(11) قصة قصيرة
الحميــــر الجامحــة
قحطــــــان فؤاد الخطيب / العراق

ما أن لاحت تباشير الغسق حتى اصطبغت السماء بمزيجي ألوان الذهب والبرونز البراقين . وشرع رواد (مقهى يحيى) الموصلي الشهير ، كعادتهم ، يتقاطرون الواحد تلو الآخر : هذا بثوب أكل عليه الدهر وشرب ، وذاك بسترة مقطعة الأزرار ، غير آبه بحرارة تموز ، وثالث ما أنفك يسعل منذ ولوجه المقهى ......

أجساد متعبة ، يكسو رؤوسها شعر ناصع البياض . وترتسم على محياها خطوط مستقيمة ومتعرجة طولاً وعرضاً وكأن لسان حالها أوشك أن يقول :
نحن في خريف العمر ، ولكن ..... !

كانوا في العقد السادس من العمر أو يزيد ، بيد أنهم أتسموا بروح مرحة قلما أتسم بها فتيان العشرين ربيعا . أو هكذا دلت نقاشاتهم الصبيانية ، بما كانوا يتصرفون وكأنهم في أحلام يقظة. أو قل كانوا متمردين على واقعهم الذي ينعتهم بالكهول
!
لقد جمعت بينهم خيوط عديدة ، لعل أبرزها : إحالتهم على المعاش ، لتجاوزهم السن القانونية للتقاعد ، وشغفهم بلا محدود بلعبة الدومينو بموارد مالية جد بائسة وضيقة . فيما شدهم حوار رتيب مطروق أثناء استراحتهم عن ممارسة هوايتهم التقليدية ، إضافة إلى نفورهم من المكوث حبيسي منازلهم ، ناهيك عن عدم عثورهم على عمل يشفي غليلهم ، وينسيهم الوضع الذي الو إليه ، إذ كان بينهم من هو طاعن في السن لا يصلح لشيء سوى للثرثرة و
و............................

لقد عرفت عددهم بالضبط من النادل الصغير الذي كان ينادي بصوته الأجش :
(خمس استكانات شاي سنكين) *. وتكرر هذا الرقم تقريبا كل يوم . وقد تحسبني من رواد المقهى مثلهم ، المدمنين ، وأنا أسرد حكايات الفرسان الخمسة ! وحسبي أن دكاني كان ملاصقاً للمقهى ، مما شجعني على تناول كوب شاي متى ما أحسست بالضجر لجمود عملية البيع والشراء .

وبمرور الأيام ، توطدت العلاقة بيننا وأصبحت أكثر قربا منهم ، إذ كان بعضهم يكلفني بتسجيل نقاط لعبة الدومينو . أحيانا يرفض الخاسرون قيامي بذلك ضنا منهم بأنني منحاز لطرف دون أخر ، لدرجة تخال وكأنهم في معركة حامية تقيم الدنيا ولا تقعدها !

لقد اجتمعت فيهم المهن كافة : فهذا معلم ، وذاك محام ، وثالث مهندس وعامل . فيما كان بينهم عاطلون عن العمل أصلا وهكذا . بيد أن قاسما مشتركاً أعظما جمع بين تطلعاتهم العملاقة للمستقبل !!

ويبدو أنهم غير مكترثين بتقدم العمر إطلاقاً . وطرق سمعي يوم كنت يافعاً صغيراً كلمات أبي وهي تصدح في أذني والتي طالما رددها أبي قائلا :
- " يا ولدي . أنت في العاشرة من العمر . أنصحك بالكلام القليل والإصغاء الكثير . اجلس مع من يبكيك ولا تجلس مع من يضحكك . أصغ إلى المسنين فهم موسوعتك التي تنهل منها العبر والتجارب ! "

لقد رسخت هذه المقولة في أعماقي ، إذ كنت تواقا للجلوس بشكل لاشعوري مع من يكبرني ، يحدوني الأمل اقتناص الخبرة والتجربة . كما كنت أدون نقاشاتهم ، الغنية بالإحباط لدرجة تستدر العطف ، كمسلمات على شكل رؤوس أقلام . وعند تراكم الأفكار اصهرها في بوتقة أدبية لعلها تلد وليدا فكريا كقصة قصيرة أو رواية تجعلني أحس وكأنني أكبر من عمري بكثير .

لقد كان شهراً تموز يا مفعماً بالحيوية والحرارة عندما جلس الكهول الخمسة بعد إصرارهم ، كالعادة على استدعائي كي أسجل نقاط اللعبة قائلين :
-" يا حسن . تعال وسجل لنا . وثمن الشاي مدفوع عنك سلفا. "

أحسست بالطمأنينة والغبطة حين عرفت قدر نفسي . واندمجوا في لعبتهم الروتينية . وفجأة بدأ أكبر الشلة سناً ، السيد (ع) يتلكأ باللعب بشرود ملحوظ ، لم يلفت نظر أحد غيري . فقد انصب جل تركيزه على كلام أحد المتحدثين الخبثاء وراءه ، حيث كان يشرح وصفة سحرية تعيد الشيخ إلى صباه ! كنت أدقق حركات عيونهم وارصد تحركات أيديهم .

" المسألة جد سهلة . " قال الراوي الخبيث . " خذ قشور الرقي وأفرمها جيداً حتى تصبح مائعاً . ثم أضف لها ملعقة طعام من السكر . رج المزيج جيداً ثم تناول كأساً واحداً ثلاث مرات في اليوم ليومين متتاليين . بعدها ، " أضاف الخبيث قائلاً : " ترجع شاباً مفتول العضلات ! لقد جرب مئات الأوربيين هذه الوصفة السحرية . وبقدرة قادر أضحوا صبياناً . أنا نفسي مدمن على هذه الوصفة . "

راقت هذه الوصفة من رجل ، كما يبدو ، مجرب ، للسيد (ع) وشده الرقم (مئات) والكلمة (أوربيين) . وسال لعابه . وحيث أنه غير أناني خصوصاً مع أصحابه ومسجل الألعاب ، فقد باح لهم بالسر الرهيب ! فإذا بهم فاهرى الأفواه ، مشدوهين . لقد أراد أكبرهم سناً استيضاح الأمر من الخبيث ، إلا أن (ع) منعه كي لا يوحي بأنهم كانوا يتجسسون عليه.

وتغير الجو اليومي الروتيني فجأة . وشمر كل واحد منهم عن ساعديه ليطرح آلية تنفيذ الوصفة ، ناسين لعبتهم الساحرة ! فهذا يقترح شراء رقية واحدة يتقاسمها مع أصحابه . وآخر يلمح بأن صهره يبيع الرقي . وسوف يكلفه هذا اليوم بإيصال ما تيسر منها لكل أعضاء المجموعة الخمسة بينهم سادسهم ، مسجل الألعاب . وثالث يقترح تنفيذ المهمة فوراً كسباً للوقت . لقد بدا أنهم جد تواقين لعودتهم إلى صباهم ، تصور ......... !

ومضوا يضربون أخماساً بأسداس . " إذا تكللت المحاولة بالنجاح ، " يقول م" سوف
أتزوج ! " ويسخر منه (ل) قائلاً : " قبل أيام ودعت عقدك السابع . فمن يا ترى ، سعيدة الحظ ترضى بك ؟"

أنفعل (م) وتوعد (ل) بأن عروسه جاهزة قائلاً : " سأذهب إليها الآن ، وأهديها رقية ، وأعلمها عن تفاصيل الوصفة . " صاح آخر وهو يمضغ الجملة . " يرجع شاباً مفتول العضلات ..... !!! يا جماعة ، اسمحوا لي أغادر هذا المكان لأن فكرة شراء الرقي راقت لي كثيراً . سأطبق التعليمات بحذافيرها . عمتم مساءاً "

أنصرف الكهول الخمسة بسرعة البرق نحو أكشاك بيع الرقي ، يحدوهم الأمل برجوع الشباب إليهم ، وهم يحاورون أنفسهم عن الصفحة المشرقة القادمة في حياتهم .
لقد حاولوا المضي ، على غير عادتهم ، للعودة إلى بيوتهم مبكراً ، وفي أذهانهم فكرة حمل رقية ربما تثقل كاهلهم ، حالمين وهم في مطبخ الدار يتحركون بحركات مشوبة بالانفعال والترقب ، يبحثون هنا وهناك عن سكين وملعقة شاي وأواني لتنفيذ الوصفة بدقة متناهية متقيدين بأدق تفاصيلها ، وهم يتلون البسملة أثناء تناولهم كؤوسهم وأحلام اليقظة تراودهم . اختلطت عليهم الأمور . وباتوا ضحية الخيال الممزوج بالواقع . الآن هم حقاً تائهون .
في هذه اللحظات لمس الخبيث جدوى مفعول وصفته السحرية وقد آتت أكلها . وتمادى في إطرائها معززاً إياها بالأرقام والإحصائيات مما سرع في دوران الدورة الدموية للأصنام الخمسة ومعهم سادسهم المسجل !

وكاد الفضول يدفعهم لاستيضاح المزيد . إلا أن تخبط حالتهم النفسية حال دون ذلك . وشد الكهول الخمسة رحالهم مبكراً على غير عادتهم مستبشرين بالفردوس المنشود ! وأقفلوا راجعين لبيوتهم فيما توجه حسن إلى دكانه مشدوها بتصرفات أصحابه المتسرعة .

في اليوم التالي وبذات الموعد التقليدي جاء كبير القوم (ع) وكأنه أسد مزمجر ، يحدق شمالاً ويميناً ، علّ بصره يقع على الخبيث . ولكن هيهات ! وما هي إلا هنيهة حتى دلف أحد أصحاب الخبيث متبوعاً بالثاني والثالث إلى أن التأمت المجموعة باستثناء الخبيث .

وهنا ألمح أحدهم ثانية إلى مفعول الرقي مستهدفاً إسماع (ع) كي يجس النبض ويستطلع الموقف . فما كان من الأخير إلا أن ألتفت بعصبية إليه صارخاً : " كلام هراء . ما هذه الوصفة السخيفة ؟ لم أنم الليل كله ولحد الآن أعاني من ألم شديد في معدتي . من المسئول عن هذا ؟ أما الحاج ...... (العريس) ، فهو طريح الفراش ، فاقد الوعي راقد بالمستشفى ، شعبة العناية المركزة . ما بالك بالبقية ، فهم في وضع لا يحسدون عليه . كان الله في عونهم . ولعن الله صاحبكم ! "
فما كان من المتطفل إلا أن انبرى قائلاً : " ما هذا الكلام يا حاج ؟ من أجبركم على إتباع الوصفة تلك ؟ لستم صبياناً كي تنفذوا ما يقوله الآخرون دون تمحيص . "

أنبرى الرجل المتضرر صارخاً " لعنة الله عليه . إنني أعاني الآن من مغص شديد . نحن حمير جامحة ليس إلا . ذخيرتنا خلب . وإلا بماذا تفسر طاعتنا العمياء لذلك الدجال ؟ لقد أوقعنا في فخ جعلنا أضحوكة أمام أسرنا وأنفسنا . "

بدأ يهمس مع نفسه ويحرك يديه لا شعورياً وهو يهز رأسه قائلاً :
" كيف صدقناه ومضغنا قشور الرقي ؟ واحسر تاه ! لا ينفع الندم .............. " ردد هذه العبارة مستهزئاً " يرجع ..... الشيخ .... إلى .... صباه ...... !!! " قالها وهو يرتجف من شدة العصبية والانفعال والألم .

" أعدكم سوف لن أبارح المكان حتى يأتي الخبيث كي ألقنه درساً لا ينسى . كما أعلن على رؤوس الأشهاد بأنني سوف لن ألج (مقهى يحيى) بعد هذا اليوم ، الحادي عشر من تموز 1965 ، مهما كانت الأسباب ! ستقوم الساعة قريباً لوجود بشر شرير كهذا ! "

* (خمس أقداح شاي مركز)