عليها من سفرهم. وكان للنساء دورٌ كبير في تنظيم شبكات النسب والتفاخر به. ففي بوسطن كانت علاقات النسب بين أغنى العائلات تشكل 76% من جميع الزيجات، وكان الأنسباء يديرون مصالح الأثرياء، وتترك لهم حرية اتخاذ القرار، ففي رسالة لأحد تجار بوسطن (باتريك ترايسي) لوكيله (نسيبه) الذي كان يمثله في الهند يقول فيها (اتكل على حكمك ولا تنتظر توجيهات مني)*2.
لم يقتصر نشاط النساء على تأمين شبكات النسب، بل زاد اهتمامهن بأقمشة ملابسهن وإبداء تذوقهن للموسيقى والفنون المختلفة، لإضفاء طابع أرستقراطي خاص بتلك الطبقة من الناس.
الصناعيون والحرفيون والعمال
بدأت الثورة الصناعية في أمريكا متأخرة بعض الشيء عن مثيلاتها في أوروبا، ولكنها بدأت قوية وسريعة، حيث ازدهرت صناعات النسيج على هامش زراعة القطن الواسعة، وظهرت صناعة الأصباغ، والغراء، وامتد النشاط ليصل الى سكك الحديد وما يتطلب هذا النوع من النشاط ازدهار نشاط التنقيب عن الحديد وصهره، والتنقيب عن الفحم الحجري ومصادر الوقود، وكان نصيب النسيج والحياكة وما يتعلق بها الأكبر في بداية الثورة.
قام (اسحق سينجر) باختراع وصناعة ماكنة الخياطة التي لا تزال تحمل اسمه وتنتشر في كل أنحاء العالم، كما قام (روبرت إدوين دييتز) باختبارات على حرق مواد عضوية لتحويلها الى وقود صالح للإضاءة. وقام (بيبر كوبر) بصناعة الغراء، حتى أصبح هؤلاء الثلاثة من أكثر سكان أمريكا ثراءً.
لم يمنع اشتراك التجار الأثرياء ومساهماتهم المالية في الصناعة، من أنهم يستهزئون من الصناعيين وتحقيرهم بحجة أنهم لا تُعرف لهم أصول، ولم تشفع لهم ثرواتهم الطائلة لكي يقبلوا في علية القوم. ويذكر المؤلف مثالاً لتلك السخرية، ما روي عن المليونير (كوبر: صانع الغراء)، حيث كان يميل الى الملابس البسيطة ويسكن في الأحياء الشعبية، فعندما زار أمير ويلز نيويورك دُعي (كوبر) ليكون من ضمن المستقبلين له، وتم إقناعه بلبس (بدلة) تليق بمثل تلك المناسبة، ففعل وبالغ في الأناقة حتى بدا مثاراً لاشمئزاز أمير ويلز وضحك الآخرين عليه.
كان احتقار الأثرياء (التجار) للصناعيين لا يتوقف عندما يطلقون عليهم (ميكانيكيين) لتصغير شأنهم، بل زاد عن ذلك بكثير، حيث أحس التجار أن التفاف المهاجرين والهاربين من الرق حول الصناعيين، سيهدد مستقبل هؤلاء الأثرياء في إدارة شؤون أمريكا.
لم يستسلم الصناعيون لسخرية الأثرياء، بل قابلوهم بحملات مضادة، واصفين الصناعة في أمريكا بأنها (شجرة تطرح البَق) يأكل إنتاجهم التجار الذين لا يعملون شيئاً سوى استغلال جهود الآخرين. فقاموا بتنظيم النقابات والاتحادات ومعاهد التدريب، والاهتمام بالفن والفلسفة والسياسة، والاصطفاف مع مناهضي الاسترقاق، كونه هو من يحمي هؤلاء المستغلين.
وهكذا انقسم المجتمع في الولايات المتحدة حول الرق ك (ساتر) يتمترس خلفه المتصارعون من الصناعيين والتجار.
هوامش من تهميش المؤلف
*زفن بيكر: (أستاذ تاريخ في جامعة هارفارد ومؤلف كتاب الولاية الثرية: مدينة نيويورك وتماسك البرجوازية الأمريكية، وصاحب كتاب (التاريخ العالمي للقطن).
*1ـ Seven Becket, The Moneyed Metropolis: New York City and the Consolidation of the American Bourgeoisie (New York: Cambridge University Press, 2001), 19
*2ـ Quoted in Jaher, Urban Establishment, 23