الغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختلُّ، وتؤرجح في أكفِّهم ميزان القِيَم؛ فلا يملكون تصوُّر الحياة وأحداثها وقيمها تصوُّراً صحيحاً، ويظل علمهم بها ظاهراً سطحياً ناقصاً؛ لأن حساب الآخرة في ضمير الإنسان يغيِّر نظرته إلى كل ما يقع في هذه الأرض؛ فحياته على الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون.
ومن ثمَّ لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخـر يعيـش لهـذه الدنـيا وحـدها، ولا ينتظر ما وراءها؛ لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة، فلكل منهما ميزان؛ هذا يرى ظاهراً من الحياة الدنيا، وذاك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن ونواميس شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والحياة والموت..." (1) .



هذا ما سطَّره المفكر الأديب سيّد قطب - رحمه الله - عند قوله - تعالى -: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: ٧]
والإعراض عن دار الخلود يورث في هذه الدنيا هشاشةً في المواقف والنوازل، وإيثاراً للراحة والسلامة، وملاينةً للأعداء، وتنصُّلاً من المسؤوليات الجِسَام؛ فمن كانت الدنيا همّه وشغله وهِجِّيراه(2) ؛ أتراه يبذل وقته وماله وقلمه في سبيل الله تعالى؛ فضلاً عن أن يقدِّم مهجته؟!
وقـد أشار الأستـاذ الكـبير د. مـحـمـد محـمـد حسـين - رحمه الله - إلى ذلك بقوله: «إن الناس في ضعفهم البشري، وتمسُّكهم الشديد بالحياة الدنيا؛ لا يدركون من الحروب والصراع إلا الجانب الذي يكرهونه ويخافونه، وهو العذاب والآلام التي تصاحب الصراع، والموت الذي قد ينتهي به، ولكن نظرة متدبِّرة تهدي المؤمنين إلى أن الآلام والموت على امتداد الحياة الكبرى ليست إلا بعض المكاره القليلة الخـطر على الامتداد الطويل المديد الذي لا يحدّه الخيال، لا يكاد يذكرها الإنسان بعد أن يتجاوزها إلى ما وراءها، فهـي لا تــزيد عما يقــابله في طفولته، أو صباه، أو شبابه، أو بعض أطـوار حـيـاته مـن ضـروب المعـانـاة في الأمـراض أو الحوادث» . (3)


لقد حذَّر السلف الصالح من الغفلة عن الآخرة، وعدم تذكُّر أهوال الآخرة وزواجرها؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: «من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له» . (4)
وعـن عـبـد الله بـن مسـعود - رضي الله عنه - أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنـار مـثل ذلك» (5) . قال ابن حجر: «فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل مـن الشرِّ أن يجـتنـبه، فإنـه لا يعلم الحسنـة التي يـرحمـه الله بـها، ولا السيئة التي يسخط عليه بها» . (6)


وكان للحسن مجلس خاص في منزله لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك .(8)
ومن خواطر ابن الجوزي ومواعظه: «من تفكَّر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهَّب للسـفر. ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه.
تغترُّ بصحتك وتنسى دنوَّ السقم، وتفرح بعافيتك غافلاً عن قرب الألم، لقد أراك مصرعُ غيرك مصرعَك.
وكيف تنامُ العينُ وهي قريرةٌ
ولم تدرِ من أيِّ المحلّين تنزلُ» (9)
وقال أيضاً: «همة المؤمن متعلقة بالآخرة، فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة، وكل من شَغَله شيء فهمّته شغله. ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة رأيتَ البَزَّاز ينظر إلى الفرش ويحزر قيمته، والنجار إلى السقف، والبنَّاء إلى الحيطان، والحائك إلى النسيج المخيط.والمؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن رأى مؤلماً ذكر العقاب، وإن سمع صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نياماً ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذَّة ذكر الجنة، فهمّته متعلقة بما ثَمَّ، وذلك يشغله عن كل ما تمَّ» . (10)


ومع كثرة الخطط الدعوية والبرامج التربوية عند الإسلاميين؛ إلا أن هذا الجانب الإيماني الروحاني الجليل لم يُعْطَ حقه من الاحتفاء وتربية الأجيال عليه؛ إذ لا يتولى هذا الشأن إلا من قلَّ علمه وقدره.
لقد كان الوعاظ في قديم الزمان علماء وفقهاء، وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول: ما أحوج الناس إلى قاضٍ صدوق .(12)
إن الناظر في واقع الصحوة الإسلامية - فضلاً عن واقع عامة المسلمين - ليلاحظ جملة من الآفات السلوكية والأخلاقية، باعثها ضعف الإيمان باليوم الآخر، ومن ذلك: الفتور عن العمل الدعوي لأجل الدنيا أو الأهل، وأسوأ من ذلك تسخير العمل الدعوي ولَيُّه في سبيل تحصيل حظوظ الدنيا! وكذا استرواح المداهنة لأعداء الله تعالى، واللياذ بالمواقف العائمة التي لا تهدم باطلاً ولا تنصر حقاً، والانبهار بالحضارة المادية، والتولِّي عن مقارعة أئمة الكفر والبدع والفجور، وغياب الأخلاق والمروءات؛ كالشجاعة والكرم والنصرة، وتتبُّع رخص الفقهاء.. إلخ.
ورحم الله ابن القيم إذ يقول: «لا تتمُّ الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بالنظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرَّات، كما قال الله - سبحانه -: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: ٧١]، فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة» . (13)


وقال - في كتاب آخر -: «جميع الأمم المكذِّبة لأنبيائهم إنما حملهم على كفرهم وهلاكهم حبُّ الدنيا.. فكل خطيئة في العالم أصلها حبُّ الدنيا، فحب الدنيا والرياسة هو الذي عمر النار بأهلها، والزهد في الدنيا والرياسة هو الذي عمر الجنة بأهلها.. والدنيا تسحر العقول أعظم سحر..» . (14)
كم هو موجع حقاً حال طائفة منا - معشرَ الدعاة وطلابَ العلم - إذ كانوا في ريعان شبابهم على حظ كبير من الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، والبذل والحرص على أداء القربات وأنواع التضحيات، ثم لما وهن العظم، واشتعل الرأس شيباً، ودنا الرحيل؛ إذا هم ينكبُّون على حطام الدنيا الزائل، ويتثاقلون عن تلك القربات، ويغالبهم العجز والكسل! «واعجباً! كلما صعد العمر نزلتَ، وكلما جدَّ الموت هزلتَ! أتُراك ممن ختم بفتنة، وقُضيت عليه عند آخر عمره المحنة؟ كنت في زمن الشباب أصلح منك في زمن أيام المشيب» . (15)
إن على محاضن الصحوة الإسلامية أن يتعاهدوا أفرادهم بالتربية الإيمانية النبوية، ومن ذلك: أن نبينا محمداً – صلى الله عليه وسلم - كان يربِّي صحابته الكرام - رضي الله عنهم - على العزوف عن الدنيا والاشتغال بيوم المعاد؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بمنكبيّ فقال: «كُنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» . (16)


وعـن عـديِّ بـن حاتم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا النار، قال: وأشاح، ثم قال: اتقوا النار، ثم أعرض وأشاح ثلاثاً حتى ظننا أنه ينظر إليها، ثم قال: اتقوا النار ولو بشقِّ تمرة؛ فمن لم يجد فبكلمة طيبة» . (18)
ألا فليسعنا ما وسع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وصحبه رضوان الله عليهم؛ فإن خير الهدي هدي نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم -