حياة أميرة عثمانية في المنفى"9"أهلا بكم في بيروت ... ومع القسم الثاني .. هذا القسم يبدأ بداية غريبة ... يبدأ هكذا في وسعها أن تصفعني بقدر ما تستطيع،فلن أخفض عيني. وتكفي شكوى واحدة،وتكون قد انتقمت،ولن يكون بها حاجة إلى الضرب،وقد تعفو. إنني لن أقدم لها هذه الفرصة. فذلك معناه أنها على حق.وفي ساحة اللعب،وحول المرأة التي تلبس الثياب السوداء،وحول الفتاة ذات الخُصل الحمراء،كانت الطالبات يزدحمن،صامتات. وهذا الذي بدا كأنه وليمة – يكاد ينتهي إلى مأساة – وأخيرا سنرى هذه الوقحة تبكي. والأم أشيليه تضرب بعنف – إنها على وشك أن تقصم ظهرها ... فلماذا لا تصرخ وتبكي هذه الحمقاء؟ أولا تعلم أن عليها أن تصرخ قبل أن تشعر بالألم. فالراهبات ذوات قلوب رقيقة،ولا يحتملن سماع الصراخ.وتوقفت الراهبة،متعبة. وترفع سلمى ذقنها،وتكسو وجهها بسيماء الاحتقار – كما لو أنها ضحية أمام معذّبها. - ستكتبين لي الدرس مئة مرة!- كلا.فعمّت الدهشة الطالبات : إنها قوية،هذه التركية الصغيرة. واصفرت الأم أشيليه،وقالت :- إنكِ الشيطان! وسنرى ماذا تقول عن سلوكك الأم المديرة. وانطلقت بما تلبس من تنانير وأكمام،وأدارت ظهرها،واتجهت إلى مكتب الراهبة العليا.واقتربت مراهقة سمراء من سلمى بخجل. إنها أمل،بنت أسرة درزية كبيرة،من هؤلاء الإقطاعيين الذين سيطروا على الجبل اللبناني قرونا وقرونا. وقالت لها،قلقة :- ستُطردين إذن. فماذا ستقول أمك.- ستهنئني.- ؟؟؟- إن أمي لا تقبل أن تهان أسرتنا. وهذه التي يقال إنها مدرّسة تاريخ ليست إلا كاذبة! أو يقال عن راهبة إنها كاذبة! إن الطالبات لا يصدقن ما يسمعن. ويبتعد بعضهن لينقلن الكفر الذي لا يصدق،لغيرهن. ولا يَجرؤ أحد على تخيل ما قد يقع – ولكننا حتما سنتسلى. وتنظر الأم مارك،في مكتبها المغلف بخشب قاتم،إلى الصليب الذي علّق فيه المسيح،داعية أن يلهمها الصواب. فهذه حالة تمرد موصوفة. وهي مضطرة إلى الرد بعنف. ولكن هل تستطيع أن تقسِر هذه الصغيرة على أن تقول السوء عن ذويها؟ وفي العام الماضي،جوبهت بمشكلة مماثلة،بعد الدرس الذي كان يتعلق بالحروب الصليبية! وكان في الصف طالبتان مسلمتان،جاء أبوهما فأخذهما دون أن ينبسا ببنت شفة.وهذه المؤسسات،الشبيهة بهذه التي تديرها الأم مارك في بيروت – أي مدرسة أخوات بيزانسون – مفتوحة للأطفال من كل الأديان. وهي لا تهدف إلى هداية "الغنمات الشاردة"ولكنها لا تفقد الأمل بأن كلام الربّ مثل البذور التي تُرمى في الهواء وستنتهي ذات يوم بأن تنبت. ويقرع الباب بثلاث ضربات خفيفة. وتدخل صبية ذات شعر كثيف،ملتهب،فوق ياقة من الدانتيل الأبيض،الذي يُحلي اللباس الأزرق – البحري. وعيناها مخفضتان،والجبهة عنيدة،وتقدّم عميق الاحترام بانحناءة كبيرة.- يمكنكِ أن ترفعي راسك يا آنسة.وتضرب الأم مارك على مكتبها ضربات خفيفة بأصبعها العاجية الطويلة.- إنك ترين،يا ابنتي،أني مترددة. فماذا تفعلين لو كنت في مكاني؟ولكنها لم تتوقع تلك النظرة المثقلة بالتأنيب،ولا الرد الجارح،على ما فيه من حسن التهذيب.- ليس لي شرف الحلول محلك،أيتها الأم المحترمة.- "الأم"!- عفوا؟- أمي المبجلة.- نعم،الأم المبجلة.واختارت الأم مارك أن تضع الحذف (حذف حرف ي من "أمي"والاكتفاء بالأم وحدها) على حساب الجهل باللغة الفرنسية،وتابعت كلامها بلهجة ناعمة،قائلة :- إن الأم أشيليه تطلب طردك. وتؤكد أن في سلوكك خطر على النظام في الصف.وتسكت سلمى. وتفكر بأمها. مسكينة أيندجيم. فبعد خيري الذي يأبى أن يذهب إلى المدرسة،لأن رفاقه يسمونه "صاحب الحمرنة Annesse" بدلا "صاحب السمو Altesse". وهاهي تسبب لها مشكلات جديدة. وعندما خطر لها ما ستعانيه أمها من ذلك،ضعُف عزمها.- أيتها الأم المحترمة – ما ذا تفعلين لو أنهم أرغموك على حفظ – وهنا يضعف صوتها – على حفظ أن جدك كان مجنونا ... وعمك الكبير كان شيطانا مغرما بدم الآخرين ... وعمك الآخر ضعيف العقل،والأخير جبانا؟وتنظر الأم مارك من جديد إلى الصليب الذي عليه المسيح. ثم استدارت إلى المراهقة،وعيناها تلمعان.- إن سيدنا يسوع المسيح قد صُلب{"ولكن شبه لهم"}،لأن معاصريه كانوا يرون فيه "دجالا".فأحكام الناس،كما ترين،تعكس حدودهم : فليس هناك من تاريخ،بل هناك وجهات نظر. والوحيد الذي يعرف الحقيقة،هو الذي لا يملك وجهة نظر،لأنه غير محدود بشيء. فهو في كل مكان،إنه الله.وباعتبارها حفيدة متأخرة لأسرة عظيمة من أيام الصليبيين الذين حاربوا،ووهبوا حياتهم للحقيقة،فإن الأم مارك تضطرب وكأنها قد خانتهم. ورأت أن تستعجل الخلاص من هذه القصة،ولكن صوتها يضطرب قليلا عندما تنطق بحكمها :- إنك لن تحضري بعد الآن درس التاريخ،وستدرسين البرنامج وحدك. وأعتقد أنه ليس من الضروري أن أشير إلى هذا الحادث أمام السلطانة.- أوه! شكرا يا أمي المبجلة!وباندفاع طبيعي،قبلت سلمى يد الراهبة العليا،وحملتها إلى جبينها كما كانوا يفعلون في البلاط العثماني. وتمتمت الراهبة، مندهشة :- امضي بسلام،يا بنيتي!ومن غير أن تفكر سلمى،وحسب العادة الإسلامية،أجابت :- رافقتك السلامة،يا أمي!وبدا للأم مارك أن المسيح،من صليبه،يبتسم لها. وإذا قارنا بيروت بالعاصمة العثمانية،وجدناها مدينة حلوة في المحافظات،يسكنها حوالي المئة ألف نسمة،تزينها بيوت بيضاء ذات سقوف من القرميد الأحمر،ومحاطة بحدائق كثيرة الظلال. وفي الغرب في حي رأس بيروت،حيث استقرت السلطانة،يمكن للإنسان من الشرفة أن يرى البحر،ذا اللون الأزرق الشديد الزرقة حتى أن سلمى صُدمت منه أول مرة،كما يُصدم الإنسان مما يبدو له من سوء الأدب لدى إنسان ما. ولكن البُنيّة فهمت تدريجيا أن كل بيروت كانت على صورة البحر المتوسط ضاحكة،ممتلئة حيوية،على نقيض إستانبول وبوسفورها،اللذين كان شفوفهما المتقلب المغمور بالأحلام والأشواق،يُثير الرغبة في البكاء من شدة الرقة. ثم إن السيدة اللبنانية التي أجرتهم بيتهم الجديد"تعشق تركيا والأتراك!" – ككل سكان الحي،على ما تؤكد هي.وبزهو ما تعظّم لهم شأن بيتهم المجمل بأشجار التين دون أن تشير إلى المزاريب التي تهرّب ما يجري فيها من الماء،وتملأ الجدران ببقع كبيرة من العفن،ولا إلى النوافذ التي لا ترى حرجا من مرور الهواء،منها،بكامل الحرية.وتشرح لهم :- أن الأسر السنية تسكن في رأس بيروت،وتلك الأسرة التي كانت في عهد العثمانيين،وحتى مجيء الفرنسيين،سادة المدينة،خلال أربعة قرون."أما هنا فتسكن عائلة الغندور،التي كانت تملك إدارة حصر التبغ والتنباك. وأسرة البلطيجي،والتي تسيطر على المرفأ. وهناك نجد بيت الداعوق،وبيهم،والصلح. وهم جميعا أغنياء جدا! ثم إنهم يتكلمون اللغة التركية،كما يتكلمون اللغة العربية،وأحيانا نراهم يفاخرون بوجود دم تركي في عروقهم،عن طريق جدّة شركسية أو إستانبولية". وتضيف إن هذا المجتمع الراقي السني،على أفضل حال مع الأسر الرومية الأرثوذكسية،التي تشكل أقلية عظيمة القوة. وهذه جميعا تستقبل الزوار،تقريبا كل يوم. فيلعب الرجال بالورق والبوكر،وتلعب النساء بالبيناكل،وفي آخر ما بعد الظهر،يتنزه الناس على الأحصنة،في الهضاب المجاورة،ولاسيما في الربيع عندما يتعطر الجو برائحة الزعتر والزعرور. وتهز السلطانة رأسها،بأدب،فتفهم صاحبة البيت أن في ذلك دعوة لمواصلة الحديث،فتسرع إلى إيضاح أن هذه الأسر : أي السرسق،والطراد،والتويني،وكلهم من أصحاب المصارف،هي التي تقدم أجمل الاستقبالات.ويلتقي عندهم كل أهل بيروت،من مسيحيين ومسلمين.والمسيحيون هنا هم الذين يتبعون الطقوس الإغريقية،ذلك أن الموارنة،باستثناء بعض الأسر المقيمة هنا منذ أجيال كثيرة،قلائل في بيروت. وما تزال أكثريتهم تسكن في الجبل،وهم فلاحون حريصون على أرضهم وكنيستهم. (..) .. إن الهوة تكبر بين البيروتيين القدماء،و البيروتيين الجدد. بيد أن الإدارة الفرنسية لا تشجع المارونيين وحدهم،بل إنها بحاجة كذلك إلى دعائم قوية لدى الطائفة الإسلامية. وهي تعلم أنه لا يمكنها أن تنتظر من البورجوازية السنية العليا،الكثير من الحماسة،وذلك أنها عندما أنشأت لبنان،فصلته عن المملكة العربية التي وعد بها الإنجليز العرب والتي كان عليها أن تضم سورية ولبنان وفلسطين. وعدا ذلك فإن الانتداب اضطر لكي يثبّت وجوده إلى الضغط على المصالح الاقتصادية لهؤلاء السنيين الأغنياء. ومع ذلك فإن العلاقات تظل سليمة،وأحيانا جيدة بين الطوائف. فقد كان اللبنانيون دبلوماسيين دوما. أما فيما بينهم (بين السنيين خاصة) فإنهم يتهمون فرسنا بأنها أساءت إلى ثروة البلاد،بصورة خاصة،عندما عوضّت عن الليرة الذهبية،بليرة ورقية تعتمد على الفرنك. وهم مستاؤون،بشكل خاص،من أن أعظم المراكز نفوذا في السياسة،والقضاء،والجيش،قد أعطيت للمسيحيين. وبالمقابل فإن هناك طبقة بورجوازية متوسطة،سنية،لم تكن تكلّف في عهد العثمانيين بوظائف هامة. فصار الفرنسيون يعتمدون على بعض هذه الأسر،ويشجعونها ليكسبوا إخلاصها. وإلى هذا المجتمع البيروتي،المشرف على تحولات عظيمة،بتأثير سادته الجدد و"أصدقائه"وصلت السلطانة خديجة،مصحوبة بولديها،و زينل،وكالفتين.) {ص 215 - 221 }. وهنا بالضبط ... انتهت هذه الحلقة .. فإلى اللقاء في الحلقة القادمة.