14/12/2010 كتاب كيف صار الأنباط عملاء لعمرو بن العاص؟! زيدان يواصل البحث في المسكوت عنه تاريخيا

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي غلاف الكتاب
صبحي موسى
النبطي» هي الرواية الثالثة للكاتب المصري يوسف زيدان بعد روايته «عزازيل» الفائزة بجائزة البوكر العربية في نسختها الثانية ورواية (ظل الأفعى)، صدرت طبعتها الثالثة في أقل من أسبوع عن دار الشروق في القاهرة، وفيها واصل زيدان كشفه عن المسكوت عنه في تاريخنا العربي القديم، منتقلاً من إشكالية الخلاف المذهبي المسيحي الكبير في «عزازيل»، إلى إشكالية مشاركة الجماعات الباقية من العرب البائدة الذين عروا بالأنباط لعمرو ابن العاص في فتحه مصر، وهو الأمر الذي قد يثير العديد من الخلافات حول التفاصيل التاريخية التي اعتمدها في إنجاز ملحمته الجديدة، مما قد يحيل أغلب القراءات النقدية للعمل إلى محاكمات تاريخية لا علاقة لها بالعمل كنص أدبي.

تقوم الرواية على محاولة لجمع المصريين والأنباط الرحل عبر زواج واحد منهم بفتاة مصرية أوشكت على العنوسة، ومن ثم يصطحبها معه إلى بلاده كي تقيم بين بقايا حضارة الأنباط في المنطقة الواقعة بين الأردن وجزيرة العرب، وهناك تتعرف على عبادة هؤلاء العرب الذين اتخذوا من الجبال مساكن لهم، وعلى أساطيرهم وطرائق علاجهم وغذائهم وطقوسهم اليومية في الزواج والموت والميلاد، ومن ثم فالرواية تعتمد في أغلبها على البعد المعرفي أكثر من الصراع الفني، حتى أنها تبدو في بمنزلة زخم معرفي هائل صنع زيدان لأجله حيلة سردية تتمثل في زواج نبطي من مصرية واصطحابها إلى مضارب أهله في الصحراء.
رواة وشخوص تاريخية
ويمكننا من هذا المنطلق تقسيم الشخوص إلى رواة عارفين بالأخبار القديمة وهم الزوج/ سلامة وأخويه النبطي والهودي، وشخوص تاريخية بالفعل استجلبها لنصه كي يكون مبرراً فنياً لاستعمالهم الأنباط في خدمة الفتح العربي، وهم عمرو بن العاص وحاطب ابن أبي بلتعة وفروة ابن عمرو الجذامي، وأما النوع الثالث فهو الشخوص الفنية، أو التي نسجها العمل السردي بطبيعته القائمة على الشخوص والصراع والتفاصيل اليومية، وهؤلاء كثيرون كأم الفتاة وجيرانها والقس الذي في الكفر المقيمة فيه، وكذلك عمرو هو وعمه مالك وأمه أم البنين واليهود الذين رحلوا من خيبر بعد فتح النبي لها، وجاؤوا ليقيموا بجوار نسيبهم اليهودي، وغيرهم من أبناء وأحفاد أم البنين سواء الإناث أو الذكور.
وجاءت الرواية على ثلاثة أجزاء، الأول رصد فيه تفاصيل حياة مارية في مصر، وذلك قبيل عودة الروم إليها، ويمكننا القول انه الزمن نفسه الذي نزلت فيه آية البشارة للمسلمين «غلبت الروم وهم من بعد غلبهم سيغلبون»، وحملت هذه المرحلة مسمى الحياة الأولى، وأما الحياة الثانية فقد اشتملت على تفاصيل ما يمكن تسميته بالرحلة المقدسة من مصر إلى مضارب الأنباط، وذلك لكثرة الأماكن المقدسة التي مروا بها، وكثرة المعلومات الواردة عن اليهودية والمسيحية ومعبود الأنباط الإله إيل.
أما الحياة الثالثة وهي الأكثر فنية في العمل ككل فقد تضمنت حياة مارية في مضارب الأنباط، وعلاقتها بزوجها الذي لا تحبه ولا يحبها، واكتشافها أنه غير منجب وصبرها على ذلك، فضلاً عن علاقة الحب الجسدي التي نشأت بينها وبين أخته ليلي، وعلاقة الحب الروحي بينها وبين أخيه النبطي، كما أنها حاولت الإجابة عن: كيف استعمل العرب الأنباط في فتح مصر؟ فبعدما بارت تجارة الأنباط بسبب فتوحات العرب استغل الزوج سلامة معرفته بأمير الحرب عمرو ابن العاص، كما استغل زواجه من سيدة مصرية ليقنعهم أنه على معرفة بكل ما يدور بمصر، ومن ثم اقتنع عمراً بإرسالهم إلى مصر ليكونوا عيونه ويساعدوه في تجميع الناس لمعاونة جيشه في الفتح.
إيقاع متفاوت
في الوقت الذي بدا فيه إيقاع السرد رتيبا ومثقلا بالمعلومات التاريخية في الحياتين الأولى والثانية، فإنه في الثالثة تحول إلى تنويعات فنية متباينة لتشكيل لوحة زخمة بالتفاصيل الإنسانية، ويمكننا القول انه الجزء الأقل معرفية والأكثر فنية، بينما كان الأول بمنزلة تعريفات كثيرة على لسان الراوية، وهي فتاة لم تبلغ العشرين بعد، وحبستها أمها في بيتهم منذ العاشرة من عمرها حتى جاءها الخاطبون في الثامنة عشرة، ومن المدهش أنها تعرف كلام العرب والروم وأسماء الأشياء باللغات الثلاث في مثل هذا السن، وربما هو اضطرار فني لأن تكون مارية/الرواية حلقة الوصل بين ثقافات ثلاث قبيل ظهور اليهودي والنبطي إلى مسرح الأحداث في الحياة الثانية، وهو أمر يفوق خبرتها المعرفية في هذا السن، اما الحياة الثانية فكان أبطالها النبطي الذي رغب في النبوة ليتمكن بها من إعادة مجد الأنباط وإحياء هويتهم الدينية والثقافية، تلك الهوية التي تشتت معهم على هوامش البوادي والصحاري بعد أن جرفت السيول أجدادهم واقتلعتهم من منازلهم، مفسحة الطريق للعرب المستعربة كي يمتلكوا السيادة والرئاسة، أما اليهودي فهو الأخ الأكبر الذي بحث عن ذاته في كل الديانات حتى وجدها اليهودية، لكن اليهود لم يقبلوه لأن أمه ليست على دينهم، فتزوج بيهودية كي يضمن أن يقبلوا أبناءه، وبينما كان الزوج سلامة على المسيحية فإن زيدان حمله بغلظة قلب لا تتناسب مع الروح المسيحية في شيء، ليكون على نقيض أخويه النبطي واليهودي، ولا يتماثل حتى مع مالك صريع العواتك المفتون الدائم بالنساء، وعلى كل لم نفهم لهذا التنوع الديني والثقافي المتعايش بسلام تام في بيت واحد إلا أنه سبب فني من المؤلف لاستعراض عدة مئات من سنين التاريخ القديم في المنطقة، فضلاً عن رصد الصراع الحديث الذي بدا في الاختمار مع الهجرة النبوية إلى يثرب.
جماليات المكان
لعب المكان عاملاً مهماً في السرد، إلى درجة تذكرنا بأعمال الستينات والخمسينات الروائية، وبدا أن زيدان خطط هندسياً لعمله قبل الشروع فيه، فالخروج من مصر كان يتطلب المرور بالعديد من الأماكن التي تجهلها مارية والقارئ، وكان في التنوع الثقافي/الديني لدى رفاق الرحلة (النبطي، سلومة ، الهودي) ما يكفي لشرح علاقة كل مكان بفكرة الصراع الثقافي الدائر في تلك اللحظة من التاريخ، كان كل منهم يقوم بدوره كمرشد حين تظهر قلعته الروحية، فجبل إيل هو الجبل الذي نشأ عليه إله النبط، وجبل السكاكين هو الذي طلب من عليه موسى أن يرى ربه جهرة، فلما تجلى له خر الجبل خاشعاً متصدعاً على هيئة قطع صغيرة كالسكاكين، أما الكنائس والأديرة فهي مختلفة من مصرية إلى ملكانية أو رومية إلى نسطورية، ورغم أن زيدان تحاشى الدخول في عوالم «عزازيل» التي رصدت الصراع المذهبي بين الكنائس المسيحية، إلا أن الضرورة حتمت عليه الإشارة إلى بعضها، كالمكان الذي كان يتعبد فيه الأنبا نسطورس مؤسس النسطورية. وكان التجلي الأكبر لوصف المكان أو تخيله في مضارب الأنباط، حيث الجبال التي اتخذوا منها بيوتاً، وهي على هيئة طوابق محفورة بعضها فوق بعض في الصخور، أسفلها حجرات لتجميع مياه السيول، وهو بناء معماري يتوافق مع ما طرحه زيدان عن الديانة النبطية، أو نبوة النبطي القائلة بأنه لا يوجد موت ولكن حيوات متنوعة، وكأننا أمام دورات متعاقبة من التناسخ، فالروح لا تموت لأنها نفس الإله إيل، لكن الجسد هو الذي يفنى.
شهدت الرواية عناية شديدة باللغة والحوار، وأورد فيها مؤلفها بعض الأجزاء المكتوبة على هيئة الشعر الحديث، وشهدت من الإحكام في البناء ما يجعلها واحدة من النصوص التاريخية ذات الوعي بأهمية إحكام الإطار الخارجي للنص وشغل تفاصيله الداخلية بعناية موازية، وقد بذل زيدان جهداً مهماً في جعل هذا الزخم المعرفي الكبير ينساب بنعومة تتوافق مع جماليات نص روائي، خالقاً من رحم الأسطورة وسفاسف الأخبار التاريخية عملاً يمكنه أن يعيد الاعتبار لواحدة من الأجزاء التاريخية التي سقطت من الذاكرة العربية عن عمد.


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي يوسف زيدان المصدر
http://www.alqabas.com.kw/Article.as...&date=14122010