قصّة رواية
الحبّ ... تلك الكلمة السّماويّة الطّاهرة الرّقيقة والّتي كانت أوّل عاطفةٍ عرفها قلب الإنسان الأوّل ... فكانت هبةً إلهيّة منحها الله لبني آدم ، فتفجّرت في قلوبنا ينابيع عسلٍ وجداول خمرٍ وأنهار نشوةٍ مسكرةٍ تفيض بالرّوح إلى عوالم السّحر والجمال والرّوعة والفتنة ، حتّى تصل بالإنسان إلى بحور التّتيّم والهيام ، ويا ويل الإنسان إن وصل إليها ... فبعدها لا يجد الهناء إلّا بقرب المحبوبة والطّرب لا يحلو إلّا بهمساتها والسّعادة تتجسّد في لمسات كفّها والنّشوة تكتمل عند الغرق بعينيها ... فيضمحلّ جسد هذا البشريّ ويذوب كما تذوب الثّلوج ... فيظلّ قلباً وروحاً ويبقى معنىً وإحساس ... فيغدو مع كلّ صباحٍ يترجم للنّاس حديث النّسيم للأغصان ، ويشرح لهم مغازلة الطّيور للأزهار، ويسير مع الأصائل ، فيقرأ لهم آيات الشّمس المنبسطة فوق صفحة الخمائل والغدران ، ويردّد مع العنادل والبلابل أنغام الحبّ والجمال ... فيسكر النّاس بخمر عشقه ، ويطير بهم بألحان قلبه ولسانه ...
وأمام محراب الحبّ يتراءى لنا كثيرٌ من الشّعراء والأدباء الّذين جعلوا القلمَ أداةً للتّعبير عن سحره وسلبه القلوب والألباب... فاستفاضوا من بحر الهوى حِبراً له ، وجعلوا من أوراق الياسمين صفحاتٍ تُكْتب عليها خلجات النّفوس الّتي حلَّ بها وابل الحبّ وآلامه ... فصوّروا العاطفة أروع تصويرٍ وأصدقه وخلّدوا همسات العشّاق بين أريج صفحاتهم ... ومن بينهم شاعرٌ لمع في الأدبِ كما يلمع البدر في السّماء ... مرهف الحسّ رفيع الأدبِ ، فائق الشّاعريّة ، وفي نظري يستحقّ أعلى الرّتبِ ... وهو الشّاعر "أحمد الخاني" أحد شعراء الأكراد وعلمائهم ، الّذي خلّد ملحمة حبٍّ في روايته " ممو زين"،يصوّر فيها قلوباً كواها الحبّ المستعر وسحقها الكيد والحقد ، وقلوباً بريئة طاهرة طهارة المزن في السّحاب أذابها الشّقاء واعتصرتها يد الظّلم كما تعتصر الوردة النّاعمة في كفّ غليظة ، وتنبعث أحداث هذه القصّة من قصر أمير جزيرة بوطان " الأمير زين الدّين " ، الّذي لم يكن ذا كفاءةٍ عالية وحسب ، بل كان يتمتّع بغنى واسع ومظهر كبير من القوّة والسّلطان والهيبة والإجلال في سائر أنحاء كردستان وإمارتها ، إضافة إلى المحبّة و الإعجاب من قلوب أمّته وسائر طبقات شعبه ، أمّا قصره الّذي كان آية من آيات الفنّ والإبداع والبذخ في التّصميم والتّشييد ، فكان يميس بعشراتٍ من الغلمان وأجمل الجواري والفتيات اللّواتي يضفين على رحابه جوّاً سحريّاً يشعّ بالفتنة والجمال ، غير أنّ الآية الكبرى للجمال في ذلك القصر لم تكن منبعثة عن أيّ واحدةٍ من تلك الجواري والحسان ،إنّما كانت سرّاً لدرّتين شقيقتين كانتا مثلاً أعلى للجمال ونموذجاً كاملاً للفتنة والسّحر الإلهي وإبداع الخلّاق العجيب ، وهاتان الغادتان هما شقيقتا الأمير زين الدّين . كان اسم الكبرى " ستي " وكانت بين البياض النّاصع والسّمرة الفاتنة ، وقد أفرغ الجمال في كلّ جارحةٍ من جسمها على حدة ، ثمّ أفرغ بمقدار ذلك كلّه على مجموع جسمها وشكلها ، فعادت شيئاً أبرع من السّحر و أبلغ من الفتنة ، وأمّا الصّغرى واسمها " زين " كانت هي وحدها البرهان الدّال على أنّ اليد الإلهيّة قادرة على خلق الجمال والفتنة في مظهرٍ أبدع من أختها وأسمى ، فكانت هيفاء بضّة ذات قوامٍ رائعٍ وبياضٍ ناصع مزدهر فيه حمرة اللّهب ، ذات عينين دعجاوين تتجلّى فيهما كلّ آيات الفتك واللّطف الّذي يثخن الألباب فتكاً و يغمر العقل سكراً .
وتشاء الأقدار أن تلتقي هاتان الغادتان بصاحبَي مفتاح قلبهما وأسراره ، وهما "تاج الدّين " و " ممو" ، شابّان صديقان
كالأخوة ، جميلين كالبدر ، أقوياء كالأسود ، أميرين من أمراء الجزيرة ، لكلّ منهما باعٌ طويلٌ في خدمة الأمير زين الدّين ، فيتعلّق هوى ستي بروح تاج الدّين وقلب زين بكيان ممو ... وتمضي أيّام هؤلاء العشّاق كمن يمشي على الجمر ... مستمسكين بالصّبر المرّ كالعلقم ... محاولين إخماد نيران الشّوق المستعرة في جسدهم والّتي تكاد أن تفتك بهم ... منتظرين الأمل الّذي لم يزدهم إلّا ذوباناً ودموعاً أحرقت خدودهم كما يحترق العشب اليابس ،...ولكن... لا بدّ للخالق أن يستجيب وللأقدار أن تحنو وللأيّام أن تطيب ... فليس بعد اللّيل إلّا النّهار والظّلام إلّا النّور والهجر إلّا الوصال والمآتم إلّا الأعراس والمآسي إلّا الأفراح والبؤس إلّا النّعيم ... فتجري سنن هذا الكون في القصّة بزواج ستي من تاج الدّين بعد أن بلغ بهما الشّوق أشدّه واستعرت ناره في ضلوعهما ولاع الفؤاد فيهماكالفراش إذ ينثر روحه على أذيال اللّهب ، وأمّا الحبيبان الآخران لا يزالان في لظى من نار صبرهما وحرمانهما ... يقضي كلٌّ منهما اللّيالي والأيّام في صومعة انفراده لا يبصران أيّ مؤنسٍ ولا ينتهي إلى سمعهما صوت أيّ راحم ، وأنّى للتّجمّل والهدوء أن يجد وسيلة إلى القلب إن لم تجد الهموم صاحباً يخفّف من آلامها والزّفرات مواسياً يبرد حرّها ... أنّى لهذين العاشقين أن يذوقا طعم الحياة في بعادهما ، وأنّى لهم هناء عيشٍ وقرارة جفنٍ وجفاف دمعٍ إن لم يكحّلا العين باللّقاء والوصال ؟... . ولا بدّ للشّرّ أن يكون له يدٌ في قصّة هذا الحبّ العظيم ، إذ يقع ممو ضحيّة فتنة ومكيدة وغدر ، فيزجّ في السّجن عاماً كاملاً كان كافياً لإطفاء شعلة هذين العاشقَين وإخمادهما عن الوجود جسداً وروحاً ،. ولكنّ مغزى القصّة كان يتجسّد في تلك السّنة الّتي تعلّم فيها ممو أن ينظر إلى الأعلى ليرى الله ... ومن يرى الله لا يطيب له النّظر لغيره ولا يجد السّعادة إلّا في كنفه ولا يلقى الرّحمة إلّا من عطفه ولا يتذلّل إلّا لجلاله ، بعد أن سحقت جراحه وحرم مطلب قلبه ويئس من صبره ، فقد اهتدى إلى لطف الله واستمتع بهديه وأنس بنوره بعد أن فقد من الدّنيا كلّ أسبابها وآمالها ، وظلّ ممو في قعر ذاك السّجن المظلم راكعاً ساجداً لا يفتأ يناجي الله ويتعبّده ، يهبط على قلبه أنسٌ إلهيّ يحفّ به ويخفّف من آلامه وأحزانه ، فأخذت تعظم صلته بالله تعالى وتتعلّق آماله به وحده ... ومع كلّ محاولات الأصدقاء في إطلاق سراحه ...ومع كلّ ما قام به تاج الدّين في محاولة استرضاء الأمير ونيل عطفه ، إلّا أنّ قلب الأمير الّذي أُشِْرب أكاذيب عن ممو وأخته زين لم يدرك غلطته ولم يندم على فعلته إلّابعد أن فات الأوان ، فكان ممو يحتضر في ذاك الكهف المظلم يلفظ آخر أنفاسه ، فسارت إليه زين المضناة مع أختها ستي وبعضٌ من الأهل والخدم ، علّها تردّ الرّوح إليه وتدخل البشرى إلى قلبه ، ولكنّ الأجل قد حان ، وشاءت الأقدار أن تصعد روح ممو الطّاهرة وهو بين أحضان زين في ذاك الكهف المعتم .
أمّا زين ... تلك الوردة الذّابلة قضت نحبها في النّهار التّالي وهي تبكي وتصيح على قبر ممو ... تلطّخ وجهها بالتّراب الّذي لا زال رطباً وتعانقه ... ودفنت كما أوصت أخاها إلى جانب حبيبها بعد أن حجبتها الدّنيا عنه حيّاً ... فصعدت روح هذين العاشقين بعد أن أذيقا طعم كلّ علقمٍ عُرف في الدّنيا إلى خالقهما ، ليقدّم لهما بيد عدله كأس سعادتهما ويبارك لهما في ظلّ رحمته رحيق حبّهما ويسعدهما مجتمعين برؤية وجهه بعد أن تسامت عواطفهما عن الرّغبة البشريّة إلى أعلى مراتب الرّوحانيّة ، فكان آخر ما قاله ممو :
" واشوقاه ... واشوقاه يا مولاي إلى اليوم الموعود ... " .
وهكذا حكم الدّهر ألّا يجتمع ذانك الحبيبان إلّا في ظلمات تلك الحفرة ، وأن يتوارى أخيراً ذانك الكوكبان في برجٍ واحد ، وتنتهي هذه القصّة وتطوى صفحاتها الّتي كانت مثالاً للأدب الرّفيع الّذي أشرقت فيه العاطفة الملتهبة والمأساة المؤثّرة والعفّة السّامية والوفاء النّادر ، لتصبح مرجعاً في الكتابات الوجدانيّة السّامية بما احتوت من تشابيه وصور ومعان كانت قمّة في بلاغتهاومثلاً بروعة معناها وصدق وصفها ومتانة سبكها وكمال طهرها وعفّة مغزاها .
إعداد
نورا كريدي