رواية البيانومقارنة مع آلات أخرى، يبدو أن البيانو يتمتع بجاذبية خاصة، سواء أكان طويلاً أم قائماً، فهو يشعّ بجلال «طبيعي» يخفي التضحيات الجسام التي يتطلبها تعليم العزف عليه.. هكذا يسرد الألماني ديتر هيلدبرانت، المولع بالموسيقى، كل صغيرة وكبيرة عن قصة البيانو عبر العالم، المزروعة بالمكائد.
ففي مؤلّف يلامس حدود الدراسة والرواية، يباشر بقصّ حكاية أداة «البيانو»، التي حافظت رغم كل شيء على رسالتها النبيلة، وقد تكون كلمة «أداة» خياراً سيئاً، فربما كان ينبغي بنا أن نتكلم عن «كائن»، لأن البيانو هنا جسد وروح، هو ليس حديداً وخشباً فحسب، بل إنه صوت أيضاً، يتألم، يصرخ، يهمس، يغني، يتوافر لكل من يريد: «الكل يعزف على البيانو، الكل يتعلم على البيانو».
إن النظرة التي يحملها هيلدبرانت تجاه هذه الآلة الموسيقية لا تعود إلى ضعف الشغف، بل إلى قوة الحب، ذلك أن قلم المؤلف يتغذى من معرفة وثيقة بعلم الموسيقى، وهو العلّامة في هذا المجال، إذ نكتشف معه دورات مباريات البيانو في القرن التاسع عشر، وتوريث نوعية الدراسة إلى الأجيال، ومنشأ الدوّاسة «روح البيانو» وبُعد الهروب البوفاري (نسبة إلى بطلة غوستاف فلوبير) في هذه الآلة.
في نهاية القرن التاسع عشر، ساد اعتقاد بأن البيانو مات، وعندها حلّ سوء التقدير والإهمال والتدمير مكان التعبد، ثم أزف زمن الطليعيين المتمثلين بسكوت جوبلين «عبقري السينكوب» Syncope، أوجون كايج، وبعده زمن موسيقى الجاز «JAZZ» التي فتحت المجال لإعادة النظر في إيقاعية البيانو وإمكاناته الصوتية.
قرر الكاتب في معرض عرضه تاريخ الموسيقى في القرن التاسع عشر، أن يتوقف عند الشخصيات الرئيسية في عالم البيانو، وبتوثيق متين وقدر كبير من متعة الخطاب، يقدم وصفاً إنسانياً وفنياً لعدد منهم مثل: بيتهوفن، الرجل الصغير المتقلب الأطوار، الذي «يدغدغ الأعصاب»، وشوبان، الكائن النحيف الرقيق الإحساس ذو اليدين المؤثرتين، وشومان الناقد الرؤيوي الذي تمتد مملكته ما بين حدود الرعد القصوى والخصوصية الأكثر حميمية، وأيضاً فراند ليزست، علامة التعجب تلك الغاطسة في السواد، وتلك القامة الطويلة الناحلة الضيقة الكتفين، ثم الحديثين منهم مثل: بوليز وبوسوني، «هذا الذي وصل بالبيانو إلى كماله» وكيث جاريت.
تأتي عمليات الوصف حية، مفخّمة، ومفصّلة، إضافة إلى كونها تعلق بالأذهان، لدرجة أنها صبغت بالمضارع، كما لو أن المراد قوله هو ضرورة بقاء هؤلاء الأشباح أحياء، بقية باقية من إرث ثمين.
يبدو أن كل شيء قد قيل في هذا الكتاب الذي تُرجم إلى عشرات اللغات، حيث تغري الكلمات بتناغمها القارىء المخطوف بهذه المغامرة الموسيقية والإنسانية على الأخص.
ترجمة: إبراهيم أحمد
عن اللوموند
http://www.albaath.news.sy/user/?id=1045&a=92712