بلوغ الحدود
(1)
إن هدف المُنشقين الأولي في تحقيق تعددية اشتراكية قادهم الى وصف مشروعهم باعتباره (تنظيماً ذاتياً للمجتمع لا أكثر). فبعد محاولات، بات المجتمع المدني في عموم منطقة أوروبا الشرقية يعني المعارضة صراحةً. وربما كان بالوسع التفاوض بشأن تسوية مؤقتة بين المجتمع والدولة الفاقدة للشرعية باطراد.
لقد كانت رؤية (فاسلاف هافل: الرئيس التشيكي فيما بعد) تعبر عن طبيعة التفكير التي كانت سائدة في أوروبا الشرقية بما فيها (الاتحاد السوفييتي) فالمهمة الملائمة المنوطة بالدولة بالنسبة له هي: الدفاع عن القواعد المؤسساتية لمجتمع مدني غير مُسَيّس، ومُستقل، وتعددي، ومنظم ذاتياً. وأي شيء خلاف ذلك سيكون تهديداً مميتاً للاستقلالية الشخصية ولسلامة المجتمع.
(2)
أوحى بعض المنظرين أن الأصل المصطنع للاشتراكية الأوروبية الشرقية يُفسر تشوّه البنى الاجتماعية في بلدانهم. فالمسار الطبيعي للتطور للتطور الرأسمالي الديمقراطي قد أجهضته الحرب العالمية الثانية، كما فرضت معاهدة (يالطا) نموذج الدولة القائدة في الاتحاد السوفييتي على بيئة لم تكن مناسبة لها. فاملاءات السياسات الدولية حفظت هذه البيئة المصطنعة في مكانها لوقت طويل.
إذا كان السوق يقع في صميم المجتمع المدني، فإن (مناهضة السياسة) أنتجت نظرية ليبرالية عن الدولة. (( إن الدولة يمكن أن تحمي المجتمع، وتقوم بالتعبير عن مصالحه؛ وهذه الأمور في الحقيقة هي من صميم عملها)).*1
((إن الدولة تزج أموراً، وقضايا، وقرارات لا حصر لها في السياسة التي لا شأن لها فيها؛ فالأمور الشخصية وقضايا التقنية ليس للدولة، في نهاية المطاف، علاقة بها))*2. إن المجتمع المدني العادي يقتضي تحرير ميادين كالعلم والموسيقى والدين وتربية الحيوانات، وتحريرها من (الانتفاخ المَرَضي للدولة السياسية)*3
(3)
لقد آمن القائمون على مناهضة الدولة الاشتراكية، بأن المجتمع المدني (المنظم ذاتيا) و(المحدود ذاتيا) المنفصل عن الدولة بحقوق الملكية وحكم القانون سوف يتشكل حتماً بفضل السوق.
ويرى هؤلاء: إن الاقتصادات الأوامرية (الموجَهة)، ودول الحزب الواحد، تعطل، بكل ما للكلمة من معنى استقلالية تلك الميادين المنفصلة، بحيث يصبح من المحال تنظيم مسعى المصلحة الشخصية في الميدان الوحيد الذي يهمها فعلاً. ولهذا برأي هؤلاء فإن الديمقراطية السياسية والرأسمالية الآن شيئاً واحداً.
لذلك، فإن إحياء الاهتمام بالمجتمع المدني نشأ ضمن جهود الطبقة المثقفة في أوروبا الشرقية لدمقرطة (الاشتراكية القائمة). وإذ تركزت جهودهم ضد احتكار دولة الحزب للنشاط السياسي، أولى هؤلاء المثقفون عناية قليلة بالمسائل الاقتصادية. ولكنهم سرعان ما اضطروا الى مواجهة البنى الاقتصادية الأساسية للاقتصاد المخطط، ثم اكتشفوا أن السوق بوصفها ميداناً مُنظماً ذاتياً للفرص الفردية والرفاه الاجتماعي قادر على أن يوجه ضربة قاضية لبيروقراطية الدولة، المتملقة وعديمة الكفاءة التي تقوم بخدمة أغراضها الخاصة.
(4)
وفي النهاية، فإن آمالهم في أن المجتمع المدني (المحدود ذاتياً) قادر على دمقرطة الشيوعية من دون التحول الى الرأسمالية لم تستطع أن تتجاوز محدودية مضامين ليبراليتهم. وبعد أن صاغوا نداءاتهم بلغة (الديمقراطية) و (الميدان العام) و (التعددية) وما شابه، فشلوا في معالجة مفعول السوق، ويبدو أنهم تخيلوا أن (المجتمع المدني) يمكن أن يُعاد تشكيله من دون ثمن.
فالمجتمع المدني الذي (يحكم ذاته) من دون أحزاب سياسية محترفة وكُتل سياسية مستقلة، أو من دون حياة سياسية متماسّة كان منذ البداية محض خيال.
هوامش من تهميش المؤلف
*1ـ Hungarian by Richard E. Allen (New York; San Diego: Harcourt, Brace, Jovanovich, 1984 صفحة 160.
*2ـ المصدر السابق صفحة 228.
*3ـ المصدر نفسه صفحة 229.