حادي عشر: انتشار العلمانية في ديار المسلمين وبيان أسباب ذلك

عرفت مما سبق أن المسلمين ليس بهم حاجة إلى العلمانية، ومع ذلك فقد انتشرت العلمانية في ديار المسلمين انتشاراً قوياً، وأوجد لها أعداء الإسلام عملاء من أهل كل بلد ينوبون عنهم في نشرها بالحيل أحياناً وبالقوة أحياناً أخرى، وكان هؤلاء النواب أشد من ملاحدة الغرب شراسة وإلحاداً، وأشد جرأة وتعسفا لأبناء جنسهم في إرغامهم على قبول اللادينية وربوا عليها أجيالهم، وأصبحت في كثير من البلدان أمراً مسلماً به، وحلت محل الإسلام في كل ناحية مع التظاهر عند البعض بالتزام الإسلام.
والأمثلة لا تخفى على القارئ، فقد أصبحت تركيا دولة علمانية لا دينية على يد المجرم "أتاتورك"، الذي قطع كل صلة لتركيا بالإسلام والمسلمين، والذي كان على يديه إسقاط آخر خليفة مسلم في الدولة العثمانية، وإسقاط الدستور الإسلامي واستبداله بالقانون المدني السويسري، وقانون الجزاء الإيطالي، والقانون التجاري الألماني، وغيرها من القوانين الوضعية الجاهلية، وتعهد بإخماد كل حرمة إسلامية، وربط تركيا مباشرة بالدول الغربية، وكان من نتائج ذلك أن تمزق المسلمون ولم تعد لهم جامعة تجمعهم ولا رابطة تربطهم، وهو ما تحقق لأعداء المسلمين من المستعمرين، ولا يزال حكام تركيا يتزلفون إلى الغرب، ولم تكن تركيا وحدها هي الضحية، بل كانت كل الدول الإسلامية التي كانت خاضعة للاستعمار الإنجليزي أو الفرنسي، أو غيرهما، دخلتها العلمانية من أوسع الأبواب، وأدخلت تلك الدول كلها في ظلمات العلمانية، وأقصي عنها التشريع الإسلامي بالقوة مثل ما حصل في الهند على يد البريطانيين، وفي تونس على يد الفرنسيين، وقويت العلمانية كذلك في مصر وأصبح لها كتاب يدافعون عنها، بعضهم كان ينتسب إلى الأزهر مثل "علي عبد الرزاق"، و"خالد محمد خالد" الذي يُقال إنه رجع عن ذلك.
ولا تزال الدول الإسلامية في مد وجزر في تقبل العلمانية أو ردها، وإن كانت الأكثرية قد انخدعت ببريق العلمانية ومنجزاتها الحضارية المزعومة، بل لقد أصبح الكثير من الزعماء يراهن على بقائه في الزعامة في تزلفه لأقطاب العلمانية اللادينية في الشرق أو في الغرب، وبما يقدمه من خدمات في استيراد العلمانية ومحاربة الشريعة الإسلامية وممثليها، ولا يكتفون بهذا الإجرام، بل يضيفون إليه أن الشعوب هي التي تطلب ذلك، والساسة يذبحون الشعوب بأيدي الشعوب، ويتم كل ذلك دون أن تعلم الشعوب شيئا عما يجري في الخفاء وراء الكواليس في الشرق أو في الغرب، مع أن كل عمل إنما ينفذ باسم الشعب، وأين الشعب وأين ما يجري وراء الكواليس.

الأسباب التي أدت إلى انتشار العلمانية في بعض ديار المسلمين
مما لا شك فيه أن انتشار العلمانية اللادينية أو غيرها من المذاهب الباطلة إنما تنتشر في غفلة العقل وخواء النفس عن التمسك بالمعتقد الصحيح، و في الوقت الذي يرى فيه الإنسان حسنا ما ليس بالحسن من جراء الدعايات البراقة أو الضغوط الشديدة.
وفيما يلي نبين بعض تلك الأسباب التي أدت إلى انتشار العلمانية في ديار المسلمين، ويمكن أن يكون من أول الأسباب كلها:
جهل المسلمين بدينهم:

فلقد مرت بالمسلمين فترات ساد فيها الجهل وتغلبت الخرافات وقل فيها الإقبال على العلم والتعلم حتى وصل الحال إلى إمكان عَدِّ الذي يقرأون ويكتبون في البلد الواحد، وحتى الكثير من هؤلاء القرَّاء والكتاب قد لا يقرأ أحدهم إلا القرآن الكريم من المصحف دون فهم ولا تدبر، وأقفل باب الاجتهاد حين غلب الجهل وقلَّ العلماء المجددون وجمدوا على التعصب للآراء وتشعبوا إلى مذاهب فكرية وطوائف متعارضة يحتدم بينها التنافس المنحرف لا لشيء إلا لأجل بسط النفوذ واكتساب الأتباع، وهذا الانحراف مثلته الصوفية بأجلى مظاهره حيث نام الناس على ترديد أوراد جوفاء في معظمها للتبرك وزهد كاذب عن الدنيا وملذاتها.
والناس في نظر أقطاب الصوفية أصبحوا مذنبين مقصرين في جنب الله، وحصل عند بعض المتصوفة المسلمين ما حصل للنصارى في نشوء طغيان رجال الكنيسة في تجريمهم للناس وتحطيم معنوياتهم والضغط عليهم للتمسك برجال الدين أصحاب الجاه العريض عند الله، فبهم وحدهم أزمَّة الأمور وبرضاهم يرضى الله وبسخطهم يسخط.
واخترع الصوفية في مقابل هذا الغلو النصراني مقالتهم المشهورة "من لم يكن له شيخ، فشيخه الشيطان"، واخترعوا أشد من صكوك الغفران عند النصارى، وهو ضمان القطب الصوفي الجنة لمن يريد، ووصل الهوس بأتباع التصوف إلى الكسل التام والخمول المخزي بحجة التوكل على الله وترك حطام الدنيا إلى غير ذلك من مسالك الصوفية.
و على كل حال فإن تلك الأوضاع الشائنة التي كان فيها المسلمون مضافا إليها سرعة انتشار الجهل، مضافا إليها النهضة العلمية التجريبية التي شهدتها أوربا، كل ذلك وغيره قد أثر تأثيرا قويا في لي أعناق كثير من المسلمين إلى التأثر بالحضارة الغربية، فذهبوا يحاولون جاهدين تقريب تلك الحضارة الغربية إلى الحضارة الإسلامية على حساب الحضارة الإسلامية بحجة الانفتاح والاستفادة مما وصل إليه الغرب الذي تطور إلى أن وصل إلى الحال الذي يُنظر إليه بعين الإكبار عند المغترين بزخرف الحياة الدنيا، وقد اقتبس الكثير من المسلمين كثيرا من المفاهيم الأوربية وقدموها للمسلمين على أنها حلولا لمشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية، وأنها تتماشى مع الإسلام، وانخدع بذلك الكثير من المثقفين ومن غير المثقفين، وكأننا نسير إلى تحقيق ما أخبر عنه النبي من اتباع المسلمين سنن من كان قبلهم من اليهود والنصارى في كل شيء، حتى لو دخل أحدهم جحر ضب لدخله المسلم محاكاة وتقليدا دون وعي وتبصُّر.
ولقد زاد انبهار المسلمين بما عند الغرب، فقد أصبح التغريب من الأدلة القوية على التمدن والتحضر، وأن تلك العلمانية الملحدة هي التي أوصلت أوربا إلى صنع الطائرة والصاروخ، وغير ذلك من الدعايات التي أجاد حبكها العلمانيون وأفراخهم في البلدان الإسلامية الذين يصورون العالم الإسلامي وكأن السبل قد انسدت عليهم والطرق قد انقطعت بهم ولم يبق لهم إلا منفذ واحد يتنفسون منه وهو منخر الحضارة الغربية العلمانية العاتية.
ومن المعروف أن الحقد الصليبي، وخصوصا نصارى العرب جمرة مشتعلة لا تنطفئ إلا أن يشاء الله تعالى، ولقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه الكريم أن اليهود والنصارى لا يمكن أن يرضوا عن المسلم حتى يتبع ملتهم ويتخلى عن دينه الإسلامي، فقال عز وجل عن ذلك ومؤكدا عليه: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، ولقد وقف النصارى ضد الإسلام منذ بزوغ فجره إلى اليوم وكان بين النصارى وبين أتباع الإسلام من الحروب وسفك الدماء ما لا يعلمه إلا الله، ولا يقف عدو للإسلام إلا وقف النصارى إلى جانبه مؤيدين له، ولا يجهل طلاب العلم شراسة الحروب الصليبية التي خاض غمارها جحافل الصليب يؤجج نارها طغاة الكنيسة الذي كانوا يضمنون الجنة لكل من حمل صليبه وسيفه لحرب المسلمين التي كانوا يسمونها جهادا في سبيل الله وحربا مقدسة.
وقد استمرت عداوة العالم الغربي النصراني للإسلام والمسلمين راسخة في قلوب النصارى حتى بعد أن أدار العالم الغربي ظهره للنصرانية إذ لم تمنعهم عداوتهم للدين النصراني من شدة تعصبهم لما وقع في أسلافهم تحت السيوف المسلمة، فقد أصبحت عداوتهم للإسلام أمراً موروثاً بالفطرة، واستحكمت العداوة إلى الحد الذي أصبح من المستحيل أن يبقى أدنى عطف في قلوب النصارى على أي مسلم، ولكنهم ينافقون المسلمين بأنواع النفاق كلها تحت مسمَّيات عديدة، واشتد العداء للإسلام بسبب وقوفه ضد مطامعهم وضد طغيانهم الجديد الذي أعقب طغيان رجال الكنيسة، وبسبب دعوة الإسلام إلى التحرر من كل الخرافات والأوهام وإلى تحريمه الذل للكفار والاستكانة لهم، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة الظاهرة والخفية.
ولقد اتخذت عداوة النصارى للإسلام ومحاربتهم له أشكالا مختلفة ومظاهر عدة، ابتداء بحمل السلاح وتجييش الجيوش النظامية إلى الالتجاء للخداع والمكر المتمثل في غزوهم الفكري للعالم الإسلامي تحت عدة أقنعة من التنصير إلى الاستشراق إلى استجلاب أبناء المسلمين وتنصيرهم بطرقهم المختلفة من بناء المدارس لهم والمستشفيات وإنشاء شتى المرافق التي قدمنا ذكرها، ونشطوا في ذلك نشاطا عاليا أثمر فيما بعد استيلاءهم على العالم الإسلامي حسيِّا ومعنويا، وعلت حضارتهم المادية التي يفاخرون بها على حضارة الإسلام، علت في قلوب مريضة أصيبت بالانبهار بما عند الغرب من صناعة وفكر ونظام، سهل بعد ذلك تسرب العلمانية إلى عقول وجهاء وأصحاب نفوذ صاروا ربائب لأكابر وجهاء العلمانية.
وقد توالت الهزائم على العالم الإسلامي فلا يخرجون من هزيمة إلا إلى أخرى، وأصاب المسلمين الوهن والاستخزاء أمام العبقرية الأوربية، ونجح الجزء الأكبر من المخططات اللادينية، وتضافرت الجهود وأشغلوا المسلمين بأحداث هامشية فيما بينهم لا تخدم أي شكل من أشكال المصالح العامة. وكانت أكبر الخطط الناجحة هي تلك التي اتفق عليها زعماء الغرب من ضرب المسلمين بعضهم ببعض والاتجاه بالحرب وجهة أخرى ليس فيها جيوش ولا آلات حربية، وإنما هي حرب الإسلام ذاته عن طريق الغزو الفكري بدون إثارة المسلمين والتفنن في إطلاق الشعارات البراقة على أعمال العلمانيين والمنصرين في البلاد الإسلامية في أشكال مساعدات إنسانية وثقافية واجتماعية واقتصادية، وما إلى ذلك من الأسماء التي ظاهرها الرحمة وباطنها دمار الإسلام والمسلمين .
أما الاحتلال الشيوعي الماركسي: ففي الشرق الإسلامي قامت الشيوعية الماركسية باحتلال أراضي المسلمين هناك وقتلت أهلها قتلا ذريعا، وقامت الصين بنفس العمل أيضا حينما احتلت أجزاء من الأراضي الإسلامية، وكان الجميع يتباهون بقتل وتشريد المسلمين ونشر الرعب والفساد، فتوالت على المسلمين النكبات من كل جانب، ولولا لطف الله تعالى وتكفله بحفظ دينه وكتابه لكان العالم الإسلامي في مهب الريح، فلقد فعل الشيوعيون بالمسلمين وبممتلكاتهم أفعالا يندى لها الجبين، فكانوا يهدمون المساجد والبيوت على من فيها في حقد لا نظير له، والحمد لله الذي أقر أعين المسلمين بموت الشيوعية واندحارها في عقر دارها، سنة الله في الباطل الذي يكون له صولة ثم يضمحل – كما سيأتي الحديث عن هذا المذهب الهدَّام وأتباعه الأبالسة.

أما بالنسبة للاحتلال اليهودي لأراضي فلسطين:
فلقد كان له تأثير واضح نجح رويدا رويدا من وراء ستار كما هو شأن اليهود الذين يجيدون المؤامرات السرية ضد كل المخالفين لهم، وهم وإن لم يكن لهم مستعمرات كثيرة واضحة، فإن لهم مستعمرات هي أشد خطراً من المستعمرات الظاهرة، فلم يكن السبب في انتشار العلمانية في البلاد الإسلامية هو ما تقدم من الأسباب فقط، وإنما انضاف إليها هذا التيار الخطير الهدام والمتمثل في دور اليهود الحاقدين الذي أخبر الله في كتابه الكريم عن شدة عداوتهم للإسلام والمسلمين، وأنهم لا يزالون على عداوتهم إلى الأبد، قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} [المائدة:82]، وجاءت السنة النبوية لتؤكد ذلك، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن خبث اليهود ومكرهم بالمسلمين في عدة أحاديث، منها ((ما خلى يهودي بمسلم إلا وهم بقتله)) .
وجاءت أفعال اليهود تجاه المسلمين – قديما وحديثا – لتؤكد مصداق كل ما ورد من أوصافهم العدائية في الكتاب والسنة وأقوال الناس عنهم، وجاءت كذلك أقوال عقلاء الناس من مسلمين وغير مسلمين لتؤكد على خطر اليهود على البشرية كلها، واطلع الناس على ما جاء في "التلمود" من تعاليم ضد الجوييم أو الأمميين، واطلعوا على "بروتوكولات حكماء صهيون" الجهنمية فهالهم الأمر، واتضح لكل ذي بصيرة أن اليهود من أشد الناس عداوة للبشرية، ومن أشدهم مكرا، ولقد استعمر اليهود كثيرا من البشر عن طريق منظماتهم ونواديهم، ومنها الماسونية، والشيوعية، وسائر تلك الأفكار، ويكفي في تصور شدة مكر اليهود استحواذهم على النصارى وإدخالهم في حظيرتهم إلى الحد الذي جعل النصارى يتنكرون لما هو من صميم عقائدهم الأساسية وهو قتل اليهود للمسيح عليه السلام – كما تزعمه مصادرهم – فقد أصدر زعماء النصارى بيانا بتبرئة اليهود من هذا القتل، وما ذاك إلا للضغط اليهودي، كما أنهم أصمُّوهم وأعموهم عما دونه أحبار اليهود ضد النصارى من عداء شديد إلى حد استحلال دمائهم وأكلها في عيد فصحهم كما فعلوا بالأب "توما" وخادمه "عمَّار" في القضية المشهورة التي حدثت ببلاد الشام القرن الماضي.
والذي يهمنا من هذا إنما هو الإشارة إلى تأثير اليهود في نشر العلمانية اللادينية في البلاد الإسلامية، وسيتضح للقارئ مدى هذا التأثير بمجرد قراءته لـ "بروتوكولات حكماء صهيون" وما جاء في "التلمود" و في تعاليمهم السرية التي يتواصون فيها بالقضاء على كل الأديان – ما عدا دينهم – وأن ذلك سيتم بتشجيعهم لكل حركة معادية للدين ولكل فكرة تحارب الفضيلة، فنشروا الفساد الأخلاقي بكل أشكاله تحت مسمى الحرية، وحاربوا الأديان تحت مسميات مختلفة.
وما إن ظهرت اللادينية إلا وتلقفها اليهود ونشروها بكل وسائلهم الكثيرة ودعاياتهم المؤثرة، حتى ركن كثير ممن ينتسب إلى الإسلام إلى تلك الدعايات وتحولوا إلى جنود لخدمة اليهود من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وقد حذرنا الله تعالى من الركون إلى أعداء ديننا بقوله عز وجل: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إلى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}

[هود:113]، وقد وضحت هذه النار في الشعوب الإسلامية الذين تنكروا لدينهم وتقبلوا العلمانية، وضحت في معيشتهم و في أمنهم و في تكاتفهم، بل وفي كل شؤون حياتهم، فكانت أمرا مخزيا {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الأحزاب:62]
ولا يزال اليهود أداة تخذيل وإغواء لكل الأمم – وخصوصا الأمة الإسلامية – التي تمثل عدوهم اللدود الأبدي، ذلك العدو الذي تآمروا عليه منذ بزوغ فجره إلى اليوم، ولكن {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64]، وما تمجيدهم للعلمانية ولأقطابها وذمهم للإسلام ولتعاليمه إلا جزءا من عداوتهم له، وجزءا من مخططاتهم للقضاء عليه. ولن يتم الله لهم ذلك إن شاء الله إلى الأبد {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}

[الصف:8].
ومن الأسباب لانتشار العلمانية أيضا هذه البعثات لأبناء المسلمين التي تُرسل إلى الغرب للدراسة – إلا من رحم الله منهم – ذلك أن الطالب يذهب باعتباره تلميذا مستفيدا لا مناظرا مدافعا، فيشبع من هناك بما قد أعد له وفق مخطط محكم، وحينما يتم دراسته ويرجع إلى بلده الإسلامي لاشك أنه يرجع بغير الفكر الذي ذهب به، إذ لابد وأن يتأثر ولو باتجاه واحد على الأقل أو شبهة لا يستطيع دفعها عن نفسه مهما حاول التماسك والتوفيق بيد الله تعالى.
بل إن كثيرا من الذين ذهبوا للدراسة في الدول الكافرة العلمانية يرجعون بقلوب غير التي ذهبوا بها معهم فيتمنون لو أن مجتمعهم الإسلامي يتحول في لحظة إلى صورة طبق الأصل عن تلك المجتمعات الكافرة التي ألفوها وأُشربوا حبها، وقد صرَّح كثير منهم بإعجابه بالحضارة الأوربية، واعتقدوا أن لا مخرج للمسلمين إلى السعادة وامتلاك القوة إلا بتقليد الغرب في كل صغيرة وكبيرة، كالطهطاوي وأحمد خان، وعلي عبد الرزاق، وطه حسين.
فرجع كثير من طلاب العلم من المسلمين الذي ذهبوا إلى الدول الأوربية للدراسة وهم متضلعون من تعاليم العلمانية ومقتنعون بها، وإذا رجع الفكر إلى تاريخ المسلمين الأوائل فإن صاحبه يشعر بالحزن والأسى، لأن ماضي المسلمين كان هو النور المشرق، وكان العلم وأهله وكتبه كلها عند المسلمين وفي جامعاتهم، في الوقت الذي كانت فيه أوربا في حمئة الجهل، فانقلب الحال رأسا على عقب حينما زهد كثير من المسلمين عن تعاليم دينهم ورغبوا في الحضارة الغربية وزخرفها، فأصبح بعض المسلمين ينظر إلى العلوم الغربية بنفس الإكبار الذي كان ينظر به الغرب إلى العلوم الإسلامية.
ومن الأسباب أيضا استغلال العلمانيون قيام النعرات الجاهلية من قومية ووطنية ودعوى نبذ التخلف، وما إلى ذلك، وقد استجاب لهم الكثير، البعض بحسن نية، والأكثرون بخبث نية وتخطيط بارع للكيد للإسلام والمسلمين.
وما إن سرت نخوة الجاهلية في عروق القوميين والوطنيين والتقدميين إلا وسرى معها التعالي والرجوع إلى الأمجاد الجاهلية المزعومة التي كانت العلمانية تصفق لها وتصف أهلها بشتى نعوت المدائح والعبقريات الفذة.
كما أن أولئك الثائرون قد أتوا على الأخضر واليابس ورأوا أن بناء مجدهم يتطلب إقصاء تعاليم الدين والسير خلف ركب الحضارة الأوربية الذي تولد من قيام العلمانية الجديدة والسير في طرقاتها حذو القذة بالقذة.
ومنها الترابط بين العلمانيين في الغرب وأتباعهم في ديار المسلمين، ومساندة بعضهم بعضا وإمدادهم بأسباب القوة التي تمكنهم من اعتلاء المناصب في بلدانهم بعد أن باعوا ضمائرهم وأصبحوا عملاء لهم، فضلا عن الضغط الذي تتعرض له الحكومات الإسلامية لإفساح المجال واسعا أمام طلائع العلمانيين، بل وتشغيلهم بحكم ما يحملون من شهادات أوربية – يجب أن تكون محل الاهتمام والتقدير لأنها صادرة عن موطن التقدم والرقي كما يصورونها في أذهان عامة المسلمين المنهزمين في أنفسهم.
وقد ظهر ذلك واضحا في معاملة هؤلاء المستغربون، فإن لهم الأولوية في الوظائف وزيادة الرواتب، كما نسمع من أخبارهم.
وإذا أبى إلا التحدث بالإنجليزية فهو نور على نور ودلالة على تقدمه ومعرفته، ولقد نشر هؤلاء مبادئ العلمانية الشريرة بكل وسيلة وكان لهم أكبر الأثر في الدعاية للعلمانية ومبادئها بين عامة المسلمين، وقد ظهر ذلك التأثير في سلوك العالم الإسلامي في المظاهر الآتية في الصفحة التالية

يتبــــع







ثاني عشر: مظاهر العلمانية في بلاد المسلمين


كانت العلمانية في بداية ظهورها تهدف إلى تحقيق غرض وهو من أهم الأغراض التي أشغلت أذهان القائمين عليها، ألا وهو فصل الدين عن السياسة والحكم على طريقة ما ينسبه الكتاب المقدس إلى نبي الله عيسى عليه السلام "أعط ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، وبغض النظر عن صحة هذه المقولة عن عيسى عليه السلام فإن العلمانيين وهم في محاولتهم الأولى لتصديع الدين المسيحي وجدوا أن هذا النص من الأمور المساعدة لهم، وقد جدوا وناضلوا حتى تم لهم ما يهدفون إليه من فصل الدين عن الدولة، وبالأحرى عزل رجال الكنيسة عن الدولة، ولم يعد دينهم صالحا للحكم بين الناس في شؤون حياتهم، بل تولاه التشريع الجديد المسمى العلمانية في قوانينها الوضعية.
ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى طور آخر وهو عدم السماح بالدين في كل مظاهر الحياة، ولم تعد مقولة "أعط ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"قائمة في أذهان زعماء العلمانية الجامحة، فحورب الدين حربا شعواء تحت الكراهية الشديدة لطغاة الكنيسة الذين يمثلونه – حسب مفهوم أقطاب العلمانية – هذا ما حصل في العالم النصراني ومبرراته، وهو ما يمثله دعاة العلمانية في البلدان الإسلامية التي تم لهم الحكم فيها.
وما دام الأمر قد وصل إلى محاربة الدين وإقصائه نهائيا، فلا بد أن يوجد البديل له في كل مظاهر الحياة، وهو ما وقع بالفعل، فطورت العلمانية لتشمل بعد ذلك الحكم، والاقتصاد، والعلم، والتاريخ، والحياة الاجتماعية، ومظاهر السلوك والأخلاق، وصور الآداب والفنون.. أي أنها أصبحت دينا قائما بذاته ملأ الفراغ الذي خلفه إقصاء الدين النصراني عن المجتمعات.
ولم يعد الناس بحاجة إلى الدين في أي قضية من القضايا التي تصادفهم، لأن المارد الجديد قد سد كل الحاجات ولبَّى كل المطالب التي تواجه الفرد في حياته اليومية كلها، في الحكم و في سائر متطلبات الحياة الاجتماعية الجديدة، وأصبح دعاة العلمانية كلهم على خط واحد وهدف واحد مع اختلافهم في الوسائل من بلد إلى آخر، و فيما يلي بيان ذلك في المسائل الآتية:



الأولى: العلمانية في الحكم
أما العلمانية في الحكم فمن الطبيعي أن لا يجد الحاكم العلماني أدنى ضرورة إلى الاستعانة بحكم الدين في أية قضية، وذلك أولا لجهله بالدين وعدم معرفته به، وثانيا للعداء الشديد المستحكم الحلقات بين الدين وبين آراء المفكرين العلمانيين الذين يتصورون أنه لا تتم السعادة الحقيقية للشعوب إلا إذا أُقصي الدين تماما عنهم وحكموا أنفسهم بأنفسهم بعيدين عن التأثر بأحكام الدين التي لا ترحم الفقير ولا تجبر الكسير، بل تحابي وتمالئ الظالمين من أصحاب المناصب والجاه، كما ظهر ذلك جليا مما رأوه من ترابط المصالح بين رجال الدين وأصحاب الجاه والحكم، لتآمر الجميع على إخضاع الناس واستنزاف خيراتهم – وهو ما حصل بالفعل حين اشتد طغيان رجال الكنيسة – وساعدهم – خوفا منهم – أباطرة الحكم الذين استفادوا هم بدورهم من رجال الكنيسة في إقناع العامة بأن الحكام هم من اختيار الله وأنهم يمثلون الله في الأرض، وطاعتهم هي عينها طاعة الله تعالى، وعصيانهم عصيان له، وأن السعادة كلها في يد البابا الممثل المباشر للرب المسيح!!!
وكانت النتيجة أن الثائرين نظروا إلى رجال الدين على أنهم مخادعين متآمرين هم والحكام على استعباد الناس وإذلالهم – وهو صحيح – فتم وضع القوانين والتشريعات الجاهلية بدلاً عن كل الشرائع الإلهية التي تمثلها الكنيسة الظالمة والبابا المتغطرس، فجاءت الأحكام العلمانية خليطا مشوها من شتى الأفكار والحضارات الجاهلية وظنوا أنهم وجدوا الحل المناسب لحياتهم الاجتماعية، وأنهم وجدوا السعادة التي ينشدونها والأحكام العادلة التي يتمنونها في ظل العلمانية الوضعية التي تنقض اليوم ما أبرمته بالأمس.
وقصر بهم العزم أن يبحثوا عن مصدر العدل الحقيقي والأحكام المتناسقة التي يسبق العقل إلى تصديقها قبل الواقع، وقد قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}[النساء:82]، ولقد وجدوا في علمانيتهم اختلافا كثيرا وتناقضا فاحشا في الأحكام، ولكن طبع على قلوبهم وصار حالهم كما عبر عنه الشاعر:
لفح الهجير نعيم إن رضيت به



وناعم الظل إن أنكرت رمضاء
و فيما يلي نشير إلى الحكم في الإسلام لكي يقارن العاقل بين حكم الجاهلية وقوانينها وبين عدل هذا النور لأنه كما قيل "وبضدها تتميز الأشياء" وليرى القارئ الكريم أكذوبة من زعم أن الإسلام يفرق بين الدين والسياسة في الحكم، سواء كان هؤلاء يتظاهرون بالإسلام أم لا.



الثانية: هل يوجد فرق في الإسلام بين الدين والسياسة
لا يمكن لأي شخص عرف الإسلام – مهما قلت معرفته به أن يقول أن الإسلام يفرق بين الدين والحكم، بحيث يكون الدين لله والحكم للشعب أو القانون أو مجلس التشريع أو الحزب أو غير ذلك من الإطلاقات العلمانية الباطلة، لأن الإسلام يعتبر جميع البشر عبيدا لخالقهم، ولا مزية لأحد على آخر إلا بالتقوى، ويحرم أن يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله، وأن من رضي بالتحاكم إلى غير الله فهو طاغوت خارج عن الفطرة محارب لله ظالم لنفسه، متعد لما ليس له، وسيحاسبه الله تعالى عن ذلك.
وفي الإسلام البيان التام الشامل لكل جوانب الحياة سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية.. الخ، بينها الله تعالى في قواعد شاملة وأحكاما جامعة وأمر الناس بفهمها واستخراج كل ما يصادفهم من أحكام وتشريع على ضوئها من كتاب الله تعالى أو من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالمشرع في الإسلام هو الله وحده، وما نطق به رسوله والمنفذ للأحكام الشرعية هم الحكام الذين تختارهم الأمة ويرضون بحكمهم لتنفيذ الشرع الشريف، وهؤلاء الحكام ليسوا طبقة فوق البشر، أو لهم صفات إلهية – كما كان يتصور الجاهلون قديما – وإنما هم منفذون فقط، وأن كل مسلم مطالب بأن يعرف الأحكام الشرعية وأمور العبادات والاقتصاد وغير ذلك من أمور الحياة، وبعض آخر يطلب الإسلام من كل أتباعه أن يكونوا صالحين لتنفيذ أحكام الله في كل قضية تعرض للشخص، ومعنى هذا أنه لا يوجد في الإسلام تلك الدعوى النصرانية التي بنى عليها اللادينيون فكرهم، وهي "أعط ما لله لله، وما لقيصر لقيصر" فهذه الإزدواجية لا مكان لها في الإسلام، وإنما الذي فيه هو تساوي الناس في التكليف أمام الله ومطالبتهم جميعا بتنفيذ أحكام الشريعة وطاعة ولاة أمورهم في غير معصية الله ورد ما يختلفون فيه إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبهذا تصلح الحياة وتستقيم الأمور ويحصل التنافس في فعل الخير، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
وقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء:58].
وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[ النساء:65].
ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مهمته هي بيان الدين، ومع ذلك أمره الله أن يحكم بين الناس بالعدل، لأن معرفة الدين هي الطريق الصحيح إلى الحكم بالعدل، ولم يقتصر الأمر على الرسول صلى الله عليه وسلم، بل شمل غيره من أمته، فقد أمرهم الله أن يحكموا بالعدل حينما يرتضيهم الناس للتحاكم إليهم، و على هذا فلا فرق بين الدين والحكم أو السياسة، ومن فرَّق بينهما فلجهله أو لميله إلى العلمانية اللادينية. ولقد كان خلفاء المسلمين هم العُبَّاد، والزهاد، والقواد، والخطباء، والقضاة بين الناس، بل نجد الإسلام يجعل الحكم أوسع مما يتصوره العلمانيون إذ يوجب على جماعة المسلمين مهما كانت قلتهم أن يختاروا لهم أميرا منهم يرجعون إليه عند الاختلاف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)) .
ومعلوم أن هذا الأمير متدين ملتزم للحكم بما أنزل الله، وعلى طريقة العلمانية لابد أن يكون هذا الأمير غير متدين مستهتر بأحكام الشرع يتم انتخابه بأي طريقة كانت، ولا تسأل بعد ذلك عن الفضل الذي يتميز به عليهم ليكون أميرا لهم إذا لم يكن ملتزما لمنهج الله في حكمه، مراقبا لربه، مخلصا في أداء عمله بالعدل الإلهي.
إنه لا يوجد في الشريعة الإسلامية نص واحد يثبت التفرقة بين الدين والحكم، لا في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية، ولا في أقوال علماء الإسلام، بل نجد أنه لا شرعية لحاكم لا يتخذ الدين منهجا له.
ولا يوجد كذلك نص واحد يثبت أن أحدا من خلفاء المسلمين من الصحابة أصدر حكما على طريقة الفصل بين الدين والحكم، أو اعتذر عن أي حكم أصدره بأن سياسة الحكم اقتضته، حتى وإن كان مخالفا للدين، بل كانت طريقتهم أن كل حكم يخالف الدين يعتبر حكما جاهليا باطلا، وذلك للتلازم التام بين الدين والحكم، واستمر الأمر على ذلك حتى نبغت فتنة دعاة العلمانية الغربية وإذا بضعفاء الإيمان والمخدوعين من المسلمين يتأثرون بتلك الدعايات ويطالبون مجتمعاتهم بالسير في أثر أولئك في الوقت الذي جهلوا فيه – أو تجاهلوا – أن للغرب أسبابه الظاهرة في مناداتهم بالعلمانية وإقصاء الدين الذي مثله طغاة الكنيسة ردحا من الزمن، وكان على الشعوب الغربية كالكابوس الثقيل، وتغافل هؤلاء عن أن الإسلام ليس فيه شيء من ذلك، بل فيه العدل والنور، وإنه صلح عليه حال من قبلنا، وسيصلح به حالنا لو حكمناه واكتفينا به عن الأنظمة الجاهلية البشرية التي هي محل النقص دائما.



الثالثة: العلمانية والاقتصادأما العلمانية والاقتصاد والدين، فلقد كان الاقتصاد هو العصى السحرية التي أسهمت في قيام المذهب العلماني، فقد كانت الحالة الاقتصادية في أوربا في أتعس وضع وأبأس حال بسبب الوضع الاجتماعي المتخلف الذي أنتجته الديانة النصرانية وحكامها ممثلة في البابوات وأصحاب الجاه والسلطان الذين كانوا لا يهمهم إلا ضمان استرقاق الشعوب النصرانية وإذلالها لطواغيت رجال الدين وأباطرة الدولة، ولتكن حالتهم بعد ذلك إلى النار، فالدولة ليست مسؤولة عن الفقراء والبائسين.
فنشط النظام الإقطاعي واستبداد الطبقة العليا بمن دونها حسب النظام الجاهلي، وكان النظام الاقتصادي مكبلا بتعاليم الكنيسة تحليلا وتحريما، وكان قائما على ظلم الكادحين وشره رجال الكنيسة الذين احتووا جل مصادر الاقتصاد مضافا إلى ذلك صنوف الضرائب المفروضة على الفلاحين وغيرهم الذين كانوا يسخرون كلهم كما يسخر العبيد.
وعاش المجتمع النصراني اقتصادا ظالما متناقضا غاية التناقض منهم نخبة – الحاكم والرهبان - في الثريا، ومنهم قسم – بقية الشعوب – في الثرى لا يملكون إلا ما يسد رمقهم في أحسن الظروف، وفشا النظام الإقطاعي بأجلى صوره وأصبح فيه الأرقاء لا يزيد أحدهم عن كونه إحدى القطع أو إحدى البهائم التي يملكها صاحب الإقطاعية من طبقة النبلاء، وأوضاع أخرى بشعة وظلم واستبداد لا نظير له، ولا ينكر شيء منها، وبطالة وكسادا في كل نواحي الحياة، والملاحظ أن شياطين العلمانية قد فسروا كل تلك الأوضاع على أنها إحدى نتائج التدين، وأن الدين هو وراء هذه الأوضاع السيئة كلها بمباركته لرجال الكنيسة هذا التسلط والجبروت، فإذا بالنظريات الإلحادية تقوم على محاربة وجود الله تعالى ومحاربة رجال الدين وأن الاقتصاد ينبغي أن يتحرر عن كل أغلال الكنيسة وأن يتجه صوب الأفكار التحررية التي يجود بها زعماء التحررية بعيدا عن الدين، و في الوقت نفسه لم يكن لدى رجال الدين الكنسي ما يسعفهم بالدفاع عن دينهم إزاء هذه المسامير التي تدق في نعشه.
وتكاثرت السكاكين على هذا الثور الميت وارتفعت الأصوات من كل مكان تندد بالدين وبطرقه الاقتصادية الجائرة، وتدعو إلى سرعة الانفلات عن تعاليمه التي أصبحت بالية ولم تعد صالحة في عصر التطور وظهور النور، وبالتالي فلا سلطة لله تعالى ولا لرجال الكنيسة على المارد الجديد الذي هب ليدفع الظلم الذي رضيه الله – حسب زعم أقطاب العلمانية – لرجال الكنيسة، وبخبث حول هؤلاء الأقطاب العداء لرجال الدين وللأوضاع السيئة إلى العداء للدين نفسه، وتحميله كل تلك المآسي دون أن يكلفوا أنفسهم البحث عن حقيقة هذا الدين الذي اتسع لقبول تلك المآسي كلها، وهل هو دين صحيح أم هو باطل وضلال وتلفيق من كبار المخادعين النصارى، فلم يهتموا بالالتفات لذلك لحاجة في أنفسهم لكي يحملوا الدين تلك الأوضاع الاقتصادية المتردية.
والواقع أنه حينما أقصى العلمانيون الدين عن أي مجال من مجالات الحياة الاقتصادية على أساس أنه لا يحقق الخير لأتباعه ولا يرفع الظلم عنهم، لم يأتوا هم أيضا ببديل يرفع ذلك الكابوس، بل تخبطوا في حلقات مفرغة وعاشوا أوضاعا غاية في الفساد لم يكن الرابح فيها غير المرابين والمحتكرين وتجار الرقيق وأصحاب الشره المادي الذين لا يبالون بأحد ولا توجد فيهم أدنى عاطفة على الفقراء والضعفاء الذين لم يصلوا إلى معرفة حذق المرابين وعباد المال أو لم يكن لهم من المال ما يوصلهم إلى تلك المسالك الثعلبية.
وعاش عامة الناس في تعاسة رغم تزاحم النظريات الاقتصادية – سنة الله في الخارجين عن شرعه – ولم تنقذهم من تلك الحال لا الرأسمالية بنظامها الشره الذي أطلق للناس الحبل على الغارب على طريقة "من عز بز ومن غلب استلب" ولا الشيوعية الماركسية التي كبلت الناس وجعلتهم عبيدا يكدحون للدولة في مقابل ما تعطيهم لسد حاجة الجوع، ولا العلمانية التي لا يلوي فيها أحد على أحد.
مع أنهم ملؤوا الدنيا صراخا وعويلا على العمل لإخراج الفقراء من فقرهم وإيجاد اقتصاد حر مزدهر يوازي الجنة التي وعد بها الرسل أتباعهم بزعمهم، ورغبوا الناس في عبادة الإله الجديد في الإلحاد، وهو المادة ورؤوس الأموال، ولكن اتضح لكل ذي عينين أن المناداة شيء والواقع شيء آخر.
وإذا بتلك الأنظمة المعادية للدين لم تقدم حقيقة للناس إلا آمالا خيالية وإلا الإلحاد والإفلاس والغبن الفاحش وانتزاع احترام الدين والتدين من قلوب أتباعه وإحلال ضلالاتهم بدلا عن ضلالات الدين النصراني البولسي، وصح عليهم المثل القائل: "إنك لا تجني من الشوك العنب"، وظهر سوء الاقتصاد وسوء التوزيع للثروات وسوء التكافل الاجتماعي جلياً في العلمانية، ولكنهم لا يعرفون بديلا منقذا في حال استكبارهم عن طريقة الإسلام في نظامه الاقتصادي.


المذاهب الفكرية المعاصرة لغالب عواجي 2/718


الرابعة: العلمانية في التربية والثقافة
قبل أن يصطدم الغرب المتحضر بالشرق المتخلف كانت التربية في الأخيرة متأخرة أسلوباً وموضوعاً، وكانت الثقافة جامدة ومحدودة.
كان نصيب الأمة الإسلامية من المعرفة ينحصر في بقايا التراث الفكري الذي دونه علماء الكلام والفقه واللغة في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية تلك البقايا التي تسمى "الكتب الصفراء " أو الثقافة التقليدية، وفي أحسن الأحوال "الثقافة الأصلية " - كما في بلاد المغرب -.
......ولنأخذ شاهداً قريباً لذلك من الأزهر الذي صبت عليه اللعنات لجموده وتخلفه.
كان الأزهر منذ تأسيسه يدرس في حلقاته المكتظة الفلك والجبر والهندسة والطب كما يدرس الفقه والنحو والحديث سواء بسواء بلا حرج ولا غضاضة.
وظل كذلك إلى عصر ليس ببعيد، فها هو ذا الجبرتي يورد في تاريخه أسماء كثيرين ممن نبغوا في هذه العلوم بالنسبة لعصرهم - منهم والده - وإن كان مستواهم متخلفاً بالنسبة لما هو عليه حال معاصريهم في الغرب، ذلك أن هؤلاء يمثلون الدفعات الأخيرة لحضارة منهارة، في حين يمثل أولئك - الغربيون - طلائع متقدمة لحضارة فتية. ومع ذبول الحضارة الإسلامية التدريجي تقلص ميدان العلم ليقتصر على العلوم الضرورية التي لا يمكن للمجتمع الإسلامي أن يحيا بغيرها، وأهملت العلوم الأخرى لا تحريماً لها ولكن عجزاً وتهاوناً يميلها الواقع المنهار من كل ناحية.
وفي فترة الركود العلمي تلك ولدت أجيال بررت ذلك العجز والتهاون بصنوف المعاذير ثم استساغت الانغلاق وفسرت الدين نفسه تفسيراً ضيقاً وحددت علومه تحديداً نابعاً من واقعها المظلم لا من حقيقة الدين وجوهره.
......وحدثت نفرة شديدة بين علم الأزهر الذي كان يعتقد أنه يمثل الثقافة الإسلامية أصدق تمثيل وبين علم الغرب الذي بدا لأعين الأزهريين غريباً خاصاً بالكفار.
من هذا الخطأ التاريخي تقريباً نشأت الازدواجية الخطرة في العالم الإسلامي :تعليم ديني ضيق محدود، وتعليم لا ديني يشمل نشاطات الفكر كلها.وقد حاول محمد علي في أول الأمر أن يدخل العلوم الحديثة ضمن مناهج الأزهر، إلا أنه خشي معارضة الأزهريين، فقام على الفور بإنشاء نظامه التعليمي الحديث، وهكذا انقسم التعليم في مصر إلى نظام ديني ونظام مدني حديث "ولما كان اللقاء بين شيخ الأزهر "وجومار" مستحيلاً فقد كان لا بد من الصراع بين أتباع وثقافة كل منهما، ورأى أبناء جومار أن القضاء على الأزهر يكون ببقائه جامداً معزولاً عن الحياة ومتغيراتها.
استصدروا من الخديوى إسماعيل سنة 1872 "القانون الخاص بتنظيم الأزهر وإصلاحه ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍"وتنص فقرة ب منه على :"تحديد الدراسات التي تعطى بالأزهر بإحدى عشرة مادة هي :الفقه وأصول الدين والتوحيد والحديث والتفسير والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والمنطق (3) "
ووافق ذلك في نفوس علماء الأزهر، وبذلك قطع الطريق أمام وعي ذاتي لإصلاح الأزهر حقيقة.
أما المدارس الحديثة التي أنشأها محمد علي وأولاده فقد كانت مجالاتها أرحب وفرصها أوسع، وكانت البعثات إلى الخارج قائمة على قدم وساق.
والناحية الأشد خطورة هي الوسائل التي ينتهجها كلا النظامين التعليميين : النظام الديني "كما سمي " يقوم في الكتاتيب المتفرقة في القرى والأمصار للمرحلة الابتدائية، والجامع الأزهر للمرحلة العليا.
والكتاتيب يدرس فيها "فقهاء"(4) يجتمع حولهم الطلبة في مظاهر ريفية يحملون الألواح القديمة والمصاحف، والفقيه يتوسطهم بعمامته وفي يده عصا طويلة، ويقوم بتلقينهم بطريقة تغاير روح التربية الإسلامية المأثورة التي كانت في عصرها أرقى أساليب التربية العالية.
يتحدث "جب "عن شيء من ذلك قائلاً :"وكانت المصادر الأولى التي أخذ الفكر الأوروبي يشع منها هي المدارس المهنية التي أنشأها محمد علي والبعثات العلمية التي أرسلها إلى أوروبا".
ويذكر أن منها "مدرسة الألسن التي كان يشرف عليها العالم الفذ رفاعة الطهطاوي (1801-1873م)

وهو تلميذ جومار البار.
فالاستعمار -كما قال أحد شعراء المسلمين في الهند - أذكى من فرعون الذي استخدم سياسة قتل الأولاد، ولم يفتح لهم مدارس وكليات تقتلهم من حيث لا يشعرون كما فعل المستعمرون.(8)
فقد افتتحوا مدارس غربية قلباً وقالباً في المراكز الثقافية الكبرى للعالم الإسلامي ورسموا المخططات لاستئصال التعليم الأصلي.
من هذه المدارس الكليات التبشيرية التي أنشئت في لاهور وبيروت واستنبول والقاهرة وغيرها،عدا المدارس الأقل شأناً التي انتشرت في الهند وبلاد الشام ومصر وبصفة أظهر في بلاد المغرب.


يتبــــع