كتاب ـ قصة الإليزيه ـ الحلقة (4)
ميتران وريغان يقرران معاقبة حزب الله والأميركيون يغيرون رأيهم
تأليف :فرانسوا دورسيفال



تكشف هذه الحلقة من عرض الكتاب عن أسرار من فترة حكم فرانسوا ميتران منها مثلاً أن الرئيس فاليري جيسكار ديستان سلم ميتران الميدالية التي تحوي الأرقام السرية الخاصة بالأسلحة النووية الفرنسية وعندما فتحها الأخير وجد أنها فارغة وهو ما اعتبره دلالة على أن سلفه في الحكم ترك له سلطة شاغرة.




ويكشف لنا المؤلف كذلك تفاصيل تتعلق بكاتم أسرار ميتران وهو فرانسوا دو جروسوفر، الذي كان يعرف حقيقة علاقته الغرامية بآن بينجو، والذي لعب دوراً أساسياً في إقناع الرئيس ميتران بإرسال قوات فرنسية إلى لبنان في 1982، حيث يروي لنا كيف تصرف الرئيس بعد وقوع تفجيري بيروت اللذين استهدفا القوات الفرنسية والأميركية وأوقعا عدداً كبيراً من القتلى. وصل فرانسوا ميتران إلى الاليزيه ذات صباح من شهر مايو 1981 حيث كان فاليري جيسكار ديستان ينتظره عند أولى درجات المدخل الرئيسي للقصر. أمضى الرئيسان «الخارج من القصر» فاليري جيسكار ديستان و«الداخل إليه» فرانسوا ميتران 45 دقيقة على انفراد، كي يتبادلا «أسرار الدولة».




غادر ميتران الاجتماع متوجها إلى حيث كان يتواجد عدد من أصدقائه المقرّبين. سأله أحدهم: «السيد الرئيس، هل يمكن أن تخبرنا ما قاله لك هذا الصباح». كانت «هاء» الغائب تعني جيسكار ديستان. عدّل ميتران عندها من جلسته وبدا في عينيه بريق من يعرف ما لا يعرفه الآخرون. لكنه تحدث، مع ذلك، عن بعض ما دار الحديث عنه مثل الموت القريب لليونيد بريجنيف ومشاريع الرئيس المصري آنذاك أنور السادات ضد النظام الليبي والتعاون النووي السري بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. ثم توقف فرانسوا ميتران فجأة عن الحديث وأخذ يفتش جيوبه. وأخرج من جيب سترته مغلّفا أبيض اللون إنما أصبح لونه أصفر قليلا وكأنه قد بقي لفترة طويلة في أحد الدروج أو في جوف خزانة. لكنه كان مغلقا بأوراق لاحقة متصالبة.


وقال: «هذه هي الأرقام السرية للأسلحة النووية. لقد أعطاني هذه الأرقام». ثم رفع يده إلى صدره حيث كانت توجد «الميدالية» وأخرجها كي يُريها لأصدقائه. كان جيسكار قد أعطاها له فهي تحتوي على المعلومات السرية للدلالة على هويته والتي لا بد منها من أجل إصدار أو استخدام القوى النووية إذا اقتضت الحاجة.


كان ينبغي فتحها، فأخذها ميتران بيديه وحاول ذلك. وعندما لم يفلح حاول أن يستخدم أسنانه. ومع ذلك قاومت فما كان منه سوى أن نادى على أحد الموظفين الجاهزين للخدمة وقال له: «هل تستطيع أن تجلب لي كمّاشة، من فضلك».


يمكن طلب كل شيء من موظف الخدمة في الاليزيه. لكن تلك كانت هي المرة الأولى التي يطلب فيها رئيس الجمهورية أن يجلبوا له أداة من هذا النوع في أحد صالونات القصر. ومع ذلك عاد الموظف بعد حين ومعه المطلوب. أخذ ميتران الكماشة وفتح تلك «الميدالية السحرية» لقد كانت فارغة.


فهل كان الرئيس «الخارج» يعرف ذلك؟ وهل كان هو نفسه قد تملكه الفضول؟ هل لم يتم تغيير المعلومات السرية الخاصة بالتعرف على هوية الرئيس الجديد ووضعها في الميدالية؟ هل فكّروا أنه سوف يقوم هو نفسه بذلك؟ هذه الأسئلة كلها ظلّت دون أية إجابة، كما يشير المؤلف. المهم أن ميتران المولع بالرموز اعتبر دلالة ذلك أنهم تركوا له «سلطة شاغرة».


كان آخر رئيس جمهورية اشتراكي قبله، أي فانسان أورويل، قد ترك الاليزيه منذ 27 سنة ولم يدخل إلى ذلك القصر أي وزير يساري منذ 23 سنة. هذا يعني أن اليسار عاد من «المنفى» مع انتخاب فرانسوا ميتران رئيسا للجمهورية في مطلع مايو من عام 1981.


كان ميتران يعرف أيضا أن عملا كبيرا ينتظره. وعندما تأكد له فوزه في الانتخابات الرئاسية ضد فاليري جيسكار ديستان قال: ومن هو صاحب العبارة التالية: اليوم بدأت المشاكل»؟ ثم دعا مجموعة الأصدقاء الذين كانوا إلى جانبه طيلة الحملة الانتخابية الرئاسية للتحلّق حوله من أجل كتابة أول تصريح له بصفته الجديدة كرئيس للجمهورية الفرنسية.


كانت معركته الانتخابية الأولى ضد شارل ديغول عام 1965، لكن الجنرال هو الذي فاز في الجولة الحاسمة «الثانية» بفارق عشرة نقاط عن منافسه ميتران. وكانت الجولة الانتخابية الرئاسية الثانية عام 1974 ضد فاليري جيسكار ديستان وفاز هذا الأخير أيضا وإنما بفارق 4,1 نقطة فقط. وبالتالي كان على ميتران أن ينتظر حتى عام 1981.


المناظرة الحاسمة


ينقل المؤلف بعض ما دار أثناء المناظرة التلفزيونية التي جرت بين المتنافسين على المنصب الرئاسي في تلك السنة -1981-، أي فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران. تلك المناظرة التي ارتكب فيها جيسكار خطأ فادحا ربما كلّفه الرئاسة. إذ في لحظة ما قال لميتران: «-إن الفرنك الفرنسي قد هبط سعره كثيرا أمام المارك الألماني، فهل يمكن أن تقول الأرقام المتعلقة بهذا الموضوع بدقة»؟


فأجاب ميتران: «أعرف جيدا أن الفرنك قد بدأ بالهبوط قياسا للمارك الألماني منذ عام 1974.


جيسكار: «لكن ما هو الوضع اليوم بالتحديد»؟


ميتران: «هل تريد رقم النهار أم الليل»؟ ثم أضاف: «لقد ازداد الوضع خطورة بالنسبة للفرنك. سوف أقول لك الأرقام ولكنني لا أحب كثيرا مثل هذه الطريقة. أنا لست تلميذا عندك وأنت لست رئيس الجمهورية الآن. أنت مجرد منافس لي».


جيسكار: «لقد طرحت عليك سؤالا».


ميتران: «كلا. كلا. ليس بهذه الطريقة. إنني لا أقبل مثل هذه الطريقة في الكلام». قبل أن يتفوّه جيسكار بسؤاله تذكّر أن السيدة فرانسواز جيرو، وكانت مرشحة لرئاسة الجمهورية عام 1974 قد طرحت عليه السؤال التالي: «كم هو ثمن بطاقة المترو«؟ وقد علّق فيما بعد على سؤاله لميتران، بظروف مشابهة، قائلا إن ميتران قد بحث عن «ثغرة» ما كي يرد له ما كان قد قاله له أثناء المناظرة التلفزيونية الأولى وجاء فيه: «سيد ميتران، أنت لا تمتلك احتكار القلب».


وقد وجد تلك الثغرة. يقول جيسكار: «لقد أدركت خطأي، لكن وقت تحاشيه كان قد ولّى ومضى». هكذا فاز ميتران في انتخابات عام 1981 وبزيادة 1,1 مليون صوت عن فاليري جيسكار ديستان، كان من بينها أكثر من نصف مليون صوت، كما يقول المؤلف، من أنصار جاك شيراك الذي كان يريد «الانتهاء» من جيسكار.


كان من أول الأعمال التي قام بها ميتران بعد وصوله إلى قصر الاليزيه إصداره قراراً بحل الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) وإجراء انتخابات جديدة أعطاه فيها الفرنسيون أغلبية كبيرة إذ حصل معسكره على 285 مقعدا من أصل ال485 مقعدا التي كان ينص عليها الدستور الفرنسي آنذاك.


وإذا كان الشيوعيون قد خسروا الكثير من المقاعد فإن فرانسوا ميتران قد وفى بوعده وضمّت الحكومة الجديدة أربعة وزراء شيوعيين. كان رد فعل البورصة قويا وكذلك رد فعل البيت الأبيض. مع ذلك كان الكرملين هو الذي لا يريد وجود رئيس جمهورية اشتراكي في فرنسا.


أوفد رونالد ريغان، الرئيس الأميركي آنذاك، نائبه جورج بوش (الأب) للتعرف على «الأجواء الجديدة» في فرنسا قبل أن يأتي هو شخصيا للقاء فرانسوا ميتران. وكان بوش، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية يمثل أيضا العائلات البترولية الأميركية. وشاءت الصدفة أن يكون يوم زيارته للاليزيه هو يوم الاجتماع الأول للحكومة الفرنسية بوجود الوزراء الشيوعيين.


جرى تحاشي أي لقاء بينهم وبين نائب رئيس الولايات المتحدة الأميركية. ولم ينس الرئيس ميتران أن يقول يومها لجورج بوش: «عندما سيخرج الشيوعيون من الحكومة سوف تهبط شعبيتهم إلى 10 بالمئة فقط».


انتحار في الاليزيه


لم تُسمع أبدا طلقات النيران في الاليزيه، ولم يسمع أحد في ذلك اليوم طلقة نارية. لكنهم وجدوا رصاصة معلّقة في سقف أحد مكاتب القصر في الطابق الأول. إنه المكتب الذي كان يحتلّه «فرانسوا دو جروسوفر» المكلّف بمهمة لدى رئيس الجمهورية للشؤون الخاصة وشؤون الصيد. كان ميتران مولعا بالصيد مثله مثل سابقه فاليري جيسكار ديستان.


كانت الأبواب كلّها مغلقة. ولا أحد في الرواق فالموظفون العاديون قد غادروا عند نهاية يوم عملهم. وفي ذلك اليوم السابع من أبريل 1994 كان الحارس الشخصي لفرانسوا دو جروسوفر ينتظره كما كان يفعل منذ سنوات طويلة حيث كان يخرج حوالي الساعة الثامنة مساء. وكان جروسوفر يلتحق كل مساء برئيس الجمهورية ثم يرافقه إلى مقرّه السكني التابع للاليزيه والموجود على الضفة اليسرى لنهر السين. لكن العلاقة بين الرجلين كانت قد تغيّرت منذ فترة.


تأخر فرانسوا دو جروسوفر بالخروج من مكتبه، على غير عادته، فدق حارسه الشخصي على باب مكتبه. لكن لا جواب. كرر القرع على الباب ولا شيء غير الصمت المطبق. فتح الباب فوجد «فرانسوا دو جروسوفر» مضرّجا بدمه على أريكة وبيده مسدس ماغنوم عيار 357 والحياة قد فارقته. أخطر الحارس مسؤوليه وحضر الأطباء ورجال الشرطة. أُصيب فرانسوا ميتران بنوع من «الهلع» عندما سمع بالخبر. ذلك أن الموت دخل إلى الاليزيه، وكان المرض الفتّاك قد اشتدّ به هو الآخر.


أغلقت الشرطة المداخل المؤدية إلى قصر الاليزيه في ذلك اليوم حتى حضور الشرطة الجنائية وإجراء العمليات المطلوبة في مثل هذه الحالات مثل أخذ البصمات ومعاينة الجثّة وطرح الأسئلة على الذين كانوا على صلة مباشرة مع صاحبها مثل سائقه وحارسه الشخصي.


ولكن ما هي علاقة فرانسوا دو جروسوفر بفرانسوا ميتران؟


تعود الحكاية إلى عام 1959 عندما قدّم بيير مندس فرانس، أحد أشهر الشخصيات السياسية الفرنسية في القرن العشرين، فرانسوا دو جروسوفر لصديقه فرانسوا ميتران الذي كان يبحث عن توسيع علاقاته لخوض معركة انتخابية قادمة ضد الجنرال شارل ديغول. وقد وجد ميتران في دو جروسوفر النموذج «الديناميكي» الذي يبحث عنه.


ويروي المؤلف في هذا السياق «حادث الاعتداء» الذي تعرّض له فرانسوا ميتران في شهر أكتوبر من عام 1959 والمعروف ب«حادث المرصد». وكانت سيارة ميتران قد تعرّضت عندما كان يقودها في شارع المرصد «الاوبزرفاتور» لرشقة نيران حيث أصيبت بسبع رصاصات.


خرجت جميع الصحف في اليوم التالي وعلى صدر صفحاتها الأولى عناوين عن الحادث وبدأت الشرطة تحقيقاتها. لكن بعد أسبوع فقط كشف أحد النوّاب عن أن الحادث مفتعل وأن الأمر كله جرى تدبيره بالاتفاق مع «الضحية». ومن جديد تحدثت عناوين الصحف عن «المزوّر» الكبير.


هكذا وقع فرانسوا ميتران، الذي كان وزيرا سابقا للداخلية ، في أحابيل مؤامرة كادت أن تودي بمصيره السياسي كله. لقد تخلّى عنه الجميع واقترع العديد من النواب المقرّبين منه لصالح رفع الحصانة البرلمانية عنه. وتساءل كثيرون: هل هذه هي نهايته السياسية؟ ينقل المؤلف عن أحد أصدقائه المقرّبين قوله: «كانت تلك هي المرّة الوحيدة التي رأيته فيها مستعدا للانتحار». أما ميتران نفسه فقد قال: «لقد تعبت من هذه الهجمات كلها».


كان فرانسوا دو جروسوفر من بين القلائل الذين ظلّوا مخلصين بصداقتهم لفرانسوا ميتران. وقد رافقه في يناير 1961 في رحلة إلى الصين للقاء ماوتسي تونغ وكان رولان دوما، وزير الخارجية الفرنسي لاحقا هو الذي نظّم تلك الزيارة. واعتبارا من تلك الزيارة أصبح فرانسوا دو جروسوفر «رجل الظل وكاتم أسرار» فرانسوا ميتران.


وليس أسراره السياسية فقط وإنما أيضا أسراره العاطفية حيث كان ميتران قد وقع آنذاك في حب «آن بينجو» التي كانت من نفس منطقة «دو جروسوفر» وهي والدة «مازارين» ابنتها غير الشرعية من ميتران التي كشف عنها خلال السنوات الأخيرة من حياته.


وقف فرانسوا دو جروسوفر بقوة إلى جانب ميتران ضد الجنرال ديغول، وغدا مستشاره الفعلي في العديد من القضايا بما في ذلك إستراتيجية السيطرة على الحزب الاشتراكي. وكانت مهمته بالتحديد هي العمل على «تجنّب الضربات السيئة» و«تحضير الضربات الجيدة». لقد كان باختصار «أخرس وأعمى وأصم ومخلص في جميع الامتحانات»، كما يتم وصفه.


هكذا كان فرانسوا دو جروسوفر هو الشاهد و«العرّاب» لولادة «مازارين» يوم 18 ديسمبر 1974 وكان هو الذي يرتب جميع لقاءات «العائلة» في بلدة «لوزيني» حيث كان قد كرّس بيتاً في ملكيته الواسعة لفرانسوا ميتران وعشيقته آن بينجو وابنتهما مازارين، أطلق عليه تسمية «بيت ميتران». كما قدّم العديد من الخدمات الأخرى المختلفة.


لكن في الوقت نفسه لم ينس فرانسوا دو جروسوفر هوايته حيال المسائل العسكرية والاستخباراتية. وعندما أصبح فرانسوا ميتران رئيسا للجمهورية عام 1981 عهد لصديقه بالميادين المتعلقة بالصيد وبمراقبة الأجهزة السرية، أي عهد إليه بالنشاطات التي يحبها وحيث غدا بنفس الوقت شخصية «رسمية» من شخصيات الجمهورية ويتمتع بحرّاس شخصيين وسكرتيرات ومكتب في الاليزيه.


مع ذلك من الصعب كثيرا أن يفقد المرء عاداته، وهكذا حرص فرانسوا دو جروسوفر على اتخاذ أسماء «حركية» و«شيفرات» و«أرقام سرية». بل احتفظ بحق حمل السلاح بشكل استثنائي وبعد تدخل شخصيات كبيرة في الدولة، وخاصة تدخل رولان دوما، وزير الخارجية آنذاك. بنفس الوقت أخذ فرانسوا دو جروسوفر بتوسيع علاقاته في جميع الاتجاهات خاصة مع بعض شخصيات معسكر اليمين الذين ساعدوا «بطله» على الفوز بالانتخابات.


حماية الرئيس


مع وصول فرانسوا ميتران إلى الاليزيه أصبحت مهمات «الحماية» ملحّة أكثر فأكثر. إذ كانت تنبغي الإحاطة برئيس الجمهورية وبأهله أيضا، أي أسرته «الرسمية» ممثلة بزوجة الرئيس دانييل وولديهما، وبالأسرة «الأخرى» التي كان ينبغي «تجنيبها» أي حادث طارئ قد يكشف عن وجودها ويسيء بالتالي للرئيس ولسلطته.


وينقل المؤلف في هذا السياق عن كتاب صدر عام 2006 عن سيرة حياة «دانييل ميتران» أن أختها، وزوجة الممثل الفرنسي الشهير روجيه هانان، قد حملت باقة من الورد يوم فوز ميتران لأختها دانييل وحملت أيضا لها الرسالة الدقيقة التالية: «دانييل، عزيزتي، ينبغي الآن رحيل جان. إن رئيس الجمهورية هو الذي يطلب منك ذلك».


وكما تعرفين أن فرانسوا ـ الرئيس فرانسوا ميتران- قد تعوّد عليه وهو يعامله كصديق ويتعايش معه بهدوء على هذا الأساس. لكن الأمر لم يعد ممكنا اليوم. وعشيقك لم يعد باستطاعته السكن في المنزل الخاص لزوجك رئيس الجمهورية».


جان المقصود هو أستاذ للرياضة وكان يسكن في غرفة فوق شقة ميتران منذ عشرة سنوات، وقد كان ميتران وزوجته قد اتفقا على ذلك «التوزيع الغرامي». لكن بعد أن أصبح الزوج رئيسا للجمهورية غدت المخاطر أكبر من «الأصداء» المحتملة التي قد تثار.


أما المخاطر فقد كانت من نوع آخر بالنسبة لرئيس الجمهورية ول«أسرته السرية». كان الرئيس الأميركي رونالد ريغان وبابا الفاتيكان قد تعرّضا منذ فترة وجيزة لمحاولتي اغتيال. واعتبروا في قصر الاليزيه أنه قد حان الوقت لإعادة تنظيم حماية أمن رئيس الدولة حسب توجيهات الأجهزة السرية التي كانت تجد أن مثل هذا الأمن «غير موجود» فعليا.


هكذا عهد فرانسوا دو جروسوفر بالمهمة لقائد «مجموعة تدخل الشرطة الوطنية، التي تأسست عام 1973 وكلّفوها بالقيام بمهمتها على مدار الساعة وطوال أيام السنة وفي كل مكان. وقد قال ميتران للمكلّفين بحراسته الدائمة: «سوف تضايقونني كثيرا»، ذلك أن مهمتهم كانت تعني أيضا بشكل طبيعي، حماية آن ومازارين.


أما دو جروسوفر فقد اختصر تعليماته بالقول: «السرية التامة والكاملة». هذه «السرية» أرغمت الأم والابنة ذات الثمانية سنوات على مغادرة شقتهما المؤلفة من ثلاث غرف التي تصعب حمايتها للسكن في بيت «مغلق» ولا يمكن رؤيته من الخارج وتحيط به «الكاميرات».


هذا المسكن الجديد موجود في الموقع الذي بناه نابليون الثالث وأصبح سابقا «إسطبل» قصر الاليزيه ثم جرى تحويله إلى بناية للمكاتب الإدارية وبناية للشقق السكنية لبعض أعضاء ديوان الرئيس الذين كان من بينهم رئيس الديوان ورئيس الأركان الخاص للرئاسة وفرانسوا دو جروسوفر.


وحيث احتلت مازارين وأمها شقة مؤلفة من خمس غرف في الطابق الخامس. وإلى هذه الشقة بالتحديد كان يرافق ميتران كل مساء صديقه فرانسوا دو جروسوفر حيث يلتقي بابنته وأمها «المرأة التي أحبّها». هكذا لم يكن ميتران يمضي في قصر الاليزيه سوى الوقت المطلوب للقيام ب«الواجبات» الرئاسية.


لقاء مهم


التقى الرجلان فرانسوا ميتران وفرانسوا دو جروسوفر على حب لبنان. فرانسوا دو جروسوفر بسبب والده «موريس» الذي أسس بنك فرنسا في لبنان ونقل لأبنائه حبّه وولعه بالشرق. وفرانسوا ميتران بسبب «الإنجيل» الذي كانت أمه تقرأ له منه عندما كان صغيرا وحكاياتها التي بقيت آثارها محفورة في أعماقه عن ذكرياتها على جانبي نهر الليطاني.


في شهر فبراير 1981 ذهب فرانسوا دو جروسوفر بمهمة إلى بيروت، ضمن وفد من رجال السياسة الفرنسيين. فقد كانت له علاقات جيدة مع أسرة الجميّل. هناك زار بلدة الدامور واستمع للقادة المسيحيين وهم يطالبون بجلاء القوات الأجنبية عن لبنان. عندما عاد إلى باريس تحدث مع فرانسوا ميتران عن «واجب مساعدة الشعب اللبناني» وعن خطر تدخل عسكري إسرائيلي.


ويشير المؤلف إلى أن فرانسوا ميتران كان يعتقد منذ وصوله إلى الاليزيه بوجود خطر قيام حرب شاملة في تلك المنطقة. وكان دو جروسوفر قد جذب إليه أحد عناصر الاستخبارات الخارجية هو العقيد «روندو» الأخصائي بشؤون الشرق الأوسط والذي يتحدث اللغة العربية بطلاقة.


في 2 مارس 1982 قام فرانسوا ميتران بزيارة إسرائيل حيث ألقى أمام «الكنيست» خطابه الشهير الذي دعا فيه الإسرائيليين للاعتراف بدولة فلسطينية ودعا الفلسطينيين للاعتراف بإسرائيل. وقد قوبل هذا ب«عدم الفهم» من الجانبين. وفي 12 يونيو من نفس السنة زحف الجيش الإسرائيلي باتجاه بيروت من أجل طرد الفلسطينيين منها محطما بذلك الجهود الدبلوماسية التي كانت فرنسا تقوم بها منذ فترة طويلة.


ويؤكد المؤلف في هذا الإطار أن فرانسوا دو جروسوفر وبيير ماريون، رئيس أجهزة الاستخبارات الخارجية الفرنسية، قد التقيا خلال تلك الفترة مع شقيق الرئيس السوري رفعت الأسد وبعده مع مبعوثين من مجموعة أبو نضال. بنفس الفترة (سبتمبر و أكتوبر 1982) توجهت السفينة الفرنسية «مونتكالم» إلى المياه اللبنانية بأوامر من فرانسوا ميتران، وهذه السفينة مزودة بطائرات عمودية وأجهزة تجسس واتصال «مشفّرة».


ويشير المؤلف إلى أن ميتران، من أجل تجنب أن يؤدي التدخل الإسرائيلي إلى مجابهة بين الشرق-الغرب، على أساس أن سوريا كانت قد عقدت اتفاقية تعاون عسكري متبادل مع الاتحاد السوفييتي، اتفق مع رونالد ريغان على إرسال كتيبة فرنسية إلى لبنان في إطار «قوة متعددة الجنسيات». كذلك تتم الإشارة إلى أن فرانسوا دو جروسوفر قد التقى طيلة صيف 1983 بمبعوثين عن أطراف النزاع اللبناني، خاصة مبعوثي جنبلاط والجميّل في أفق القيام بوساطة.


انفجاران في بيروت


في 23 أكتوبر 1983 عرفت بيروت انفجارين كبيرين أدى أحدهما إلى قتل 58 جنديا فرنسيا والآخر 239 من جنود المارينز الأميركيين. جمع ميتران حوله مباشرة عددا من المقرّبين منه في قصر الاليزيه بينهم فرانسوا دو جروسوفر وقال لهم: «أنوي الذهاب إلى بيروت فما رأيكم»؟


كان في الحقيقة قد أرسل وزير دفاعه قبله وقرر هو الذهاب أيضا لكنه جمعهم من أجل «الشكل» فقط. رافقه في الرحلة رئيس أركانه الخاص ومستشاره الدبلوماسي هوبير فيدرين وفرانسوا دو جروسوفر. لم يكن أحد في بيروت يعلم بتلك الزيارة سوى الرئيس أمين الجميّل، صديق جروسوفر.


تحركات سرية


أحيطت التحركات في لبنان بكثير من السرية والإجراءات الأمنية. لكن كانت المشكلة الأكبر هي إقلاع الطائرة من بيروت إذ كانت ستمر مباشرة فوق منطقة خطيرة. وكان الجنرال، رئيس الأركان الخاص للرئيس الفرنسي. قد أعطى أوامره كي ترافق طائرات «سوبر اتندارد» المنطلقة من حاملة الطائرات الفرنسية «كليمنصو» طائرة «فالكون-5» التي يستقلها الرئيس ميتران.


ذلك على أساس أن تعدد مصادر الحرارة يؤدي إلى «تيهان» مسار الصواريخ أرض ـ جو في حالة إطلاقها. وينقل المؤلف عن هوبير فدرين قوله إنه سمع ميتران يسأل الجنرال رئيس أركانه: «جنرال متى سنعرف أن نساءنا سيكنّ أرامل»؟ فأجابه الطيار: «ستكون طائراتنا معرضة لأن تصاب بالنيران لفترة ثلاث دقائق أخرى، سيادة الرئيس».


وينقل المؤلف عن جاك اتالي قوله: «لقد اعترف لي فرانسوا ميتران لاحقا أن لحظة قراءة أسماء الجنود القتلى كانت من أسوأ لحظات فترتيه الرئاسيتين. كان يعرف أنهم قد ذهبوا إلى الموت بقراره وحده، وأنه كان مصمما على معاقبة الفاعلين. لكن كان ينبغي التعرّف عليهم وتحديد مواقعهم». هنا يؤكد المؤلف أن الفرنسيين والأميركيين اتخذوا قرارا مشتركا بالرد على من اعتبروهم مسؤولين عن التفجيرين من حزب الله وجرى تحديد موعد 17 نوفمبر للقيام بذلك.


وفي صباح ذلك اليوم أخبر جاك اتالي الرئيس ميتران أن الأميركيين قد غيّروا رأيهم وتخلّوا عن الرد. لكن ميتران قرر عدم التخلي وقال لأتالي: «عليك أن تحتفظ بهذه الحكاية سرا لفترة طويلة. ولا أريد أن يعرف أحد قبل زمن مديد أن الأميركيين قد تخلّوا عنا في اللحظة الأخيرة».


لقد قامت الطائرات الفرنسية بإلقاء قنابلها فوق معسكر في بعلبك وعادت كلها إلى قواعدها. وهذا ما اعتبره مسؤولو حزب الله «عملية استعراضية». كان غضب فرانسوا دو جروسوفر كبيرا. وقال: من أين جاءت عملية الكذب والتضليل؟ وزادت شكوكه بالجو المحيط بالرئيس «معلّمه».


ارتبط اسم فرانسوا دو جروسوفر بالعديد من القضايا الخاصة ب«عمولات» حول صفقات لبيع الأسلحة مما جعل القضاء «يهتم به» ويحرمه ميتران من لقب «مكلّف بمهمة» لديه واحتفظ فقط بصفة «مسؤول الصيد». وهي الصفة التي مثّلت «خير غطاء» لمتابعة صلاته مع إفريقيا والشرق. وهذا ما جلب له أيضا الكثير من اهتمام «القضاة» به.


وضاقت الدائرة عليه أكثر وصولا إلى دفعه ل«الانتحار». وهكذا دفن معه الكثير من أسرار الاليزيه في ظل فرانسوا ميتران. ثم «دفن» ميتران كل أثر لموته في الاليزيه بما في ذلك مكتبه إذ أمر بهدم جدرانه لينشئ صالة اجتماعات كبيرة.


عرض ومناقشة: محمد مخلوف
رد مع اقتباس