عابد عازرية..
فارس التصوف في زمن العولمة
أدعم أحرار العالم بالتزامي الفني
هناك موسيقيون وهناك ممارسو موسيقا
للحديث مع عابد عازرية، طابع خاص ومتفرد، فهو قادر على نسف جميع الأسئلة التي تعمل على إعدادها، وفتح آفاق جديدة للحوار، ربما تبدأ من لحظة قراره احتراف العمل الموسيقي، وتفرده في قالبه المتصوف عن غيره من الموسيقيين العرب والعالميين، وينتهي بالغوص في تفاصيل الراهن، على هامش حفله الذي أحياه مؤخراً في دار الأوبرا السورية، «البعث» التقت عازرية وكان معه الحوار التالي:

< تعيش الشعوب العربية، حالة من الغليان الثوري، التي أطاحت بالعديد من الأنظمة الرجعية والقمعية، لماذا لم نشهد في حفلك الدمشقي الأخير، أغنية أو مقطوعة موسيقية، تحاكي الأوضاع الراهنة؟
<< ما قدمته من أعمال موسيقية غنائية، أعتبره شكلاً من أشكال الثورة والتمرد، لها علاقة بتقديم هويتنا المشرقية، لكنها ثورة ثقافية، وأنا على يقين تام أن إتقاني لعملي، هو تحية حقيقية لهذه الشعوب الثائرة. طيلة حياتي بقيت بعيداً عن السياسة ورجالاتها ومشاكلها، لست وزيراً أو رجل سلطة أو حكم، ولم أقدم في حياتي الفنية كلها، أغنية سياسية مباشرة، لأعبر فيها عن حدث أو ثورة معينة، هناك الكثير من الفنانين أو المغنين العرب، ممن يركبون موجة الحدث سريعاً، ويقدمون أعمالاً فنية، أعتبرها أعمالاً مرحلية، ينتهي حضورها وفعاليتها، مع انتهاء الحدث.والمتابع لمسيرتي الفنية، يجد أنني لم أكتب للمناسبات مهما كان نوعها، إنما أعمل على مواضيع فكرية فلسفية تراثية مختلفة، هناك اختيارات كثيرة وأبواب مشرعة للجميع، ولكل خطه وأسلوبه ومواضيعه، وهذا لا يعني أنني بعيد إنسانياً عن الحدث، وتستحضرني هنا مقولة للموسيقي الفرنسي سانت كولون، من عصر الباروك: «هناك موسيقيون.. وهناك ممارسو الموسيقا» أطمح دائماً أن أكون موسيقياً حقيقياً.
< من وجهة نظرك كفنان وموسيقي عالمي، كيف تقرأ الثورات العربية المتلاحقة؟.
<< منذ العصور العثمانية، أو ربما الآشورية، لم تتغير طبيعة تفكير العقل العربي، أما مجمل الأحزاب والحركات الثورية التحررية باستثناءات قليلة جداً، فقد أثبتت فشلها، في قيادة الشعب العربي أينما وجد، نحو تحقيق مطالبه وحقوقه وحريته.
ما يحدث الآن من ثورات، جاءت كردة فعل طبيعية من قبل جيل الشباب تجاه مجمل الأيديولوجيات والتنظيمات الدينية والديكتاتوريات المتلاحقة، هذا الجيل الذي قرر في لحظة صحو، التمرد عليها جميعها، وفرض حريته التي قمعت على مدى سنوات طويلة.
< تضمن برنامج الحفل، عدداً من الأغاني التي تعود إلى مراحل مختلفة من تجربتك الفنية، ما الجديد الذي أردت تقديمه عبرها؟
<< أخترت مجموعة من الأغنيات والمقاطع الشعرية المغناة، تشكل بانوراما لمجمل الأعمال والأسطوانات التي قدمتها، بدءاً من ملحمة جلجامش، وصولاً إلى الشعر المعاصر لأدونيس ومحمود درويش، الجديد هو عملي لأول مرة مع فرقة تتألف من ثمانية موسيقيين سوريين بالكامل، هذا ما شجعني على كتابة مجموعة من الصولوهات لجميع الآلات الموسيقية، تحديداً الغربية منها، التي لم يستطع سابقاً مجمل الموسيقيون الغربيون الذين عملت معهم في فرنسا، على فهمها والتجاوب معها. كذلك التوزيع الموسيقي الذي أعتبره إعادة خلق وإخراج للعمل، هنا تحررت في أمسيتي الدمشقية، من جميع القيود التي كانت تفرضها عليّ السلالم والمقامات الغربية، وانطلقت تجاه القوالب والمقامات الشرقية بجرأة أكبر، نظراً للسوية العالية والاستثنائية، التي يتمتع بها الموسيقيون السوريون، وقدرتهم على تفهم جميع ما أردت تقديمه، وتجاوبهم بشكل خاص مع الارتجال والتقاسيم، عندما فسحت لهم المجال لتقديم مقدمة أو افتتاحية، تسبق كل أغنية. مجمل الأغاني التي قدمت، كتبتها قبل 20 أو 30 عاماً، لعشرين آلة موسيقية، هنا الوضع مختلف، ثماني آلات شرقية وغربية، تطلبت مني العمل على توزيع وتوليف موسيقي مختلف تماماً، عن مجمل ما قدمته سابقاً.
< هل حفزك هذا على إعادة تقديم اسطواناتك السابقة، مع موسيقيين يملكون المستوى نفسه؟
<< في نيسان المقبل، ستصدر أسطوانة «ملحمة جلجامش» التي كتبتها قبل 33 عاماً من الآن، من الطبيعي أن تتطور أدوات الفنان الموسيقية، ويصبح من الضروري إعادة صياغة بعض الأعمال السابقة، التي لم تتوفر لها في ذلك الوقت الظروف المناسبة، عملت مع فرقة لموسيقا الحجرة، عازفيها من الموسيقيين الشرقيين، هذا ما لم يتوفر سابقاً في الإصدار القديم، عندما عملت مع مجموعة من الموسيقيين الفرنسيين والغربيين. ربما سأعمل على إعادة تقديم بعض الأسطوانات السابقة في حال توفرت الظروف المناسبة.
< يسيطر على الأوساط الموسيقية العربية عدد من التجارب، توصف بالتجارية أو الهابطة، ماهي الوسائل التي يجب توافرها لعودة الموسيقا والمغني العربيين إلى عصرهما الذهبي؟.
<< من الغريب بحق ما يتردد الآن على لسان المغنين والموسيقيين العرب، فالجميع يريد أن يتحول إلى نجم بسرعة هائلة، ويقولون في مقابلاتهم «البارحة أحييت حفلاً أمام 40 ألف مستمع» هل هذا شرط ملائم للاستماع وفهم الجملة الموسيقية بشكل صحيح؟ أم أنها حالة من الاستغلال المادي، لجمهور مغلوب على أمره؟.
علينا بداية تحرير الذهنية العربية، من القوالب الموسيقية التي ظلت أسيرة لها مدة طويلة، ومحاولة البحث عن قوالب جديدة، لا تخرج من سابقتها، إنما تأتي نتيجة تطور حتمي لها، لكن بشكل مدروس وصحيح. إنه من المؤسف بحق الحال الذي وصل إليه مجمل الموسيقيين والمغنين العرب، عندما تحولوا إلى نجوم بسرعة خارقة، وتناسوا المسؤولية التي يجب أن يحملوها في الحفاظ على تراث الموسيقا العربية، وهويتها وطابعها، وبات همهم محصوراً بتحقيق مكاسب مادية، وصلت حد الجشع في كثير من الأحيان.
< علاقتك مع الشعر العربي بشكل عام، والشعر الصوفي بشكل خاص، تبلورت مع بداياتك الفنية، كيف تقرأ واقع الشعر العربي في وقتنا الراهن؟
<< أنا على تواصل دائم، مع التجارب الشعرية الحديثة، يصلني دائماً عدد من الدواوين الشعرية يحملها إلي بعض الأصدقاء إلى ماكن إقامتي في باريس، بشكل عام هناك ترهل واستسهال في بناء ونحت الجملة الشعرية، مع أن هناك الكثير من الجمال من حيث بناء الصورة، لكن اللغة بمجملها رخوة تشبه إلى حد ما الشعر الأندلسي. ربما يعود السبب في ذلك إلى عدم توفر ظروف ثقافية واجتماعية مناسبة، وغياب النقد بمفهومه الصحيح عن الأجواء الثقافية العربية، وسيطرة أجواء استهلاكية سريعة تهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق أرباح مادية، بغض النظر عن القيمة الفنية والجمالية والفكرية لهذه التجارب .
< عودتنا دائماً على تقديم أعمال جديدة، ينظمها التجديد بكل المقاييس، وتثير جدلاً واسعاً بعدها. ما هو جديدك الذي تعمل عليه الآن؟.
<< منذ مدة طويلة، لم أعد أسجل أعمالي في الاستوديو، أشعر أن العمل فيه لا يحقق الدفء أو الحميمية التي أريدها. في 14 أيار المقبل سأقدم حفلاً في باريس، احتفالاً بالذكرى الـ 80 لولادة صديقي الشاعر أدونيس، يتضمن الحفل 15 مقطعاً غنائياً تشكل بانوراما لمجمل التجارب الشعرية التي قدمها أدونيس، منها 5 مقاطع غنيتها سابقاً، سيتم تسجيل هذا الحفل بشكل حي مع الجمهور. كذلك أعمل حالياً على اختيار عدد من المقاطع الشعرية لعدد من الكتاب الصوفيين والمعاصرين، أبرزهم حافظ الشيرازي، من المتوقع ان انتهي من العمل على تلحينها وتوزيعها موسيقا، في أيلول المقبل.

أنس زرزر

http://www.albaath.news.sy/user/?id=1085&a=96079