النزعة الشمولية (التوتاليتارية)
(1)
كان المشروع العظيم لكارل ماركس هو تحليله النقدي للمجتمع المدني البرجوازي. لقد قضى وقتاً قصيراً نسبياً في وصف فكرته عن طريقة تنظيم الشيوعية. ولكنه قدم مخططاً متماسكاً تماماً للانتقال الى الاشتراكية. وتصور ماركس أن الاستيلاء على السلطة سوف يسبق المجتمع المدني ويجعل تغييره ممكناً، وتوقع ماركس بيقين أن مشروعه سيحظى بدعمٍ فاعل من أغلبية الجماهير.
تبين لفلاديمير لينين بأن تحويل المجتمع المدني أصعب بكثير من الاستيلاء على سلطة الدولة. فأجل ذلك للتغلب على الثورة المضادة وتصفية جيوبها المعيقة لتحويل المجتمع الى مجتمع اشتراكي شيوعي. وكانت ظروف الاتحاد السوفييتي كافية لإعاقة بناء مجتمعٍ مدني راقٍ، فكيف وقد جاءت الحرب العالمية الأولى بنتائجها وثقلها؟
تراجعت أفكار الشيوعيين التي كانت تريد مجتمعاً بلا دولة، تقوده سوفياتات محلية من العمال والفلاحين، وتُرك هذا الموضوع جانباً، لتقوم مكانه دولة حديدية هي من يفرز منظمات المجتمع المدني وتسخرها لتكون رديفة للدولة نفسها.
أدرك لينين أن صهر الدولة بالحزب وتحييد القوى المعارضة سيكون خطراً كبيراً بالاعتماد على الدولة والحزب وحدهما، وحذر زملاءه مراراً وتكراراً من أن سيطرة العمال وإشرافهم هو الأمر الوحيد الذي سوف يحول مركزية الثورة الحتمية لصالح الاشتراكية. وأقر بصعوبة تفادي البيروقراطية، لكنه اعتقد بإمكان تحجيم آثارها السيئة من خلال إشراف الطبقة العمالية، وفي نهاية حياته أدرك بأسى أن قول ذلك نظرياً أسهل من تحقيقه على أرض الواقع.
(2)
لم يقدم موت لينين عام 1924 الكثير لحل التناقضات المتأصلة في استعمال الدولة لتحويل المجتمع المدني. لقد بدا أن كل هدف من أهداف الثورة بحاجة الى تقوية سلطة الدولة المتعاظمة، وتقوية قيادة الحزب للتعبئة الاجتماعية العامة والتحديث الاقتصادي. فجرت مناقشات التصنيع المهمة في أواخر العشرينات في سياق إجماع القيادة السوفييتية الواسع على أن الرأسمال اللازم لبناء الصناعة سوف يأتي من الفلاحين. وكان السؤال الوحيد هو مدى سرعة استخلاص هذا الرأسمال.
ضَخمَت الحرب العالمية الثانية والمواجهة اللاحقة مع الولايات المتحدة من دور الدولة في الصناعة الثقيلة، ومن كونها في حال طوارئ مستديمة، وغدت الضرورة العسكرية هي ما يميز الاشتراكية السوفييتية، سار الاقتصاد السوفييتي منذ البداية على الاستعداد للحرب، واعتمد على التخطيط المركزي، والسيطرة الصارمة، وإحكام القبضة على قوى السوق.
انتشرت عدوى النموذج السوفييتي لعقود طويلة في القرن العشرين، واستلهمتها كثير من الدول المتخلفة في العالم، فاتسم هذا النمط من الإدارة الى حتمية الهجوم على المجتمع المدني وصبغه بصبغة نظام الحكم القائم، تحت ما يُسمى بالصالح العام ومقتضيات ظروف الثورة أو المعركة.
(3)
وصف المفكرون السياسيون، منذ أرسطو، الحكم المطلق بأنه تشكيل سياسي يتسم بالتعسف واللامسئولية وانعدام الحدود. فالنزعة الشمولية بما تتميز به من رغبة شديدة في فرض الوحدة الأيديولوجية، وإزالة الاختلافات الاجتماعية، وتنظيم مستويات عالية من المشاركة الجماهيرية والتلاعب بها، هي جذور النزعة الشمولية في محاولتها إخضاع دوافع المجتمع المدني التلقائية لغايات محددة سلفاً.
إن قدرة الدولة الشمولية غير المسبوقة على الإقناع والعقاب تساعدها على تنظيم (سيطرة وتوجيه مركزيين للاقتصاد برمته من خلال التنسيق البيروقراطي للكيانات التعاونية والمستقلة سابقاً.
وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الأنظمة الشمولية لتحطيم وجود الكيانات المنفصلة عنها، تظل في هذه الأنظمة الديكتاتورية، بعض المجموعات تعمل على مقاومة السلطة الشمولية. فالعائلة والكنائس والجامعات ومراكز أخرى للمعرفة التقنية، والكُتَّاب والفنانون، كلٌ حسب تقديره لوجوده باعتباره كائناً عاقلاً، يتعين عليهم، إن أرادوا البقاء، مقاومة مطالب الأنظمة الشمولية.
ستواجه النُظم الشمولية والتي على شاكلتها جماهيرها بنفس الصيغة التي يتعامل معها المحتلون (فرق تَسُد). ويكون قيام الحركات الشمولية ممكناً حيثما توجد جماهير تجنح لسبب أو لآخر الى التنظيم السياسي. فالجماهير لا تأتلف معاً بداعي الوعي بالمصلحة المشتركة، فهي تفتقر للوضوح الطبقي الخاص الذي يتم التعبير عنه في أهداف مقررة ومحدودة وُضعت لهم دون مشاركتهم الفعالة في فهم مفرداتها.
خاتمة تلك المقالة
إن الدولة الاشتراكية العاجزة عن نبذ شكوكها في المجتمع المدني، اندفعت الى (تمزيق كل الصلات والروابط الاجتماعية وغير الرسمية التي تقع خارج نطاق العائلة). فالمجتمع السياسي ـ عندها ـ يعني أولوية الدولة السياسية على الحياة الاجتماعية ككل، وأن المجتمع ملحق بالدولة الكلية القدرة أكثر منه كياناً مستقلاً. وهنا يتم شَّل الأفراد عن تبيين حاجاتهم، ويتحولوا الى كيانات فردية خالية من الإبداع الحقيقي.