2
تتزاحم عليه الأفكار وتحاصره، تأخذه إلى ركنها الحميم، الركن الجميل ما بين تعلـّقه" بعلية"، ابنة الجيران وتنظيمه الحزبي، وقت تعرّفه على جسده و همهمة رجولته تخترق نومه ويقظته، يغتسل منها صباحاً وتغويه رغماً عنه، يلوذ بمكان بعيد عن أعين الرائحين والغادين، يأخذ ركناً تحت شجرة توت، ويتعامل مع الذي يخترق دشداشته فاضحاً برطوبته الدافئة احتياجه لأنثى.
أصول الجيرة وما توارثه من أعراف، وكل القيم والأخلاق تقيّده، فابنة الجيران لا يمكن التحرش بها ولو بالنظر، هي شرف ابن المحلـّة وعليه المحافظة عليه.
وقت يشعر بحاجته للاغتسال يرمي نفسه في النهر، يتحرّر من ذكورته بمائه وموجاته العذبة. يعرف وقت ذهابها إلى المدرسة، يخرج قبلها، يقف بباب الدار ويعيد الكرة ذاتها عند عودتها. يرتجف شاربه كأنه نبات طري نبت للتو في أرضه، الشعور بتبادل الحب، عار، لذا يجب إخفاؤه ومداراته.
غير أن أسلوبه بالكشف عن عشقه تلوّن بعدة ألوان، بنظرة من طرف عينيه، وبابتسامة يخفيها بين شفتيه لئلا تفضحه "علية" بشموعها المتراقصة، تختلق الأعذار لتدخل بيتهم، تارة بطبق خبز من تنـّورهم ومن يد والدتها، وتارة أخرى بما احتاجته أمها ساعة الطبخ، كرّاث أو بصل أو ثوم. وجفناها المراهقان يضيئان لها مساحة العمر.. تطلب من أم وليد وعينيها على (السوباط) تقصدان وقفة وليد، تلتقطان من عينيه ما تبحث عنه، تنفذ إليه، إلى الداخل وتبقى عالقة فيه.
ذات يوم انقطعت عن المدرسة، تهيأ له أنه عارض مرضي أو ألم الأنثى الشهري أعاقها من الذهاب إلى المدرسة. لكن الأيام توالت، لم يستطع مقاومة قلقه بعدها، فطلب من أمه أن تزور جيرانهم، حق الجار على الجار:
ـ يا يمـّه صار أسبوعين ما زرتِ بيت أم لطيف.
فتزداد خفقات قلبه، وعندما وجدها متباطئة ومتكاسلة، وجد أنه لا بدّ من إخبارها بحبه. تخابثت وكأنها لم تلحظ ذلك، ثم سارعت لارتداء فوطتها النظيفة بعد أن نزعت القديمة الملطخة بالعجين. وأخذت بيدها ثلاثة أقراص من الخبز المسمسم، لم يمض على خبزها نصف ساعة.
عادت مسرعة، تعرف أن ابنها على نار، لم تقوَ على محادثته أو التركيز في عينيه، وقت فتح لها باب الدار. تمنّت أن لا يسألها، تشاغلت بإدخال الرغيف إلى داخل الغرفة، ونهرته على أنه تركه ينشف في الهواء، وأبوه يحبه طرياً :
ـ ما تفكر بأبيك، ما عنده سنون،
دنا منها وقبّل خدها، أدرك أنّ في الأمر شيئاً، ابتسمت بوجهه، ثم عادت تختبئ بأعذارها وهياجها، تركها كما هي، وذهب الى شجرته المفضلة، شجرة التوت، يشكو لها:
ـ يا عمتي يا شجرة ما تعرفين شي عن علية، قولي لي وحياة من رفعك عالية وثمَّرك؟
بقي حتى الليل.. راعه ظلام المكان فأسرع راجعاً إلى داره، حال دخوله وجد أباه جالساً في وسط الحوش، يفترش حصيرة من خوص النخيل، يلف سيجارته، وأمه جالسة إليه تقدم له الشـــاي. لم يسلـّم عليهما كعادته أو يقبّل يد أبيه، سمع أمه تطلب من أبيه أن لا ينهره لعدم لحاقه به للمساعدة ببيع النفط بعد انتهاء دوام المدرسة.
عبرت الدماء الساخنة غاضبة في عروقه، خرج مسرعاً وجلس في السوباط، دون أن يكلم أحداً، لكنّ أباه اختصر عليه صمته :
ـ لماذا يا بني لم تخبرني، كان خطبتها إلك أقلها وبعّثت خطـَّاب..
أضافت الأم : منين يا حسرة، الخطـَّاب ما تريد وعود، ما تريد مهر مقدّم، ما تريد.
وثب وليد بعد سماع أمه:
ـ قولي إنها مخطوبة، ها.. قولي لماذا الصمت؟
ـ إي يمّه خطبها ابن عمها اللي يشتغل بالكويت.
تحوّل ارتباطه بالحزب إلى عشق جديد يعوّض فيه خسارته الأولى، لم يضجر من أي أمر يأتيه من مدرّس اللغة العربية الأستاذ عبد الأمير، بل راح يتصرف كأمير، وأصبحت البيوت والشوارع والمدرسة مملكة أخرى، لها طعم ولون جديد، ومن أجلها وزّع المناشير في المقاهي في متوسطة البنين ورمى بعضها قرب متوسطة البنات. وراح يعلـّم أباه ويشرح له أن عمله في بيع النفط ليس عيباً ولا نقصاً. ماركس يقول: (العمل هو تعبير الحياة الإنسانية ).
حالما سمعت أمه بهذا الاسم تقدمت نحوه:
ـ يمّـه هذا اسمه صعب؟ من أين هو يا يمه لا أعرفه، الم يجد غير هذا الاسم؟
ـ إي يمّه هذا إمام جديد طالع، لقوا قبره يم الشط.
ـ إي يا بعد أمك، ما تأخذني إله، يمكن أزوره واطلب منه يطيّب راسي شو الوجع ما يفكني ليل نهار.
من وقتها تركه أبوه يفعل ما يريد، يتأخر في الليل، يخرج في الظلمة من باب الحوش الخلفي، يأتي فجراً بصحبة ثلاثة أو أربعة يخبئهم في المجلس ويطلب من أمه أن تقدم لهم الطعام والشراب، وفمها مغلق، ويحذّرها ويؤكد سرّية الأمر.
ذات يوم طفح الكيل بها:
- ما تشوف صرفة مع ابنك، منين أجيب أوكلكم لو أوكّل ثلاثة آخرين؟. الفلوس اللي تعطيها يومية ما تكفي ، ماذا أفعل؟. دبر أمرك، دخيل مار.. نسيت اسم هذا الإمام الجديد؟
ـ ماركس.
ـ إي دخيل مار،،يطيب عيوني ويرزقنا شوي.
ردّ عليها الأب مؤنباً:
ـ الرزاق هو الله، وبعدين ابنك راح يصير شي، وباكر يصبح مهم وإله اسم، تسترين، قولي أبو وليد قال.
وضعت يدها على صدره:
ـ بمحبتي عندك أبو وليد منين جبت اسم وليد، وأبوك كان يريد تسمّيه خلف، على اسمه؟
ـ كنت متعدي على مدرسة الأولاد وسمعتهم يقولون خالد بن الوليد؛ فقلت أسمّيه وليد وابنه نسميه خالد، حتى يصير اسمه خالد بن الوليد وتذكره المدارس.. خلـّي قلبك بماء بارد، الولد راح يصيــــــــر مهم. هي ثالث سنة وهو على هذه الحال يسهر للفجر برّه وينجح في المدرسة، بعد ماذا تردين؟؟؟
ـ قول لا إله إلا الله.
فردّ عليها بنفس التعويذة، خوفاً من عيونهم .
-اسمعي يا مرة، ما يحسد المال إلا أصحابه؛ قولي قل أعوذ برب الفلق..
وهو يضع كيس الخمسين ديناراً في رقبته تلبية لطلب أمه، سمع صوت سيارة تقف قرب بيت الجيران، كما سمع كلمة يمّـه انقطع قلبي على غيابك؛ ترك كل شيء من يده، سقط كيس متاعه أرضاً، عليه مجابهة قلبه الآن.
فتح الباب، فوجد علية تنزل من سيارة مرسيدس خصوصي سوداء، ثلاثة أولاد صعدوا على واجهة السيارة، وبقية الأطفال يحومون حولها. كانت علية تحمل بيديها طفلة تشبهها تماماً، وعندما جاءت عينه بعينها أطرقت أرضاً، وطلبت من زوجها أن يحمل عنها الطفلة. لكن تلقفتها أم لطيف، وهي تتطلع في وجهها قائلة؛
- (( ولك يمّـه هاي علية صغيرونه.. والله العظيم هاي علية الثانية)).