هل سيستعير الثوار العرب (المايجي) كما استعاره اليابانيون؟
تيقن إمبراطور اليابان، كما تيقن الشعب أن بلدهم في خطر، فإن لم يحسموا أمرهم في التلاحم والتفكير الجدي، فإن مصيرهم الى الاحتلال والاصطدام مع مَن سيحتلهم، وفي تلك الحالة ستتعقد الأمور، وتتموه الخنادق، وتكثر التُهم بالخيانة وسيحرم الاحتلال اليابانيين من فرص التطور والنهوض.
هناك، لم يتوسل الشعب الياباني من إمبراطوره أن يعيرهم اسمه (الرمزي)، بل اتفقوا ضمناً على أن يبقوه دون طلب استعارة، طالما أن بقاءه سيبقي الشعب متوحداً وسيفتح أمام اليابانيين التفكير السريع بترتيب بيتهم، ووضع الخطط للنمو في كل مجال (دستور جديد، نقل التقانة الحديثة، رفع الهمم بزيادة الإنتاج، والبحث العلمي، ترك مجال تدخل الدين في السياسة الخ).
لم يرضخ الإمبراطور الياباني لأوامر الشعب، بل استحسنها وتماهى معها في دورٍ وطني رمم به صورة ماضيه الفاسد وتحالفه مع الفاسدين.
هل يقبل الإمبراطور العربي أن يعير اسمه لشعبه؟
لم تكن مطالبات الشعب العربي في الإصلاح السياسي طارئة ومستجدة، بل بدأت منذ تكوين الدولة العربية الحديثة بعد الاستقلال. ولكن، وبدلاً من أن ترتقي عمليات التطور الإداري قُدُماً، رأيناها تتراجع من سيء الى أسوأ، فالحريات التي كانت متاحة في خمسينات وستينات القرن العشرين، تراجعت ليحترف النظام العربي عمليات التضييق على مواطنيه، وتختفي الطبقات المتوسطة ليصعد بدلاً منها جماعات استمرأت الفساد، فأصبح من يحكم البلدان العربية أكثر الفئات جهلاً وأكثرهم فساداً، ففوق أنهم غير مؤهلين، كانوا أكثر الناس فساداً، وحتى لو كان قسمٌ من (الزُمر) الحاكمة يتمتع بقدرة علمية أو إدارية، فإن تلك القدرات ستوظف سريعاً لتخدم النظام بأهدافه التي أبسط ما يُقال فيها أنها لا تتوافق مع متطلبات المجتمع بالنهوض والتحرر.
لقد زينت الجماعات المحيطة بالحاكم والمستفيدة من بقائه، الصورة له، وظهر من ينعته بأجمل الصفات، فهو الحاكم المُحنك والكريم، والمُخترع والمغوار والبطل، والذي لا ينطق عن الهوى. أما من ينتقده فكان يوصف بأنه واحد من شرذمة حسودة، جوعانة، مكروهة جماهيرياً، وطريقة التعامل مع مثل هؤلاء إما بإغرائهم ببعض المكاسب السخيفة، وإن لم يقبل، فالتضييق عليه في رزقه وحركته، سيكون الحل المُعتمد.
لذلك، فإن التفاهم مع المعارضة أو النزول عند رغبات الشعب، لم يكن من بين أولويات الحكام العرب، وإن اضطر حاكمٌ الى إتباع وصفة مُعينة، فإنه يحسبها حساباً جيداً، وبمعاونة من يحيط به، فينقط تنازله تنقيطاً، فيغير وزارة أو أسماء من وزراءه بأسماءٍ سبق أن تعرف عليها الشعب، ولم يخرجها من دائرة الامتعاض التي تشمل كل أركان النظام، وإن أراد أن يشكل لجنة للحوار، فإنه يبحث عن أسماءٍ ممن تعرف عليها من خلال (المراقبة الطويلة)، ويأتي بأقلها أذىً، فيمجّها الناس منذ الوهلة الأولى.
من يراقب ما يحدث في اليمن، وما سبقه في مصر وتونس، فإنه سيجد تلك الوصفات ماثلة بشكل جيد، ولا تخرج الأردن والبحرين والمغرب عن تلك المنهجية.
أما رشوة المواطنين، بصرف بعض المخصصات والتخفيف عن كواهلهم، فإنه حلٌ يثير السخرية، أكثر مما لو تمسك الحاكم بموقفه والدفاع عن طبيعة نظام حكمه دون أن يتنازل عن شيء، فالمبالغ التي تصرف تحت تلك البنود لم يحصل عليها الحاكم من عرق جبينه وكَدّ ذراعه، بل هي أموالٌ، إما من ثروات الوطن المدفونة، والتي لا فضل لا للحاكم ولا حتى الشعب بها، أو من الضرائب المُبالغ بها التي كانت توضع بشكل متصاعد طالما أن الشعب ساكت، أو رشاوى ومعونات خارجية جاءت لتكييف مواقف الدولة مع ما يحيط بها من متغيرات خارجية كانت الرغبة في دفعها لتحييد الشعب عن قول كلمته فيها.
وفي كل الأحوال، فإن المواطن الذي تُعرض عليه مثل تلك التنازلات، سيتيقن من أن الحكومة والنظام كانا فاسدين، وهذه التنازلات اعتراف واضح بذلك، فلماذا لم يتم تعاطيها سابقاً؟ وسيتعرف المواطن على أسلوبٍ قد يصبح مُضراً لا للنظام فحسب بل للدولة والوطن والمواطن، وهذا الأسلوب سيكون برفع سقف المطالبات، والتي لا لإمكانيات الدولة قدرة على إعطائها ولا يمكن حتى لو تنازل الحاكم عن كرسيه وأعطاه للمتظاهرين (أو الثوَّار) ليقوموا بإدارة البلاد، أن يلبي الحاكم الجديد تلك المطالب!
ما السبيل إذن؟
حتى لا تكون الفوضى هي السمة العامة للحراك الذي دب في أرجاء الوطن العربي، وتنحرف المسارات لتلك الاحتجاجات والانتفاضات عن مسارها، ويحدث ما آل إليه الوضع في ليبيا أو اليمن أو البحرين، فعندما تسيل الدماء، فإنها كإشارة انطلاق قطارٍ في منحدر، لا يمكن إيقافه إلا بعد أن يصل الى أسفل المنحدر، وقد يتحطم ويتحطم من يستقله ومن يقطن على ضفاف سكته!
فالمطلوب هو أن تعترف الأنظمة العربية، أن حجم (المسكوت عنه) قد فاض وخرج من مخارج لم تكن في الحسبان، وإن الخوف من المطالبات قد انتهى، وأنه لا بُد من مناقشة أوضاع كل بلدٍ دون استخفاف بقدرات الشعب على مواصلة مطالباته. كما أنه مطلوب من قيادات المظاهرات والاحتجاجات والثورات أن تتنبه لما يلي:
1ـ إن الطرف الآخر الذي تحتج عليه، له أنصاره، وله مصالحه، وله من يؤيده في الخارج، وأنه ليس جبهة ضعيفة كما يتصور البعض، وأنه في النهاية شريك في المواطنة والوطن، وأن زيادة حجم المطالبات دون تصور ما سيؤول إليه الوضع، سيؤدي الى إراقة دماء كثيرة، سيصعب اجتثاث آثارها فيما بعد.
2ـ إن إزاحة رأس نظام، ستقود لجولات من الصراع البيني بعد الانتهاء من إزاحة رأس النظام، والتجارب التي حدثت في تونس ومصر، رغم نقاء صورة أدائها الأولي، لكن لم نرَ ولن نرى بسرعة نتائجها، فعلى الناس أن ينتظموا في هيئات تناقش كل صغيرة وكبيرة، وكأنها كُلفت باستلام الحكم، عليها بحث المديونية وصرف الرواتب وعلاقاتها بمحيطها وتطوير الإنتاج. فالنقاش السياسي لا يتوقف عند ذكر مساوئ من تثور عليه، بل يتفرع لآلاف المواضيع.
3ـ إن كان بالإمكان تحصيل مكاسب فتح الحريات، وتفجير مواطن الإبداع الإنتاجي والثقافي والفني، والكرامة السياسية، وتحقيق العدل والمساواة بين الناس، بوجود نفس الحاكم (المايجي)، فلا بأس من ذلك، حتى لا تدور الثارات بين المواطنين. ولا أظن أن العشرة ملايين الذين خرجوا في مصر كانت تحركهم رغباتهم في الوصول الى سدة الحكم، بل كانت دوافعهم التي ذكرنا.
أما المايجي العربي فإنه مُطالب بما يلي:
1ـ فتح باب الحوارات الجماهيرية، بحضور من يمثل النظام، في كل قصبة وقرية ومدينة، والتعامل مع المواطنين كشركاء في الوطن، وكأنه اجتماع لجمعية عمومية لشركة مساهمة عامة، تختار ممثليها لإدارة القرى والقصبات والمدن، وتبتعد عن التعامل مع المواطنين وكأنهم رعايا لا تفهم شيئاً بل تتلقى من رعاتها ما يرمونه لها.
2ـ دعوة الفعاليات الشعبية (النقابات والجمعيات والأندية والروابط والأحزاب) لعمل مثل تلك اللقاءات فيما بينها لمناقشة خصوصياتها (المهنية) وتدوين ما تراه ناقصاً في أدائها بفعل حزمة القوانين التي عطلت من إبداعها.
3ـ تشكيل هيئات إقليمية تضم ما أفرزته اللقاءات السابقة، وتكليف من يصوغ مطالبها ورؤاها بما يؤدي في النهاية لصياغة مطالب ورؤى لكل بلدٍ عربي.
قد تأخذ تلك الجولات أسابيع أو أشهر أو حتى سنين، ولكنها في النهاية سترتقي بكل بلدٍ الى أن يلحق بالركب العالمي في مناقشة شؤونه، دون أن يدخل في نفق مظلم لا يتوقع الخروج منه دون خسائر هائلة.
عندها سيكون المايجي العربي شبيه بالمايجي الياباني.