منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 2 من 5 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 46
  1. #11

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    9
    مرة طرأت لي فكرة زيارة إحدى المقاهي، فكرت في محاورة إحدى بطلاتي وهي تقرأ الصحف في مقهى. اقتربت منها حيث كانت تدخن الشيشة، كانت وقتها لا تعرف ماذا تقرأ، فالصحف كلها سواسية، الكذب على واجهات الصفحات بالعناوين الكبيرة، وبما أني أطلقت عليها اسم عيناء بعد أن وجدتها بلا اسم في الحافلة، أخذت تسألني عن معنى اسمها، وحين شرحت لها أن العيناء هي ذات العيون الواسعة السواد فرحت وقالت لي: إنه يترجم صفتي، كلانا كانت على عجل، وكأن الريح تحتها.
    طلبتُ منها أن تحتسي القهوة بسرعة كي نخرج لنتمشى قليلاً، جمعنا أعضاءنا المتناثرة وأخذناها مشيا ، سألتني وقتها:
    - إلى أين؟ ثم ضحكت وبدت أسنانها البيضاء كأنها حبات لؤلؤ، يبدو أن قولي المقاهي للكسالى أثلج صدرها، وأدخل بعض بهجة عليها.
    في سيرنا كنّـا نعدّ الكنائس التي نمرّ بمحاذاتها، كثرتها جعلتني أقارن بينها وبين عدد المساجد في بلداننا العربية.. إذا كانت الموسيقى ترافق صلاتهم وفنّ الرسم والحفر يملأ كنائسهم، فنحن لنا فن الزخرفة والمنمنمات حيث أعطى مساجدنا خصوصيتها.
    أذكر أني دخلت المسجد مع أبي مرة وأنا في الثانية عشرة، بعد أن طلبت منه ذلك سألني فيما إذا كنت طاهرة، استفزّني سؤاله فسألته :
    ـ وهل أنا نجسة يا أبي؟
    ـ لا يا ابنتي، أقصد، أقصد..
    استدرك قصده في دهشة وجهي، وعرف بأني لم يمرّ علي طقس المحيض. رحت معه يوم الجمعة، وأدخلني إلى مكان ذي ستر مخصص للنساء.. كنت أبحث عن روح الله في ساحة المسجد*
    ـ لمَ توقفت سيدة راوية؟
    ـ تعال، نسأل وليداً عن سعر ثالث لوحة بيعت اليوم.
    اقتربا من وليد، وجداه غير مسرور، فمازحه محمود:
    ـ ستصبح برجوازياً، هذا ثالث رجل أعمال يشتري منك، من أين وفدوا؟
    ـ صديقة قديمة لها معارف كثيرون، وعلى ما أعتقد هي وراء كل ذلك.
    (ثم واصل): لغة رجال الأعمال لا تضع النقاط على الحروف في لغة الفن.
    وفيما هم يتبادلون الأحاديث دخل مصور يحمل كاميرا تلفزيونية وبرفقته مذيعة، ترتدي بنطلونا ضيقا من اللون البيج، وقد تركت قميصها الأحمر مسدلاً على جانب البنطلون، بينما باقي أطراف القميص عقدتها وتركت العقدة مربوطة من الأمام، وقد زرّت ثلاثة أزرار سفلية فقط من القميص.
    بعد أن ترجرج نهداها، وتمايل خصرها الممتلئ بعض الشيء، سألت عن وليد. أسرعت إليه وقتما حدّدوه لها من بين الجمع الغفير، مشطت شعــــرها الأســـــود بأطراف أصابعها، وأشارت إلى المصوّر (أن اتبعني)
    وقالت:
    ـ لو كنت غير متزوج لخطبتكَ، مرحباً سيد وليد. وعذراً، هذه طريقتي في الكلام؛ لا أحبّ التكلـّف والتصنّع.
    ارتبك وليد وهو يجاملها :
    ـ أبداً، والله أنتِ لطيفة جداً وعليك السلام، هل من خدمة أقدمها إليكِ؟.
    ـ أنا مذيعة من تلفزيون (arb) وأرغب بإجراء حوار معك، هذا إذا لم تمانع.
    ـ بكل سرور.. لكن اسمحي لي، مَن أخبرك عن معرضي وكيف عرفت مكانه؟.
    ـ اتصل بي الأخ محمود قبل ساعة.
    ـ آه. فهمت. تفضلي، كيف تحبين، أنظلّ واقفين أم؟ (تطلـّع إلى الكراسي الأربعة فوجدها غير شاغرة، فأكمل) :
    - الوقوف أفضل.
    ـ لن أسألك عن بداياتك وحياتك الخاصة، إنه سؤال متهرئ ،صفة المذيعين السذّج.. سيد وليد، الجزء البسيط من حياتنا أُعلن عليه التلف، حتى عواطفنا بتنا نخاف عليها من بخار الدمع، كيف تستطيع كفنان أن تحتفظ بجزئكَ البسيط أو بما تبقى لديك؟
    ـ يقول (نيتشه) :
    - إن إرادتنا خير مَن يهدم القبور. عواطفنا ومبادئنا الحقيقية هي الشفاء لبؤسنا، فليعلنوا الحرب كيفما شاءوا.
    ـ هذا يعني أنك لا تخضع للمقايضة؟
    ـ يا سيدتي.. (وراح يتحسّس ذراعه).. أنا يا سيدتي حتى عند حافة الموت أحمل صليبي وأمشي على تلك الحافة. أما ترينني أقف بيد واحدة، أصافح أصدقائي وهذا الحشد الذي اختارني هو ولم أبذل جهداً للوصول إليه؟
    - سمعت، وأرجو المعذرة، سمعت أنك مقطوع من شجرة.. أي لا أحد لك، فلمَ العزلة إذاً؟
    احمرّت وجنتاه بحرج سؤالها، وسال عرق جبهته، تردّد في الإجابة، ثم انطلقت الكلمات من فمه مسرعة:
    ـ الابتعاد أو العزلة كما تسمينها هما أول نقطة الجريان.
    ـ جريان ماذا؟
    وطلبت بطرف عينها من المصوّر أن يقترب منه أكثر.
    ـ جريان النهر، أي نهر يبدأ من نقطة، ثم قطرة.
    قالت بعد أن عقدت حاجبيها:
    - من خلال نظرتي السريعة للوحاتك وجدت أنك في صراع مع الظلام.. مرة يتغلب عليك، ومرة تنتصر عليه بتسليط الضوء، أليس كذلك؟ أم إنّ حدسي الفني قد خانني؟،.
    ـ لقد أصبتِ.. أحياناً تعتريني فرجة أمل، فأبعد الضرير عني وأتحرش بالضوء.
    ـ قبل قليل سيد وليد كنت تردّد مقولة نيتشه عن الإرادة، وردك الآن على سؤالي يظهر شخصيــــة غير متوازنة الكفتين. هل أنت من الــرجال الذين يكون منطقهم عكس تصرّفهم؟. بصراحة إني أجد تسعين بالمائة من الشرقيين والعرب تحديداً متناقضين، أين تضع نفسك؟
    عن بعد كانت راوية تسترق السمع، ربـّما يردّ وليد على سؤال يتحدى به نفسه. وحين وجدته (نيـﮔتف ) لكل الصور، اتخذت لها كرسياً فرغ للتو، وراحت تعيد ترتيب الصور والأحداث.

    ***

    فاجأتها صورة عيناء الباكية، ووجهها يرسم طفولة منكسرة، وتذكرت أنها طلبت منها أن تكفّ عن البكاء، وتتصبّر.
    الخروج من عتمة الألم هي أن تتذكر سوقيـّة العصر، وتنظر للتلفاز، قالت لها: افعلي شيئاً من أجلك أنت لا من أجل رجل لا يعجبه غير فحيحه ، ثم يطلق عليك طلقته ويمنعك من الانضمام إلى عالمه.
    وتابعت شعرها الأسود خصلة خصلة، خصرها الذي أطبق عليه ورك شرقي وجعله كغصن يلتوي من ثقل ثماره، تتبعت كل أجزاء جسدها، كلها تنبض عشقاً، سقطت على خدها دمعة دون قصد منها، هكذا خرجت نافرة من حرارة جفن ظليل، حتى كادت راوية أن تشمّ رائحة تلك الدمعة، لم تكن دمعة نافرة بل طفلة في حضن العمر. طبطبت على كتف عيناء قائلة:
    ـ الحب هو ترياق الحياة، حفنة من رماد الحب تحيي القلب، حالتان لا يمكن العيش دونهما، الحب والحرية.(و واصلت الحديث) لكن يا حبيبتي، حزنك روّضيه، ومخاوفك من فقدان رجل تعبدينه لا مبرّر لها، مَن يراه وهو يتعطـّف عليك بابتسامة أو نظرة من خلال ألوانه المجنونة مثله، يتمنى أن يخنقه.
    ـ دخلك ست راوية، لا تكوني قاسية عليه، تركته يفعل ما يريد، إنها طريقتي في الحب ، يكفيني صوته ورائحته. (ثم استطردت بعد أن وضعت المشط في وسط فرشاة للشعر):
    - أنا يا ست راوية أنظر إليه من زاوية أخرى، فمثلاً عندما يهزّ رأسه طرباً وهو يتغزل في شقـــرائه أمامي ويذكر محاسنـها ومميزاتها، أعطف عليه لأنه بعين واحدة ومريضة. فنظره باتجاه واحد، لا يستطيع تحريك عينه يمنة أو يسرة، ولطالما وضع شقراءه نصب عينه لا يرى غيرها .
    - إذن؟
    ـ كيف تعشقين رجلاً أحادي النظرة؟
    ـ هذا أعذب عشق.
    ـ قرأتُ مرة لـ (شمس الدين التبريزي)،،، (لا تكلـّف نفسك في الذهاب إلى البستان، انظر إلى وجه العاشق) وأحادي النظرة خاصتك لم يكلـّف نفسه حتى النظر إليكِ.
    ـ لا بل ينظر إلي، وإلا كيف رسمني؟
    ـ ليست العين هي التي ترى، بل القلب، القلب يا عيناء. العين ما هي إلا ساعي بريد بين القلب ومن نحب، إنها الثقب الذي نُدخل إليه نهارنا وجراحنا*
    في محاولتها لإعادة ترتيب الأشياء، وإعطاء البداية أحقيتها بالظهور على مسرح ذكرياتها، بلغ سمعها آخر سؤال وجهته المذيعة إلى وليد:
    ـ لماذا لا ترسم الموت والمقابر الجماعية في بلدك؟
    فرحت وقتها لجوابه:
    لأني لا أجيد تعظيم القتلة. ثم.. ثم.. (تلعثم) هل هناك ما يكفي من اللون لرسم الدم؟
    عدّلت راوية من جلستها، ومن خلال ثقب عينيها أدخلت شريطها، وراحت تستعيد كل ما فعلته الكتابة على أوراقها.

  2. #12

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    - عندما نعجز عن مواجهة الحقائق ننزوي مختبئين وراء لوحة أو قصيدة أو موقف بشجاعة كاذبة. ليس للفنان حق التقوقع على نفسه أو يجلس في غرفته يعدّ على أصابعه سنين عمره، الفنان مَن تعايش وأعطى.
    - أليست المرأة أسطورة حين تتزعم الفنون؟.
    أستاذة الادب وملكة الرواية
    استمعت حقا بسردك الذكي الزكي...
    مازلت هنا...
    واهلا بعودة القلم للبيت الذي يحبه..
    وتثبيت تقديرا وامتنانا...
    كل احتراماتي
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #13

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    رواية السماء تعود الى اهلها ملحمة انسانية كبرى سجلت فيها الاديبة الكبيره وفاء عبدالرزاق بصماتها العالية في كتابة الرواية السياسية والاجتماعية الانسانية التي تحكي قصة الانسان العراقي بين الداخل والخارج مستخدمه كل قدراتها في المزاوجه بين الفانتازيا الروائيه والحركة الزمانية والمكانيه من والى الثابت والمتغير وشخوصها اناس يتحركون بقضاياهم الخاصة الى العامة في اندماج كامل ويتداخل مع الشخصيات الرئيسية الكثير من الشخصيات الفرعية لتكتمل الملحمة العراقية الانسانيه بكل صورها ونماذجها المختلفه مابين العراق وبلاد المهجر خاصة في لندن
    الشخصيتان الرئيسيتان هما الفنان التشكيلي وليد والاديبة الروائية راويه وكل منهما له قصته مع التطورات السياسية والاجتماعية في العراق خلال العشرين عام السابقه لكتابة الروايه
    من يريد ان يتعرف على العمل الروائي الحقيقي يجب ان يقرا السماء تعود الى اهلها
    ومن يريد ان يتعرف على المعاناة الانسانية العراقية يجب ان يقرا السماء تعود الى اهلها

  4. #14

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    العزيزة الفاضله

    اختي ام فراس الموقره

    احترامي وتقديري

    وبعض من لطفك ان اعطيتني كل هذا التكريم

    هو بعض منك ايها الروائية والشاعره والناقده والكاتبه

    دام الود

    هي محاكمة الاحزاب السياسية في العراق منذ ان تجبرت على الانسان في العراق

    بورك القلم اختي العزيزه ام فراس

  5. #15

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1


    فصــــــــل
    ثاني
    فكرة اللون


    -------------

    أنتَ طائر نفسك
    وفخّ نفسك
    وصدر نفسك
    وأرض نفسك
    وسماء نفسك.

    ( جلال الدين الرومي )

  6. #16

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    --------------------------------------------------------------------------------


    أنتَ طائر نفسك
    وفخّ نفسك
    وصدر نفسك
    وأرض نفسك
    وسماء نفسك.

    ( جلال الدين الرومي )
    1
    في جهة العمر، تعبر حفنةٌ من السنين، بلا هوية تتحسس قيدها في اختصار الهواء، تشرب قهوتها كطائر غالبه النعاس.
    لوحة مخدوشة لفنان معتزل الحياة، تشاركه عزلته منفضة سجائر، ضباب يترنح بسكرة الذبح، من المدن والشوارع والأرض، لوحة خشبية نُقش عليها (شقة رقم 202) كان من المفترض أن تـُدق على باب الشقة من الخارج. وبملل طريد تكوّر الوقتُ على شكل دائرة، وعجز وليد عن إضافة لمسة فنية لشقة فقيرة الأثاث. بقيت لوحة رقم الشقة مرمية على الأرض و منذ شهور، بالتكرار اليومي الممل وإيقاع رتابة أكثر منه مللاً يقضي وليد معظم وقته، ويعدّ على أصابعه احتمالات أيامه الباقية في كأس الحياة.
    موكيت أزرق باهت اللون لقدِمه، أريكة لونها أبيض ، (صوفا بيد) ، مصنوعة من الخشب الرخيص، طاولة طعام صغيرة لا تسع أكثر من كرسيين، في المطبخ رفـّان مستطيلان، المطبخ جزء من الصالة، فضاء لتسعة أمتار بمثابة قبر، على الرفوف بعض علب من الفول والحمـّص، كيس من البصل مفتوح وكيس بطاطس مفتوح أيضاً.
    حبتا بطاطس قرب فوهة الكيس ذبلت عروقهما، علب فارغة من البيرة مرمية بفوضى قرب الأريكة.
    بالنسبة لوليد يكفيه سد رمق، لذا لا تحتوي ثلاجته على أكثر من شرائح جبن وخبز وثلاث تفاحات ذابلات ، اللون والشاي وقليل من سد رمق، هو الزهو بالنسبة إليه، علـّمه السجن على ضمور البطن وعلى التقشف.
    مسجـّل صغير أسود اللون ولقِدمه يخرج الصوت منه شبه مبحوح، كثيراً ما يجلس جلسته المفضلة حيث يضع ساقاً على ساق ويخطط في مخيلته صورة للوحة جديدة. لم يعتد الخروج إلا نادراً، وأغلب الأحيان لشراء أبسط حاجاته.
    يتصل هاتفيا بأصدقائه ويطمئن عليهم، وإذا ألحّوا عليه بالخروج يرضخ لإلحاحهم، ثم يعتذر هاتفياً بعد نصف ساعة.
    لوحاته أكثرها تعبيرية، قدره اختار له الفن، على عكس ما كانت ترغب به أمه، إذ تمنّت له أن يصبح طبيباً يمدّها بالطمأنينة ساعة وقوع المرض، رغم أنه لم يرفض لها طلباً وإن كلـّفه حياته، فإنه كان يطمئنها ويداعب ضفيرتيها :
    ـ ابنك يعالج المرض باللون يا أمي.

    حين لم تفهم قصده راح يسألها ويفسّر لها في الوقت نفسه:
    ـ لدينا طبيب مختص بالقلب، وآخر مختص بالعيون، أليس كذلك يا أم وليد؟.
    ـ إي والله يمّـه ما تقول إلا الصحيح.
    ـ وأنا طبيب ألوان، أعالج مرضاي بالألوان وليس بالدواء.
    ـ الله يسلمك يمّـه من كل شر، أكو صيدلية تبيع الألوان؟ (ثم تبدّل لهجتها ): المهم طبيب وبس، حتى يصيحوا لي أم" الدكتور" وليد.
    ـ وبَسْ يا حلوة وليد.
    ـ وحتى تداوي أهل المحلة، كلهم بعوز يا يمـّه، حتى الموظف ما قادر يأكل خبز، الله يخليك إلهم*

    من بين الجامعات والكليات المتعددة اختار كلية الفنون، وعليه أن يعزم على الرحيل، والسفر إلى بغداد. تفادياً لعوزه باعت أمه قلادة مهرها بثلاثين ديناراً، وهي تعرف أن قيمتها أكثر من ذلك، فلطالما سمعت من عمتها أم زوجها أن مهرها ثمين وثقيل الوزن. وهي تتطلـّع بوجه الصائغ، تفقدت يدها، إذ سبق لها أن باعت أسورتها لعوز، امتلأت أعماقها صرخة وإصراراً، لا حاجة لها بالذهب، الغالي للغالي. أجبرت خاطرها بمحاولة خداع نفسها أنه أقل من ثلاثين ديناراً، من فرط غيرة عمتها منها تتصور أن قلادتها ثمينة.

    ـ منين يا حسرة، قالت للصائغ، ثم استدركت أنها تحادث نفسها.
    لكنه سألها: ما بك يا أختاه؟
    ـ أخي أسألك سؤال.
    ـ إي تفضلي.
    ـ من يشتغل ببيع النفط يقدر يشترى لامرأته قلادة غالية؟
    وضع القلادة في الميزان، ودون أن ينظر إليها ردّ على سؤالها:
    ـ من جاء لنا بالبلاء غير النفط.
    ـ أرجو أن تزّد عليها شوي، والله أحتاج فلوسها.
    رماها في وجهها؛ بطّلت اشترى.
    ـ لا عيوني لا تغضب، ثلاثين، ثلاثين؛ أمري لله.
    خيطت له كيساً من القماش، وضعت فيه الثلاثين ديناراً وعشرين أخرى من أبيه، وتركته يتدلـّى من رقبته. بعد أن عوّذته بالمعوذات، طلبت منه أن يخفي الكيس تحت ملابسه، وأعطته كيساً من البلاستيك فيه متاع للطريق، فقد خبزت له (خفيفيـَّات) في التنـّور ورشّتها بالسمسم والسكّر.
    في شقته المتواضعة لم يبقَ طعم للسكّر، غير ما تركه في بيته في مدينة الناصرية.
    حين استقل القطار كان كل شيء يركض وراءه، ولا تزال تلك الأخيلة تلاحقه. صوت القطار، صفيره، الغبار المتطاير من النوافذ، أصوات بائعي الماء البارد، وبائعات الخبز الساخن، بائعي الشاي والكعك. كل تلك الذكريات تسكن جراحاته وتتولى الدفاع عن يده المبتورة.
    من أجل الكشف عن شلاّل مخيلته الفنية، يدخل الحمام، يستحم ثلاث مرات بالصابون واللـّيفة، كأنه يطهّر جسده مما علق به من وسخ السجن.. لم يستطع أن يتحرّر من حالته هذه، لازمه مرض الوسواس منذ خروجه من السجن.

  7. #17

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    2
    تتزاحم عليه الأفكار وتحاصره، تأخذه إلى ركنها الحميم، الركن الجميل ما بين تعلـّقه" بعلية"، ابنة الجيران وتنظيمه الحزبي، وقت تعرّفه على جسده و همهمة رجولته تخترق نومه ويقظته، يغتسل منها صباحاً وتغويه رغماً عنه، يلوذ بمكان بعيد عن أعين الرائحين والغادين، يأخذ ركناً تحت شجرة توت، ويتعامل مع الذي يخترق دشداشته فاضحاً برطوبته الدافئة احتياجه لأنثى.
    أصول الجيرة وما توارثه من أعراف، وكل القيم والأخلاق تقيّده، فابنة الجيران لا يمكن التحرش بها ولو بالنظر، هي شرف ابن المحلـّة وعليه المحافظة عليه.
    وقت يشعر بحاجته للاغتسال يرمي نفسه في النهر، يتحرّر من ذكورته بمائه وموجاته العذبة. يعرف وقت ذهابها إلى المدرسة، يخرج قبلها، يقف بباب الدار ويعيد الكرة ذاتها عند عودتها. يرتجف شاربه كأنه نبات طري نبت للتو في أرضه، الشعور بتبادل الحب، عار، لذا يجب إخفاؤه ومداراته.
    غير أن أسلوبه بالكشف عن عشقه تلوّن بعدة ألوان، بنظرة من طرف عينيه، وبابتسامة يخفيها بين شفتيه لئلا تفضحه "علية" بشموعها المتراقصة، تختلق الأعذار لتدخل بيتهم، تارة بطبق خبز من تنـّورهم ومن يد والدتها، وتارة أخرى بما احتاجته أمها ساعة الطبخ، كرّاث أو بصل أو ثوم. وجفناها المراهقان يضيئان لها مساحة العمر.. تطلب من أم وليد وعينيها على (السوباط) تقصدان وقفة وليد، تلتقطان من عينيه ما تبحث عنه، تنفذ إليه، إلى الداخل وتبقى عالقة فيه.
    ذات يوم انقطعت عن المدرسة، تهيأ له أنه عارض مرضي أو ألم الأنثى الشهري أعاقها من الذهاب إلى المدرسة. لكن الأيام توالت، لم يستطع مقاومة قلقه بعدها، فطلب من أمه أن تزور جيرانهم، حق الجار على الجار:
    ـ يا يمـّه صار أسبوعين ما زرتِ بيت أم لطيف.
    فتزداد خفقات قلبه، وعندما وجدها متباطئة ومتكاسلة، وجد أنه لا بدّ من إخبارها بحبه. تخابثت وكأنها لم تلحظ ذلك، ثم سارعت لارتداء فوطتها النظيفة بعد أن نزعت القديمة الملطخة بالعجين. وأخذت بيدها ثلاثة أقراص من الخبز المسمسم، لم يمض على خبزها نصف ساعة.
    عادت مسرعة، تعرف أن ابنها على نار، لم تقوَ على محادثته أو التركيز في عينيه، وقت فتح لها باب الدار. تمنّت أن لا يسألها، تشاغلت بإدخال الرغيف إلى داخل الغرفة، ونهرته على أنه تركه ينشف في الهواء، وأبوه يحبه طرياً :
    ـ ما تفكر بأبيك، ما عنده سنون،
    دنا منها وقبّل خدها، أدرك أنّ في الأمر شيئاً، ابتسمت بوجهه، ثم عادت تختبئ بأعذارها وهياجها، تركها كما هي، وذهب الى شجرته المفضلة، شجرة التوت، يشكو لها:
    ـ يا عمتي يا شجرة ما تعرفين شي عن علية، قولي لي وحياة من رفعك عالية وثمَّرك؟
    بقي حتى الليل.. راعه ظلام المكان فأسرع راجعاً إلى داره، حال دخوله وجد أباه جالساً في وسط الحوش، يفترش حصيرة من خوص النخيل، يلف سيجارته، وأمه جالسة إليه تقدم له الشـــاي. لم يسلـّم عليهما كعادته أو يقبّل يد أبيه، سمع أمه تطلب من أبيه أن لا ينهره لعدم لحاقه به للمساعدة ببيع النفط بعد انتهاء دوام المدرسة.
    عبرت الدماء الساخنة غاضبة في عروقه، خرج مسرعاً وجلس في السوباط، دون أن يكلم أحداً، لكنّ أباه اختصر عليه صمته :
    ـ لماذا يا بني لم تخبرني، كان خطبتها إلك أقلها وبعّثت خطـَّاب..
    أضافت الأم : منين يا حسرة، الخطـَّاب ما تريد وعود، ما تريد مهر مقدّم، ما تريد.
    وثب وليد بعد سماع أمه:
    ـ قولي إنها مخطوبة، ها.. قولي لماذا الصمت؟
    ـ إي يمّه خطبها ابن عمها اللي يشتغل بالكويت.
    تحوّل ارتباطه بالحزب إلى عشق جديد يعوّض فيه خسارته الأولى، لم يضجر من أي أمر يأتيه من مدرّس اللغة العربية الأستاذ عبد الأمير، بل راح يتصرف كأمير، وأصبحت البيوت والشوارع والمدرسة مملكة أخرى، لها طعم ولون جديد، ومن أجلها وزّع المناشير في المقاهي في متوسطة البنين ورمى بعضها قرب متوسطة البنات. وراح يعلـّم أباه ويشرح له أن عمله في بيع النفط ليس عيباً ولا نقصاً. ماركس يقول: (العمل هو تعبير الحياة الإنسانية ).
    حالما سمعت أمه بهذا الاسم تقدمت نحوه:
    ـ يمّـه هذا اسمه صعب؟ من أين هو يا يمه لا أعرفه، الم يجد غير هذا الاسم؟
    ـ إي يمّه هذا إمام جديد طالع، لقوا قبره يم الشط.
    ـ إي يا بعد أمك، ما تأخذني إله، يمكن أزوره واطلب منه يطيّب راسي شو الوجع ما يفكني ليل نهار.
    من وقتها تركه أبوه يفعل ما يريد، يتأخر في الليل، يخرج في الظلمة من باب الحوش الخلفي، يأتي فجراً بصحبة ثلاثة أو أربعة يخبئهم في المجلس ويطلب من أمه أن تقدم لهم الطعام والشراب، وفمها مغلق، ويحذّرها ويؤكد سرّية الأمر.
    ذات يوم طفح الكيل بها:
    - ما تشوف صرفة مع ابنك، منين أجيب أوكلكم لو أوكّل ثلاثة آخرين؟. الفلوس اللي تعطيها يومية ما تكفي ، ماذا أفعل؟. دبر أمرك، دخيل مار.. نسيت اسم هذا الإمام الجديد؟
    ـ ماركس.
    ـ إي دخيل مار،،يطيب عيوني ويرزقنا شوي.
    ردّ عليها الأب مؤنباً:
    ـ الرزاق هو الله، وبعدين ابنك راح يصير شي، وباكر يصبح مهم وإله اسم، تسترين، قولي أبو وليد قال.
    وضعت يدها على صدره:
    ـ بمحبتي عندك أبو وليد منين جبت اسم وليد، وأبوك كان يريد تسمّيه خلف، على اسمه؟
    ـ كنت متعدي على مدرسة الأولاد وسمعتهم يقولون خالد بن الوليد؛ فقلت أسمّيه وليد وابنه نسميه خالد، حتى يصير اسمه خالد بن الوليد وتذكره المدارس.. خلـّي قلبك بماء بارد، الولد راح يصيــــــــر مهم. هي ثالث سنة وهو على هذه الحال يسهر للفجر برّه وينجح في المدرسة، بعد ماذا تردين؟؟؟
    ـ قول لا إله إلا الله.
    فردّ عليها بنفس التعويذة، خوفاً من عيونهم .
    -اسمعي يا مرة، ما يحسد المال إلا أصحابه؛ قولي قل أعوذ برب الفلق..
    وهو يضع كيس الخمسين ديناراً في رقبته تلبية لطلب أمه، سمع صوت سيارة تقف قرب بيت الجيران، كما سمع كلمة يمّـه انقطع قلبي على غيابك؛ ترك كل شيء من يده، سقط كيس متاعه أرضاً، عليه مجابهة قلبه الآن.
    فتح الباب، فوجد علية تنزل من سيارة مرسيدس خصوصي سوداء، ثلاثة أولاد صعدوا على واجهة السيارة، وبقية الأطفال يحومون حولها. كانت علية تحمل بيديها طفلة تشبهها تماماً، وعندما جاءت عينه بعينها أطرقت أرضاً، وطلبت من زوجها أن يحمل عنها الطفلة. لكن تلقفتها أم لطيف، وهي تتطلع في وجهها قائلة؛
    - (( ولك يمّـه هاي علية صغيرونه.. والله العظيم هاي علية الثانية)).

  8. #18

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    3
    اختراقات الذاكرة تُقاس بحجم الهاوية وبسنتمترات التيه، بعد أن حفروا بسكاكين الأكل والملاعق في سجن نقرة سلمان، سنة كاملة، عشرة سجناء محكوم عليهم أن يناموا على التراب المحفور ويخالطوا الديدان والصراصير. ثم يعمدون إلى تغطية الفتحة في الصباح، ويسوون التراب، حتى حانت الساعة التي أوصلتهم واحداً تلو الآخر إلى مدخل مزرعة، وتوزّعوا دون هداية أو دراية. فقط توزّعوا، واختبئوا كل على طريقته.
    أما وليد فقد خرج بنصفه المبتور، ويد متعبة من الحفر والتعذيب، وكرامة مهانة كل صباح ومع كل وجبة طعام تُقدم لهم. قصد بيت صديق له، كان بائع ثلج في بغداد، تعرّف عليه في مقهى يرتاده البسطاء، ونظـّمه في الحزب. وهذا بدوره أخذه لصديقة له تعيش مع أمها فقط، وخبأته أسبوعاً في دارها، خططوا فيه طريقة هروبه خارج العراق عن طريق سوريا.
    تكفـّل صديقه بالمصاريف، كما وضع في جيبه عشرين ديناراً، ووعده بأنه سيخبر أهله لاحقاً بمغادرته. تحقق من دقة العنوان، وأكد كلامه ووعده له، بعد أن تهدأ الأمور: اطمئن يا وليد، سأخبر أهلك.
    في طغيان الظل، تبقى النوافذ مشرعة، تتصفح الريح. وصرخة تتراكض لنهاية خربة، بعيداً عن الحكام الذين يصنعون الظلام لشعوبهم.
    ضمن باب النسيان يكون أول دخول السيف حيث اختراق الرئة إلى باب المذبحة، لا عصافير تغرّد على نافذة تُثير الروح لفرحة هادئة، غربان تعدد الأسماء الجديدة، وتضحك علي، موتاها المتحركين. ترافق وليداً في رحلته البرية آخر نظرة من عيون" عليـــة"، وآخر إيقاع لقلب أمه، صــــوت عربة النفط، نهيق الحمار، مغزل جدته، وزاوية من ارتباط مقدس بشجرة التوت، وقليل من كلمات أعلن فيها اعتصامه وانتماءه الحزبي.
    كما رافــقه يقين يد مبتورة، وسنوات دراسية لم يكملها. إذ كان اعتقاله قبل انتهاء السنة الدراسية الأولى بتهمة تنظيم الطلبة وإثارتهم على الشغب وقلب نظام الحكم.
    سنـــة كاملة في سوريا وهو ينتظر قرار قبوله كلاجئ سياسي في بريطانيا، يده المبتورة كانت هويته للعبور، لكن على الطريقة الإنجليزية، يجب أن يقف في الصف ليأتي دوره .(The line - queue).
    حفظ هذه الكلمات، زخرفها على حيطان الدار القديمة التي استأجرها لمدة شهر، وجابه الحياة الجديدة. صبي في مقهى، كل ما أراده الابتعاد عن وليد معذّب، وليد مضطهد في ماضيه وحاضره، والجَلد للروح كي لا يصل ارتجافها لذاته.
    أهو حُـرٌ الآن أم مسجون بوليد لا يعرفه..؟؟ هل يضع قدميه على عتبة هشة؟ هل يخلع نعليه في وقت الدخول؟ هل ينتظر بعثاً جديداً لموته؟
    هل يلعن الموت، و مؤسّسيه أم المنتمين إليه؟
    الكلمات التي حفظها لـ (جلال الدين الرومي) كانت قوته وتجلّده، في السجن وخارجه، سنده كلما ضاقت عليه الجدران واستحكمت؛ (أنت طائر نفسك، وفخّ نفسك، وصدر نفسك، أرض نفسك وسماء نفسك).
    يعود إليها ويختصر المسافات، إذ لا وجود لإنسان حرّ في البلد العربي، أي بلد دون استثناء، تختلط الأشياء بعضها ببعض، لكن كما هي أوامر الحكومات: أنتَ لست إنساناً.
    في لندن غربة من نوع آخر، يلاقيها وليد في وجه الأطفال اللاجئين مع ذويهم، بحثاً عن آدميتهم. الأمسيات تقترب لتألف بعضها،كل شيء، الزحام، المشي المستعجل، بائعات الهوى، العربيات والإنجليزيات، الروسيات والقادمات من أوروبا الشرقية. هزّة صدر لراقصة من (سراييفو)؛ مصادرة للرقص الشرقي، غجريات عراقيات يرقصن في المطاعم الفاخرة، مطربون من الدرجة العاشرة من بقايا أندية عدي؛ وسماسرته، أميرات عربيات، مجلات عربية، راقصات مغربيات، أسماء لا تعلق بالذاكرة، أسماء مألوفة، رجال متزينون بزينة نسائية، روج وملابس نسائية وشعر مستعار، رائحة النارجيلة، سندويشات الشاورما، الهامبرجر الأمريكي، كلها امتحان للصوت، ومفاتيح لعبور الأرصفة.
    كل خطوة يخطوها وليد على الرصيف يقف بعدها متردداً، أ يبادر بالأخرى؟
    بعد تساؤلات يلتقط أنفاسه من صدره ويحادث نفسه: أنت أكثر أمناً من رصيف وطنك، سر.
    مع إحدى الخطوات انتبه لبقالة تبيع ورق اليانصيب بباوند واحد للعمود الواحد. خلع معطفه الأسود الذي اشتراه من سوق الحميدية، وراح يبحث في جيبه الداخلي عن بقايا عطاء الإنسانية الإنجليزية. حين اشترى البطاقة قرأ عليها (لوتري)؛ كان يعرف أنه من المستبعد الفوز بها.
    وقف في الشارع يقرأ بعض الملاحظات المدوّنة في الورقة، واسترجع ذاكرة تذكرة لم تبادر والدته بشرائها له.

  9. #19

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    4
    وقت سفرها بالقطار إلى بغداد قاصدة زيارة (الإمام الكاظم)؛ حين جاء المفتش، انزلق العرق على رقبته، صكت أمه فخذيها وقدميها، وأنزلت عباءتها كي لا يظهر للمفتش رأسه، بعد أن خبّـأته تحت المقعد الخاص بها. ساعتها تصرّف المفتش كما لو كان الخطأ متجاوَزاً من قِبل رجل يدرك العوز، ويدرك أنه بثمن التذكرة اشترت المرأة متاعها ومتاع من اختبأ تحت عباءتها، غضّ طرفه، ومدّ يده للطفل:
    ـ قم يا بني، أنت في أمان لا تخف.
    خرج وليد كدجاجة مخذولة، وعندما اختلطت رائحة العشب برائحة "الصمّون" والحلوى المصنوعة من الراشي، التهم المقسوم بشراهة وكأن شيئاً لم يحدث*
    بعد هطول المطر، انتبه وليد إلى ورقة اليانصيب المبتلـّة، وأكد لنفسه بهزة رأس: ألم أقل يا وليد إن بينك وبين الحظ مسافة.
    وهو في الطريق، بين الحلم والرصيف والتذكرة، شاهد امرأة مسنّةً ترتدي عباءة سوداء، وقفت متوثبة للشتيمة بعد أن سمعته يطلب منها أن يمسك يدها ويقبّلها:
    ـ أبمقدوري أن أقبّـل يدك سيدتي؟
    ألقت عليه نظرة، وقطبت حاجبيها غضباً:
    ـ أما تستحي يا مجنون، أنا بعمر أمك؟
    أجابها: ولأنك هكذا وددت تقبيل يدك.
    تركها تهذي وتسبّ، رغم تدخل شـــاب كان يسير خلفها وقوله لها إنه "لم يقصد شيئاً، وربما رأى فيك شبهاً بأمه.. يا أماه".
    لم يمر القطار بمساحات الروح، ولم يكن المفتش حاضراً وقت نهرته العجوز، ولم يكن سؤاله خطأ؛ أدرك لحظتها أنه اشترى تذكرة غربته. تعانق عرق خجله مع قطرات المطر المتزاحمة، التي بللت معطفه، أخذ يضحك على جسد يرافق روحه ويقول له:
    ـ امش أيها الصنم، ولا تسأل، ألم تتعلـّم من المسطرة التي كسّرت أصابعك في درس التأريخ؟ قال المدرس:
    -لا تسأل عن ما لا يعنيك، أحفظ ما يُطلب منك وامتحن، لتنال درجتك.
    كان يعني له السؤال وقتما سأل مدرّسه: هل سنصبح غداً في التأريخ؟
    ردّ عليه المدرس باقتضاب :
    - نعم.
    لكنه كان لحوحاً، واستمرّ يجادل مدرّسه، فهو في بداية الصبا وعمره ثلاثة عشر عاماً، بداية الفوران في كل شيء. وحيّر مدرّسه، ولم يعرف بماذا يجيبه،
    فقط قال له :
    ـ من الآن وصاعداً اخنق تساؤلاتك ولا داعي أن تطلعني عليها.
    رفع إصبعه ثالثة:
    - أستاذ، ردّك هذا يعني أن التأريخ الذي نتعلمه كاذب، ويحتاج أن نبكي عليه.
    فرح بسؤال المدرّس: ولمَ يا ولدي؟
    لقد نعته بولــــــدي؛ هذا يعني أنه هادئ البال، ولن يزعق به ثانية. في وقفته المسرعة تجاه ما يدور في خاطره من أفكار، علق قميصه في طاولة الدرس، وشُقّ الجيب وتهدّلت خيوطه. لم يخَف من توبيخ أمه القادم، بل وقف وقفة المتحدي:
    ـ أستاذ، قلت قبل قليل نحن سنصبح تأريخاً، لكن أبي والناس في البيوت والحافلات والشوارع، أسمعهم يقولون متذمرين:
    - كل شيء أعوج، كل شيء غلط.. يعني يا أستاذ راح نصير التأريخ الخطأ.. مو؟
    أكل عشــر مساطر ضرباً على أصابعه، وقرص قوي في أذنه.
    عبر صوت العجوز إلى أذنه ثانية، تحسّسها فوجد قرص مدرّسه مازال عالقا عليها. وهو يدخل المفتاح بباب الشقة، شعر بإجابة لحيرته طمأنته أن لا حاجة له بالسؤال، ولا شأن له بموت المؤرخ، والكتب أيضاً ليس لها حاجة أن تعرف عنه شيئاً.
    المؤرخ موثـّق للحقائق، ومزوّر غير موثوق به، كما هي تقنية توزيع الجوائز لكـتّاب عظام أرّخوا مرحلة ما، في أعمالهم أو كتبوا التأريخ بعين الواقع، لكنهم نسوا توثيق الأحاسيس وفكرة اللون.. في غير مرسمه لم يجد لون الفكرة، فأوثق يده اليمنى بما تبقى من يسراه، وراح يستكشف حقيقة ألوانه*
    حين فتح باب الشقة، صادفه رجل نحيل، يميل إلى الطول، أسمر اللون، كثيف الشارب، أسود العينين، لمعة حادة تتوسط اسودادهما، تنمّ عن ذكاء وقدرة في إدراك الأشياء واستيعــــابها. العزلة هي حدود الكرامة، كرر هاتين الكلمتين بعد أن حاول جاهداً تحرير الأسمر الذي صادفه في المرآة من معطف مبلـّل، مدّ يده على شاربه وخاطب أسمره:
    -لم تبق لديك شعرة سوداء.
    تذكر أنه لم يتيسر له ما يسدّ الرمق، فقد ألهته بطاقة اليانصيب عن ذلك. فتح الثلاجة فوجد علبة بيرة وكعكة، راح يغمس الكعكة في البيرة بعد أن صبّها في كوب الشاي الكبير. وجلس على الأريكة، قضم قضمة واحدة، وغاب بعيداً.. حين انتبه وجد أنه يضع كوب البيرة بين فخذيه.
    ضحك ضحكة عالية، واحتسى البيرة كلها دفعة واحدة، ثم رمى نصف الكعكة في منفضة السجائر. استخرج قداحته من جيبه، ودخّن. سحب بكل قوته نفَساً عميقاً وراح يراقب حلقات الدخان الهاربة منه، تنهّد:
    -هه.. إنه مثلك أيها الدخان، بارد مثل البيرة. يدي لم تحرك له ساكناً، لو تدري تلك العجوز أنه مخصي لما شتمتني.
    - ثم ضرب على عجزه:
    - الحزن كبير، كبير يا.. يا ماذا، أنت مجرد لحم متهرئ يبحث عن جواز سفر، ولست من طوابير الإناث كما لست من طوابير الذكور. (ضربه بقوة)؛ أنتَ بحاجة إلى تعمير. لو حصل لجلال الدين الرومي ما حصل لي، لما قال: كن نفسك.
    من خلال تأمله المتواصل بعواطفه وحزنه العميق، فشله وتحويله إلى خنثى عاجزة، يطرح أسئلة تدبر له مخرجاً للوصول إلى لون إيقاع الحياة. اثنتان وخمسون لوحة لم تأت بإيماءة لثوب فاتنة يراها في حلمه، الرسائل المتبادلة بينه وبين صديق له في ألمانيا، كانت الوسيلة الوحيدة لديه لطرد الوحشة عنه، كما هي الزاوية التي يتذكر فيها علاقته مع شوارع سوريا وطعم الخيار الطازج والطماطم الطازجة والخبز الساخن، ضحكه على قصائد عبد الحق، بعد نثر الخيار والطماطم على طاولة متواضعة وانتقاء أصغرها وتقديمها لعبد الحق.
    المحطات البعيدة تقترب، ثم ترجع إلى تجزئة المكان، تثور فيه على نفسها وعلى مَن قاس خطواته بلون الدروب وإغراءات المطارات، إذ تتحول الأقفاص من سجن إلى ثكنة عسكرية ثم إلى ملاجئ لإحالة الجسد إلى التقاعد، والعقل إلى التلصص على حقيقة كانت من نوافذ لا تسمع ولا تفهم معنى أغنية ( نخل السماوة يقول طرّتني سمرة ).
    من ذات النافذة يفسر لقاموسه المتضاحك عليه معنى كلمة طرّ؛ طرَّ طراً كان طريراً، ذا رواء وجمال، لا هذه لا تعنيك يا وليد. يتركها ويلجأ الى تفسير آخر، فالطرير تعني ذا المنظر والرواء، وفي العراق منذ صغره كان يسمع في الشارع كلمة أطرّك طر، أي أقسمك نصفين، كما سمعها مراراً في التلفزيون:
    (( اللي يخالفنا نطرّو طر، هـ..هـ.. مو هإ إي))
    بالتأكيد لم يقصد التلفاز أن يزيننا بغرتنا ويسدل شعرنا على الجبين، فالطـّرة هي زينة المرأة في شعرها المصفـّف على جبهتها، لكن كلمة طرّيته نصفين قديمة، الله كم حاكم يا وليد طرّ أجساد شعبه طراً، وقصّه قصاً؟
    لتعبر الذكريات المطرورة بنصفيها المملوئين بالدم، سخرية حمقاء لا معنى لها. الشيء الوحيد الذي يضحكه بعض الطرف والنكات الوسخة في رسائل عبد الحق إليه، إذ كم تمنى أن يسمعها منه صوتاً لا مكتوبة.. الغربة ليست شرطاً من شروط الإبعاد الإجباري أو الاختياري، الغربة هي شعورك بنفَس يصعد ويهبط في صدرك وهو غريب عليك.. هذه الغربة العمياء والأكبر في طرّها.
    شدّ على يده بأطراف أصابعه، ضغط بقوة كأنه يرسم شيئاً ذا معنى، ضغط أكثر من ذي قبل، استعطف رائحة المكان، صداقته، والتقاءه بعبد الحق في سوريا. استحضر لحظات توديعه في المطار، جرّها جراً إليه، رفّ قلبه إلى عيني صديقه. اكتشف على شفتيه كلمة غريبة، فحّت رائحة حفرة عمياء على ساعده، مرّر أصابعه المرتعشة. هذه المرة استوضح الشكل الذي بين أصابعه، كان كفاً بخمسة أصابع.
    وكأعمى يهتدي إلى شيء رآه لأول مرة، فتح عينيه فوجد أصابعه تتلمس الفراغ.
    استخرج رسالة قديمة من عبد الحق، قرأ اسمه مكتوباً بالإنجليزية (From Abdulhak). آه لو نتخلص من إرث عبوديتنا، لأصبح لدينا الحق لطرح الأسئلة.
    وبقي يحادث نفسه.. كل ما أردته أن أزخرف الأشياء الجميلة وأطرحها على شكل سؤال، أبعِد عنها ما شككت به ومازال يحاصرني شكّه، سألت ما يمكن أن أسأله، وطرحت ما أشك به مستوضحاً.
    نلت بعدها مساطر على كفيّ، وتورّمت أصابعي.
    البراهين؟ لا، لسنا في حاجة لبراهين، في طابور المدرسة؛ قفوا، اصطفوا، أحفظوا، امتحنوا، تعالوا غداً نظيفين سيزورنا مفتش وزارة التربية.
    كل ما أردته من أبي أن يعطيني دينارين لشراء قميص، فقد تعبت أمي من ترقيع قميصي. لم أبادر بسؤاله؛ لماذا؟ وكل ما سمعته:
    -( جيب يا كلب، أنت عارف بالحالة شلون بنت كلب).
    خجل أبوه من نفسه، بعد أن تطلعت إليه والدته مؤنّبة، التجأ إلى حضنها، مسحت دموعه .
    ـ كل ما قصدته أن.. أن
    ـ أسكت يا بني، لا تعذبني أكثر.
    فأكرمها بسكوته، وأكل تأنيب مدرّس الصف له، فالمدرس رغب أن يقدمه كأشطر الطلبة ويتفاخر به أمام المفتش، لكنه قدّم عليه ابن تاجر الغنم، الذي ارتدى قميصاً نظيفاً لم تظهر عليه آثار الترقيع*
    بعيداً عن نافذة الخيال، بعيداً عن عبد الحق، رمى الرسالة أرضاً، أشعل سيجارة، أعد كوب شاي، وراح يتأمل طفولته وألوانه.

  10. #20

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    5
    جلس يستعيد اللوحات التي رسمها الطلبة في كلية الفنون، ناقشه وقتها أحدهم، حين وجده يرسم أشكالاً غير واضحة الملامح، مجرد حُفَر في وجوه، العيون حفر، الأفواه حفر، الأشكال غير مترابطة، مجرد فوضى وهياج.
    سأله:
    -ماذا ترسم؟ أنت تسيء للفن برسومك هذه.
    - أجابه:
    - هذا ليس من شأنك، والنقاش بيننا عقيم، لكل منا طريقته في التعبير عن ذاته.. وأنت ماذا ترسم؟
    -أرسم ابنة العراق السمراء، أنثى غامضة أليفة الجمال، انظر كيف الأنوثة تصفو في عينيها.
    رد عليه وليد:
    - ترسم ابنة العراق، وأنا أرسم العراق كله.
    احتدم النقاش بين الأصدقاء، تدخّلَ أحد الأساتذة الذي خرج على صوت نقاشهم الحاد، تطاول عليه صاحبه ونعته بالشيوعية، ثم وجّه كلامه للأستاذ جلال:
    ـ أستاذ، كل لوحاته صراخ.. إنه يحرّض للثورة.
    نظر إليه وليد كقزم خسيس، متأكداً أن لوحاته ستُباع في الأسواق بثمن بخس وفي متاجر الفن الهابط. وحاول أن يلتمس له المعاذير، قائلاً: تذوّق الفن يحتاج إلى ثقافة عالية وعريضة المساحة.
    من وقتها لم يتدخل وحيد في رسومات رفيقه وليد، كي لا يفضح ثقافته السطحية، إلا يوم قادت الشرطة وليـــــد من الكلية إلى التحقيق مكبّـل اليدين.
    وقف متسائلاً، بعد استئذان الشرطي :
    - ألم تعجبك صورة المرأة التي رسمتها؟
    ردّ وليد بشجاعة:
    - لا (واستمرّ): كل يبحث عمـّا ينقصه، وعمـّا يترجمه من الداخل، أنت بحاجة لما يترجم نقصك الجنسي.
    نهره الشرطي:
    - وأنت أيها الكلب تنقصك الثورة، اسمعوا، هذه إجابة صريحة، إنه يدين نفسه أمامكم ويبرهن على تحريضه ضد الدولة والرئيس والحزب*
    في لندن يحوك عزلته في غربة نفسه، مجموعة لوحات تنتظر من يعرفها أو يستكشف ببياضها، مجاميع من الأماني لا وقت لها الآن ولا محل لها في ركن من الحياة. يتخيلها عارية، حلمة متورّدة لا يجرؤ على الاقتراب منها. يفتح الثلاجة، لم يجد زجاجة بيرة، يمشي متوتراً صوب المرآة:
    -ها أنا أعود لامرأتك يا وحيد.. لمَ لمتك وقتها؟ لمَ وبّختك ؟ لست أدري.
    تساءل وقطـّب حاجبيه:
    -هل كنت أكذب على نفسي وقتها؟
    شعر بحاجة ماسّة للتبوّل، دخل الحمام، ولعب لعبته المعهودة في إغلاق الضوء وفتحه من خيط متدلٍ قرب الباب:
    -ألا يكفي الإنجليز علبهم وأقفاصهم التي يتوهمون أنها بيوتاً؟
    ضرب الخيط كي يتأرجح، سحب السيفون، وترك الضوء منبعثاً:
    -كم أنتم تقليديون.
    ***
    رجع الى جلسته، استحضر أعزّته، كانت أمه تبتسم والمغزل بيدها على آخره. سمع طقطقة صفائح النفط، ابتسامة "علية" الأخيرة، نظرة طفلتها الجميلة. صديقة تعرف عليها أول مجيئه إلى لندن، بعد فترة اكتشف أنها تتجسس عليه، وكانت تعامله كامرأة مثلها، لم تكن تحب الرجال، أسرّت إليه:
    - أنها تعرفت على غانية مغربية تعمل سكرتيرة لدى ثري إنجليزي، بعد أن أغوته وتزوجته، كما ذكرت له علاقتها بامرأة ذات ثراء وزوجها الثري، كلاهما في الإمارات. ولمعرفته الجيدة بالناس وتجاربه الحياتية استنتج من أحاديثها أنها لا تصادق إلا من تجد لديهم ما تحتاجه وتصبو إليه، لا يهم إن كانت غانية سيئة السمعة ، من اجل حاجتها تترك أولادها وتبيت في بيتها ثلاث ليالٍ، المهم كم تستفيد من علاقتها بها. ومن تلك النظرة ذات المصلحة وطـّدت علاقتها بالخليجية، التي بحكم الطيبة المعهودة في بلادها شربت المقلب.
    استحضر من يحب ومن لا يحب، تنفست مسام جلده إثر ابتسامة تلتها ضحكة عالية، إذ طرأت عليه فكرة ذات يوم للتنزّه في شارع (هاي ستريت كنزكتن) استقل الحافلة (72) ثم سار مشياً ممشطاً الشارع ومحلاته وفنادقه ومقاهيه، الشقق الفاخرة، محلات البضائع النسائية والرجالية، مكاتب العقارات. شم رائحة بخور هندي ، استدرجته الرائحة ودخل المحل ذا الطابع الشرقي، الديكور الهندي بألوانه الزاهية بين الأحمر الناري والأزرق الفاتح، بضائع حريرية، ملابس نسائية وحلي، حقائب نسائية يدوية.
    دخل فاتــــحاً منخاريه على آخرهما، لم يقصــــد الشراء أو التجــــوال في الشوارع، بل رغب في رؤية وجوه النساء لعلـّه يجد من يتمنى رسمها. ابتسم له صاحب المحل، ردّ على ابتسامته، لحقه البائع الشاب عارضاً عليه خدماته. شكره، ثم ردّ على سؤال طرحه البائع حول مسقط رأسه :
    I am from Iraq)- )
    ـ ( أوه.. صدام.. You are from Saddam)
    هزّ رأسه مؤكداً :
    - لكن كما لديكم (غاندي)؛ لدينا......(مبتسما)، مع الفارق طبعاً. وبما أن في بلادكم حكمت امرأة مثل (أنديرا غاندى )منذ زمن، نحن جاءنا الفرج، لقد رفعت نزيهة الدليمي ورفيقاتها صوت المرأة عالياً. وطبعاً مع فارق الزمن.
    - اسمح لي ، أظنك فخوراً (بطاغور) ، ونحن فخورون بالسيف الذي تغني به المتنبي. أنتم تعودتم لغة السلام ونحن لغة السيف ، تفننتم بالتجارة والزراعة والعلم والفن وكل ما يحتاجه الإنسان، ونحن قمنا بطمر الإنسان ووسعنا قبره.
    وضع يده على وليد: لا تكن متشائما.
    ـ (أوه .. سوف أفعل. (مستهزئاً).
    ثم خرج مودعاً، كأنه يبحث عن شيء فقده .
    استوقفه محل للوشم.. طوابير الفتيات المراهقات، النساء والرجال. دفعه حب الاستطلاع إلى الدخول،غرفة ذات أربع كنبات حُشرت عليها أجساد الفتيات المنتظرات دورهن، صور معلقة على الحائط بكل الرسومات الصغيرة والكبيرة مستعرضة الأشكال والمواقع الموشومة، على السرّة والأفخاذ والأوراك والأثداء.
    شاهد صورة امرأة وصورة صليب موشوم على عورتها، بينما صورتان لرجلين أحدهما جالس على ركبتيه الموشومتين والرسومات تملأ فخذية وعلى مؤخرته، بينما وقف الثاني منتصب القامة كأن منظره الموشوم يقول ها أنا ذا برجولتي المزخرفة.
    مدّ يده إلى بنطلونه يتحسس شيئاً فقده منذ زمن، وفكر؛ ماذا لو حجزت لي موعداً مع الوشّام، ربما نغز الإبر يوقظ المقتول بين فخذي، هزّ يده مستنكراً، وخرج*
    شعر بحرارة الكرسي تحته، كان الوقت يُغرقه بالذكريات، وكانت الساعات الثلاث التي قضاها على جلسة واحدة قد تركت النمنمة والخدر يدبّان في قدميه حتى لم يعد قادراً على تحريكهما. فركهما بيده، شعر بوخز قوي في رجله اليمنى، فركها أكثر، دعك ساقه وقدمه، اعترف بالخطأ الجسيم أمامها:
    - ((من حقك أن تخدري، أكو مجنون يجلس ثلاث ساعات مرة واحدة؟ أي وين كنت يا ابن الكلب أكو واحد يسوّي عملتك هذه؟ إي ما جعت؟ ما عطشت؟
    - أدري بأنك كنت ترسم صورة في خيالك، تستحضر كل الوجوه في (هاي ستريت كنزكتن)، تتفحصها وجهاً وجهاً، ثم ما الذي استفدت من اجترار أشعار عبد الحق؟
    حتى التليفون كان مصـــراً على الصمــت، كان متواطئاً مع ساعاته. نهض متعباً، لم يكن راغباً بفتح التلفاز، ولم يستحضر امرأة بباله. وقف أمام المرآة في مدخل الشقة، تفحص عينيه المحمرّتين، ثم أشار بإصبعه: نعم، مازلت تشبه وليداً الذي عرفته. وليد بائع النفط، وليد الرسام، وليد الذي لم يساوم.. انتبه فجأة.. ووليد النصف، وتريد أن تهواك امرأة؟
    - النساء تحب الرجل الكامل، المرأة أيها النصف تحب أن يمسكها الرجلبيديه، يطبقهما ويتفحص الجسد، يتنقل من نقطة إلى نقطة،يرتجف عشقا ورغبة فأين يداك؟
    ثم أنت فاقد لحاسة الشم، تشم ماذا؟ ها. كيف تتغزل بعطرها؟ وعضوك المخذول ماذا تفعل به؟ هل تتذكر أول ( قحبة) جئت بها من (البيكاديللي) إلى هنا؟
    هل نسيت ما قالته إليك؟ أنا أذكّرك، قالت لك: لا جيب ولا رجولة أحضرتني هنا لتمصّ ثديي، طيّب هات نصف أجرة إذاً؛ ودفعت لها أجرة كاملة لتغطى عيبك.
    ماذا لو كانت "علية" الآن أمامك، وأنت لا جيوب ممتلئة ولا سيارة فارهة ولا رجولة؟ مجرد زبالة تتصورها وليداً، (تفو عليك..)
    بصق وراح يتابع بصاقه كيف تنزلق على سطح المرآة، حتى وصلت إلى النصف؛ نعم:
    -استقرّي هنا. (وينك يا علاّوي تشوف صاحبك، حتى التفلة عرفت وين تستقر)

صفحة 2 من 5 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. ثلاثة هن راجعات إلى اهلها
    بواسطة راما في المنتدى فرسان التفاسير
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-09-2012, 06:18 AM
  2. السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 2-3
    بواسطة وفاء عبدالرزاق في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 09-05-2010, 05:36 PM
  3. امسيات ادبية للاديبة وفاء عبدالرزاق في مصر
    بواسطة يسري راغب شراب في المنتدى فرسان الأدبي العام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 08-10-2010, 08:53 PM
  4. قراءة في مجموعة وفاء عبدالرزاق الجديده / نقط
    بواسطة يسري راغب شراب في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 03-01-2010, 08:06 PM
  5. نرحب بالاديبة/وفاء عبدالرزاق
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-07-2009, 07:17 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •