(تابع)
و في قصيدته "نعم الرحيل" التي كتبها في رثاء الشهيد "فلاح" يرفضُ الشاعر أن يحسبُ بقصيدته راثياً لهذا الشيخ ، و إنما يؤكد أنه جاءَ يُزجي الفخر للأجيال التي مشتْ في جنازته ، وخصوصاً أولئك الأبرار ، مماّ يؤكد مكانة الشيخ فَلاَح ، و غرس سبب هذه المكانة في نفوس وقلوب الأجيال ، و يُبيّنُ شاعرنا "حمّادي" أن المكانة الحقيقية لذوي الأخلاق ، وذلك بتكرار عبارة "ياطيب الأخلاق" في القصيدة ... يقول:-
ما جئتُ في شعري لبابك راثياً
بل جئتُ أُزجي الفخر للأبرار
و في المديح كذلك يُحافظ "محمود فرحان حمادي" على العلاقة بين الممدوح و الرسالة المَرْجوَّة من كتابة القصيد ..
يقول في قصيدة "أبكار المعاني" ، والمُهداة إلى درويش البغدادي :-
إليك تحيّةً من قلب صبٍّ
تُضاهي أعينَ الغيدِ الحسانِ
إليك خريدةً عصماءَ جاءت
مضمّخةً بأثواب الحنانِ
لستار الأنامِ عرفتُ عبدًا
يُشارُ إليه دومًا بالبنانِ
وفي نظم القريضِ تراه شيخًا
جليلاً ما له في الشعر ثانِ
يُعطّرُ مسمعَ الدنيا بشعرٍ
له سجد (المعرّي)و(ابن هاني)
يصوغُ الشعرَ في نسقٍ فريدٍ
لنا يحلو كحبّات الجُمانِ
و لأن درويش البغدادي كان شاعراً ، فقد أتقن شاعرنا "محمود حمادي" في اختيار الألفاظ ، واستدعى من رموز الشعر أبا العلاء المعري و ابن هانئ ، و إنْ كان يبدو التعبير غير سليم في قوله "له سجد المعرّي وابن هاني" لأن السجود لايكون لشعرٍ أولشاعرٍ مهما كانت الجودة ، و إنما فكّ هذه الإشكالية يكمنُ في أن المعري وابن هاني عندما سمعا شعر البغدادي سجدا لله خشوعاً لأنهم وجدوا مَنْ هو أعرفُ منهما بقدْر الشعر الذي وهبه الله إياه .. ، و على غرار قصةِ موسى عندما سجد السّحرة أمامه ، فلقد كان سجودهم خشوعاً لله لأنهم عرفوا أن ما أتى به موسى هو من عند الله ، و كذلك فلقد بيّن الله عز وجل لموسى أنه هناك مَنْ هو أعرفُ منه بأمورٍ لايعرفها موسى ، وقد كان الأمر لموسى بمصاحبة هذا الرجل الصالح "الخضر"

(3) محاربة الجهل و امتداد الصراع بين الميليشيات
تؤكد مجموعة "حروف الجب" للشاعر محمود فرحان حمادي على محاربة الجهل الذي يساعد الاحتلال ، و يجعل من أرض العراق تربة خصبة للصراع بين الميليشيات التي جاءت مع الاحتلال ، و منها من تدرّب في الدول المجاورة لتنفيذ أجندات خارجية فوضوية ، و من الجهلِ التي تُحاربه "حروف الجبّ" هو هذا الخلط بين المقاومة العراقية ، و عمليات التفجيرات المتكالبة على العراق .. ،
و هنا تثارُ عدة أسئلة لتفسير أسباب امتداد الصراع ..
- هل المقاومة العراقية تقتل مواطناً عراقياً؟ لا يكون ذلك إلاّ من قبل الميليشيات التي جاءات على دبابات الاحتلال ، و هل القنابل اللاصقة و الأسلحة الكاتمة للصوت التي تمّ تحريزها في مواقع التفجيرات صُنعت في العراق؟ لقد أكد الأمن العراقي أنها كان مكتوباً عليها باللغة الإيرانية .. ، و هل انتهى الاحتلال الأمريكي؟ من المؤكد أن دولة العراق مازالت تخضع للسيطرة الأمريكية ، وبحكم خضوعها للبند السابع .. ، و هل للموساد الإسرائيلي دورٌ في امتداد الصراع ونشر الفوضى؟ تشهدُ بذلك عمليات السرقات للآثار العراقية بمجرد دخول القوات الأمريكية واحتلالها للعراق ، وكذلك تشهد الاحتفاليات التي مازال الموساد يقيمها تحت حماية الطائرات ، وبحضور رجال الأعمال الإسرائيليين ، و هل من المعقول أن تقبل إسرائيل أن تعود العراق إلى ماكانت عليه كقوة استراتيجية عربية في المنطقة؟ وهل أي اتفاقيات تعقدها حكومات العراق يُمكن الاعتماد علي مصداقيتها وهي في ظل الاحتلال والضعف؟ و متى ينتهي الاحتلال؟ و هل تأكّد للجميع أن أمريكا مُحتلة للعراق كما أشارت الأمم المتحدة ، وليست مُحرّرة للعراق كما تتضمن كتب التعليم الحالية؟
و أخيراً .. لماذا يتم القبض على المواطن من محافظات شمال العراق ويُطلق عليه "الإرهابي" ، و من يتم القبض عليه من الجنوب العراقي يُطلق عليه "المطلوب"؟
كلّها أسئلةٌ دارتْ بذاكرتي ، و أنا كنتُ أتصفح هذه المجموعة الشعرية ، و توقّفتُ كثيراً عند قول الشاعر "محمود فرحان حمادي" في قصيدة "المعاني الحسان جياع":-
سادةُ الحرفِ في المنافي عبيدٌ
والبهاليلُ في الحداء رعاعُ

و قوله :
غارقٌ في الصراعِ بيتُ قصيدي
ليت شعري متى يكفُّ الصراع
و تقريريته الشعرية:-
و أفقنا على انتشار الصباحِ
بجراحٍ قدْ ضُمّدت بجراح
و استفهامه التعجبي في:-
كيف يحلو بمربع الذلّ عيشٌ
لكبيرٍ يبغي النفوس كبيرا؟
و حتى الحكمة التي لفّها الشعر في :-
قُلّبٌ أوجه الحياة ، فَوَجهٌ
يتحدّى ، وأوجهٌ كالحيارى
و يمتدُّ بثّ الحال لأصدقائه حتى في قصيد الرثاء التي يُهديها إلى الشهداء
يقول في قصيدة "شهيد العلم" التي يهديها إلى الشيخ الدكتور عبدالجليل الفهداوي مُحارباً الجهل:-
إذا ما سالت الوديان غيثاً
فمناّ الغدرُ عن جهلٍ يُسالُ
و يبدو أن الحزن هنا أثّر على موسيقى الشطر الثاني من البيت الذي يقول فيه :-
فلاسيف لسعد في حمانا
ولا الأذان يرفعه بلالُ
(4) الاعتزاز بالوطن و الشعر و ضمير القلم
يعتزّ الشاعر "محمود فرحان حماّدي" بأنه مواطنٌ عراقيّ ، كما يعتزّ بعروبته و شعره ، و يجعل من حرفه سلاحاً حراًّ ، و إعلاماً نقياًّ .. يقول واصفاً بغداد ودجلة والفرات في قصيدة "وهو حرفي" :-
ذاك حصني إذا عدتني خطوبٌ
سامقٌ مالنا سواهُ بديل
فيه بغداد معلمٌ لقلوبٍ
عنْ هداها مر المدى لا تميل
قلعةٌ شيد إرثها باتئادٍ
فهضابٌ مبسوطةٌ وسهولُ
وجبالٌ بتيهها شامخاتٌ
كلّ صقعٍ من حولهن ضئيل
ويستمرُّ في الوصف حتى يصل إلى روعة التشبيه في قوله :
بلدةٌ يعشقُ الخلودُ مُناها
فحفيفي في وجنتيها طويل
و يا للشموخ في قوله:-
غيمة الحير إن تخطت رباها
فلها البدر عائدٌ والجميل
و يقول في قصيدة "توسّدوا الحرف" :-
أصالةُ الحرف يبقى سرُّها غرداً
بما يسطره في زهوه القلم
و حتى يقول:-
يظلّ جذلان في ترنيمه قلمٌ
تحلو بألوانه الأشواقُ و الحكم
و يُبيّنُ هنا الشاعر محمود حمادي أن للإبداع أصالةً لاينالها إلاّ مَنْ وهبهم الله هذا الإبداع ، وليس واقع المتسلقين واللصوص إلاّ كزيف اغتصاب الحقوق ، والرفعة جمراً- على أكتاف المبدعين الحقيقيين
و شاعرنا يصف حال مرضى القلوب و فاقدي الضمير الذين انتشروا ، وخصوصاً بعد النشر الألكتروني ليسرقوا إبداعات الآخرين ، وينسبونها –زوراً- لأنفسهم و العياذ بالله ..
إنها رسالة الإبداع في مواجهة هذه الظواهر القبيحة ، وتعرية كل مَنْ تُسوّل له نفسه لمصّ دماء الإبداعات التي خرجت من شرايين المبدعين ، و هنا يُعلنُ الشاعر عن ضمير القلم ، و يرفع شعار "الكلمة أمانة و الموهبة رسالة"
و إذا كانت كل القضايا الناجحة دوماً تبدأ بعدد من العقبات ، وكل جديد مُحارب حتى يُصبح قديماً ، وفي الآونة الأخيرة اتخذتْ العقبات أسلوباً غير إنساني أو ديني ، وهو سرقات مجهودات الآخرين أو محاولة تشويهها حتى وصل الأمر إلى الموهبة ..!! ولكن بالإخلاص لهذه الموهبة يكون النجاح ، و بالاعتزاز بالشعر في ضوء الضمير يكون للقلم مكانته التي كرّمه الله بها في القرآن الكريم

(يتبع)